بذل هاشمي رفسنجاني حتى نهاية عهده (1989-1997) جهودًا متنوعة ليطرح قضية أن الخميني لم يمنع التفاوض مع أمريكا، بل اعتبره جائزًا في ظروف معيَّنة، ليُحدِث من خلال ذلك تغييرًا في علاقات إيران الدولية، وتقدّمت فكرة رفسنجاني هذه خطوة للأمام لكنها تراجعت خطوتين، وفي النهاية لم تصل إلى نتيجة.
مع بداية عهد محمد خاتمي (صيف 1997) كان أغلب السفارات الأوروبية في إيران شبه معطَّل، أو كانت تعمل في أدنى مستوى تمثيل دبلوماسي، وكانت إجراءات خاتمي ناجعة على مستويين، فمن جهة طرح فكرة حوار الحضارات، ومن جهة أخرى أدَّت الإجراءات الحذرة لكمال خرازي الذي كان مندوبًا لإيران في الأمم المتحدة في السابق، وعُيّن وزيرًا للخارجية في يوليو 1997، إلى عودة سفراء أوروبا إلى طهران، وبتشكيل مؤسسات المجتمع المدني تَحقَّق في الداخل نموذج الحكم الذي كانت الأمم المتحدة ترغب فيه، كما حدثت إجراءات لتمكين النساء، وهو ما أثّر على صورة إيران في الخارج.
في نفس الوقت كان واضحًا أن الفقهاء، وعلى رأسهم خامنئي وإلى جانبه العسكريون، لا يرحبون بسياسة إزالة التوتر وحوار الحضارات، على العكس من رأي الناس الذين انتخبوا خاتمي، فقد كانوا قلقين من أن يؤدي انفتاح الفضاء السياسي في الداخل إلى ارتفاع سقف مطالب الناس، أو أن تُغَلّ أيديهم على الصعيد الدولي والمعاملات المُربحة التي يُجرُونها تحت عنوان «دعم الانتفاضات»، والتغييرات في كلا المجالين بإمكانها إحداث آثار مخربة بالنسبة إلى وجود النظام، وإخراج الأمور عن سيطرة رجال الدين والحرس الثوري.
على الرغم من مشاعر الانحياز للجانب الأمريكي التي أبداها عامة الشعب في إيران، فإن وصمة «محور الشرّ» التي تلت التغييرات في سياسات البيت الأبيض ووصول جورج بوش الابن وأحداث 11 سبتمبر، جعلت سياسات خاتمي تواجه تحدِّيًا جديدًا، وكانت فترة خاتمي الثانية بمثابة التراجع الكامل عن جميع الإجراءات التي كان من شأنها تعزيز فكرة التعددية في إيران.
مع بداية فترة أحمدي نجاد الرئاسية عطّلَت حكومته الشعبوية في صيف 2005 كل الإجراءات التي جرت في عهد محمد خاتمي ووزير خارجيته كمال خرازي، ووكلت إدارة السياسة الخارجية إلى الأصوليين وأنصار إيران النووية، وما لعبة «الغميضة» التي كان سعيد جليلي يمارسها بصفته كبير مفاوضي إيران النوويين، وما تصريحات أحمدي نجاد التي كانت تقول إن العقوبات مجرَّد قصاصات من الورق، إلا من إنجازات هذه المرحلة التي أوصلت السياسة
الخارجية الإيرانية إلى طريق مسدود. اختار أحمدي نجاد منوتشهر متكي وزيرًا للخارجية، وهو بهذا كان قد اختار في الحقيقة أضعف كادر وزاري للمهمة الأساسية على صعيد السياسة الخارجية، وبالطبع عزله في تاريخ 13 ديسمبر 2010 بعد خمس سنوات وأربعة أشهر من الخدمة، بأسلوب مهين، خلال فترته الرئاسية الثانية، وذلك عندما كان في زيارة للسنغال [وسمع خبر عزله من وزير خارجية الدولة المُضيفة]، وربما لهذا السبب رشّح متّكي نفسه للانتخابات الرئاسية.
بشّرت حكومة حسن روحاني (صيف 2013) بحدوث تغييرات تأخر حدوثها ثلاثين عامًا، فاختير محمد جواد ظريف وزيرًا للخارجية، وكان دبلوماسيًّا محنَّكًا لكنه كان يجلس في الظل، وحصل على الثقة من البرلمان، أما مهمّته فكانت واضحة:
– خفض شدة الضغوط وإلغاء العقوبات التي شلّت الدولة.
– المساعدة على تحقيق سلطة التيار المعتدل عن طريق انتهاج سياسة خارجية تعددية.
– الوصول إلى اتفاق يحوِّل الضعف الناتج عن القدرات النووية الناقصة إلى قدرة اقتصادية ودولية.
تُعتبر هذه الأهداف تغييرًا ملحوظًا في النمط الفكري لسياسة إيران الخارجية، لكنها واجهت تحديات منذ اليوم الأول، ومع أنها لم تكُن تنفي إمكانية الوصول إلى اتفاق، فإنها جعلت أساس السياسة الخارجية لإيران ضعيفًا، وفي هذه الأثناء كان يمكن مشاهدة ثلاثة عوامل لا تتغير في هذا النمط الفكري المتغير والجديد:
1- لم يتغير عامل معاداة أمريكا.
2- استمرّ عامل معاداة إسرائيل بنفس شدّته المعهودة.
3- لم تتخلَّ إيران عن منافسة دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها السعودية، وانطوى هذا العامل على مزيج من المنافسة السياسية بهدف السيطرة على المنطقة، والمنافسة المذهبية عن طريق ادّعاء زعامة العالم الإسلامي.
فضلًا عن هذا برزت ظاهرة التقرب من روسيا نتيجة لاستمرار الحرب في سوريا، وانتقلت إلى حدّ تصوُّر وجود تحالف استراتيجي معها.
تعددية روحاني
في بداية الأمر تَمكَّن فريق وزارة الخارجية الصغير بإدارة ظريف من عبور الطرق المسدودة بهدوء ودقة ولطف، والوصول إلى نتائج، ووصلت هذه السياسة إلى ذروتها بتوقيع الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا)، وإذا ما ضممنا إيران إلى البقية في معادلة 5+1 لكونها طرفًا في الاتفاق، فسيكون لدينا سبع دول. في مرحلة توقيع الاتفاق كانت أمريكا وروسيا والصين دولًا بينها اختلاف في وجهات النظر بخصوص كثير من القضايا الاستراتيجية العالمية، في حين كانت ألمانيا وبريطانيا وفرنسا ثلاث دول تمثّل 19 عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وكان على إيران أن تكسب رضا الطرفين الكامل على نحو ما، لهذا كانت تواجه بيئة عملياتية صعبة للغاية، كما أن دولًا ولاعبين من خارج الاتفاق يسعون لتأمين مصالحهم أو أهدافهم الأمنية من خلال التأثير على نتائج الاتفاق، ومن هذه الدول إسرائيل التي تربطها بأمريكا علاقات خاصة. كانت إسرائيل وما زالت تتمتع بقوة تخريبية وأدوات سياسية واقتصادية واستراتيجية فريدة من نوعها، في حين كانت سياسة روحاني التعددية الناشئة عاجزة عن تلبية مطالب هذه القوة، لهذا كانت ضعيفة أمام أي آفة، ومن بين هذه الآفات دور الأصوليين المخرب في الداخل، وحلقة السلطة المحيطة بالمرشد من جهة ومن جهة أخرى دور الحرس الثوري، بحيث كان كلّ واحد من هذه الأطراف يشعر بالخطر من إمكانية تقليص سلطته وصلاحياته، وكان البعض يُخفِي معارضته خلف الاستدلال بأن تعدُّدية روحاني بإمكانها التسبب في ظهور متلازمة غورباتشوف في إيران، وتؤدِّي إلى سقوط الحكومة الدينية.
هل فشلت تعدُّدية روحاني؟
في بداية مهمته وزيرًا للخارجية، رسم محمد جواد ظريف صورة لنهجه على صعيد السياسة الخارجية في حوار له مع محمد مهدي راجي، واعتبر في هذا الحوار أن مهمته محصورة في إقامة علاقات مع أوروبا، ونفى بصراحة إمكانية إقرار أي علاقة مع أمريكا (محمد مهدي راجي، السيد السفير، حوار مع محمد جواد ظريف، دار نشر ني، 1392/2013)، وبناء على هذا لم يكُن هدف إيران في تحقيق التعددية كاملًا وبلا نقص، وربما كانت تسعى خلف تحقيق نوع محدود من التعددية، أو اختبارها.
وَقَّعت إيران الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 في حين كانت حكومة باراك أوباما تقترب من نهايتها، وكانت أمريكا تتجه بسرعة نحو تغييرات غير مسبوقة، ولم يكُن يمكن توقُّعها، وما كان بإمكانه إنقاذ الاتفاق النووي هو إقامة الحد الأدنى من العلاقات الدبلوماسية المتعارف عليها والمحدودة بين إيران وأمريكا، من قبيل أن توافق الدولتان على أن يخدم دبلوماسيون من كلا البلدين في مكاتب رعاية المصالح (السفارة السويسرية في طهران، والسفارة الباكستانية في واشنطن)، أو أن تُفتتح في عواصم البلدين قنصليات يعمل فيها عدد محدود من الموظفين، حتى يمكن من خلال ذلك إحداث الحدّ الأدنى من الموازنة وتعديل المسير.
كان بإمكان وجود مثل هذه العلاقات الدبلوماسية المتعارف عليها أن تنقذ الاتفاقيات العامة مع الشركات الأمريكية، ومنها على سبيل المثال شركة بوينغ، وأن تَحُول من خلال إيجاد مصالح تجارية دون الإجراءات التي اتّخذها الرئيس دونالد ترمب لاحقًا وأدَّت في النهاية إلى تمهيد الطريق لسقوط الاتفاق النووي وفشل سياسة روحاني التعددية الناقصة.
في رأيي أن باراك أوباما هيأ الفرصة لهذا الأمر من خلال محادثته الهاتفية مع روحاني بشكل مباشر، ولقائه «مصادفةً» مع محمد جواد ظريف في أروقة الأمم المتحدة، ولكنه واجه في كلتا الحالتين تعنُّتًا لا يمكن فهمه من الجانب الإيراني، ولم تُتبادَل أي إشارة إيجابية، وقد يتمكّن ظريف خلال السنوات القادمة من فك رموز مفاوضاته المباشرة مع نظيره الأمريكي جون كيري، وأن يقول مثلًا هل طُرح الحدّ الأدنى من مطالب أمريكا لمرحلة ما بعد الاتفاق النووي في أثناء تجوالهما في سويسرا، وإذا كانت هذه المطالب طُرحت فما هي، وكيف تعامل معها المرشد في إيران.
جدير بