نهج الصين تجاه الأزمة في غزة.. ردود الفعل والاعتبارات

https://rasanah-iiis.org/?p=33359

في خِضَم الصراع المتصاعد في غزة، أبدت القوى العالمية ردودَ فعلٍ حذِرةً، عكست سعيها إلى الموازنة بين مصالحها الإقليمية والضغوط الدولية من أجل معالجة هذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة. ولا يزال ردّ فعل الصين يكتسي أهمِّية خاصّة، وذلك بسبب تفاعلات بكين الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية المتزايدة مع المنطقة. وفي كل مواجهة تقريبًا بين حماس وإسرائيل حافظت الصين على نهجٍ ثابت من خلال حثّ جميع الأطراف على التحلِّي بضبط النفس، والتشديد على أهمِّية حل الدولتين، والإعراب عن التزام دعم محادثات السلام. وسعت بكين بهذا النهج للحفاظ على التوازن ما بين علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل، وطموحها في أن يُنظَر إليها على أنَّها مدافِعة عن حقوق الفلسطينيين على الساحة العالمية، بينما تعزِّز علاقاتها مع العالم العربي.

يرجع موقف الصين التقليدي تجاه القضية الإسرائيلية-الفلسطينية إلى دعم لفلسطين، بما يعكس استمرار سياسة نظام بكين منذ عهد ماو تسي تونغ. ودعت بكين إلى وقْف إطلاق النار، وأدانت العنف ضدّ المدنيين، وصبَّت تركيزها على المظالم التي يعاني منها الفلسطينيون. ومع ذلك، لا يسير الموقف الصيني بالتعاطف التاريخي أو المواقف الأيديولوجية. فعلى النقيض، وسَّعت الصين في العقود الأخيرة نطاق علاقاتها مع إسرائيل، لتصبح شريكًا اقتصاديًّا مُهمًّا، لا سيّما في قطاعات التقنية المتقدِّمة. وتُعَدُّ الصين ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل، وارتفع حجم التجارة بين البلدين إلى 24.45 مليار دولار. وتتجنَّب الصين، التي تُوصَف بأنَّها «حيادية مُناصِرة للفلسطينيين»، إلقاء اللوم المباشر على أيٍّ من الطرفين، الأمر الذي يتيح لها مرونة التعامل مع الموقف. ويتأثَّر النهج الدبلوماسي الصيني تأثُّرًا كبيرًا بمصالحها الاقتصادية في الشرق الأوسط، خصوصًا مع القُوى الإقليمية، مثل المملكة العربية السعودية. وبنهج إستراتيجي، زادت الصين  استثماراتها الاقتصادية في العالم العربي، وفي خِضَم الصراع بين حماس وإسرائيل، تسعى بكين إلى حماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة.

ترى الصين في تنامي موجة المشاعر المعادية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إزاء الوضع في غزة، فرصة سانحة لقلب هذه الموجة لصالحها، إذ تسعى الصين للاستفادة من هذه التنديدات ضدّ الغرب، لتعزيز نفوذها في المنطقة. ويتماشى هذا الأمر مع إستراتيجية بكين الأوسع نطاقًا، المتمثِّلة في إبراز نفسها قوَّة عالمية بديلة، ويتّضِح ذلك من خلال الجهود الدبلوماسية، التي بذلتها بكين مؤخَّرًا في الشرق الأوسط، بما في ذلك الوساطة في اتفاق التقارب السعودي-الإيراني.

تتبنَّى الصين نهجًا يتّسِم بالحذر، من خلال زيادة نفوذها الدبلوماسي في الصراع بين حماس وإسرائيل، دون المشاركة المباشرة في أعمال عسكرية. وفي الوقت الذي تُعرِب فيه الصين عن التزامها السلام، فإنَّها تمتنع عن التدخُّل العسكري المباشر، وتحثّ على إيجاد حلول دبلوماسية. ويعكس هذا الأمر سياسة الصين التقليدية المتمثِّلة في عدم التدخُّل في شؤون الدول الأخرى، وهو ما أكدته في وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية، كما تُشير التحوُّلات الأخيرة في ردود فعل الصين إلى تنامي التوافق مع دول جنوب العالم في الصراع بين حماس وإسرائيل.

يُسهِم تضامُن الصين مع الفلسطينيين في وضعها بمكانة هامّة من أجل تعزيز دورها في المفاوضات الدولية، وقد أعربت السُّلطات الصينية باستمرار عن هدفها المتمثِّل في إحلال السلام بالمنطقة. ومع ذلك، لم تتمكَّن بكين من تقديم خطَّة مفصَّلة تُحدِّد فيها الخطوات نحو تحقيق هذا الهدف. ويسلِّط ردّ فعل الصين الضوء على جهود بكين من أجل ترسيخ مكانتها لاعبًا رئيسيًّا في صياغة رواية حول الصراع ونتائجه.

خلال مكالمة مع وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، في 15 أكتوبر، أدان وزير الخارجية الصيني وانغ يي بشدَّة الممارسات الإسرائيلية في غزة، ووصفها بأنَّها «تتجاوز إلى حدٍّ بعيد نطاق الدفاع عن النفس»، وترقى إلى مستوى العقاب الجماعي. كما انتقدت بكين التصويت الأمريكي لصالح إسرائيل في الأُمم المتحدة، وأعربت إسرائيل عن استيائها الشديد لعدم إدانة الصين هجمات حماس. وفي التصعيد الأخير على غزة، انتقدت الصين إسرائيل انتقادًا مباشرًا، وكرَّرت بكين إدانتها الدعم الأمريكي لإسرائيل في الأُمم المتحدة، وتواصل وسائل الإعلام الحكومية الصينية تكثيف الانتقادات ضد الولايات المتحدة.

بصفتها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي، تستخدم الصين قوّتها للتأثير في القرارات المتعلِّقة بالصراع بين حماس وإسرائيل. ويؤكد استخدام حقّ النقض في الأُمم المتحدة عزم الصين على تأكيد مواقفها التي في أغلبها تتعارض مع الولايات المتحدة، الأمر الذي يعكس استعداد بكين لتحدِّي النفوذ الغربي على الساحة العالمية.

قال سفير الصين لدى الأُمم المتحدة تشانغ جون، إنَّ الولايات المتحدة قدَّمت مشروع قرار جديدًا في مجلس الأمن الدولي، بعيدًا كل البُعد عن التوافق، ويحتوي على عناصر تُفرِّق ولا تجمع. وأشار أيضًا إلى أنَّه على الرغم من التعديلات المُقترَحة من جانب عديد من الدول الأعضاء في الأُمم المتحدة، بما في ذلك الصين وروسيا والإمارات العربية المتحدة والبرازيل، أُجرِيَ بعض التغييرات الطفيفة، ثمّ هرعت الولايات المتحدة إلى التصويت. كما حثَّت الصين والإمارات مجلس الأمن الدولي على تبنِّي قرار بشأن فلسطين «قابل للتنفيذ». صوَّتت الصين، بصفتها أحد المشاركين في تقديم مشروع القرار لصالح قرار قدَّمه الأردن بالنيابة عن 22 دولة عربية، وحثَّ على هُدنة إنسانية فورية، والامتثال للقانون الدولي، ومعارضة التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين، وإعادة تأكيد حلّ الدولتين، الذي صوَّتت الولايات المتحدة ضدّه لعدم ذكر حماس.

مع تصاعُد وتيرة الصراع، تحثّ الصين على وقْف إطلاق النار، وتُدين الهجمات على المدنيين، وتدعم تدخُّل الأُمم المتحدة. وجدير بالذكر أنَّ الصين تنتقد ممارسات إسرائيلية محدَّدة، مُعرِبةً عن قلقها إزاء الخسائر في صفوف المدنيين، والوضع الإنساني المتردِّي.

يُعَدُّ نهج الصين إزاء الحرب في غزة موازنةً دقيقة بين الدعم التاريخي للقضية الفلسطينية، وحماية مصالحها الإقليمية، والمواءمة مع دول جنوب العالم، والموقع الإستراتيجي في النظام العالمي الناشئ.

كما يعكس موقف الصين من الحرب في غزة سياستها المتوازنة، بمعنى أنَّها تحافظ على دعمها طويل الأمد للقضية الفلسطينية، مع حماية مصالحها الإقليمية وموقعها الإستراتيجي في النظام العالمي الناشئ.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير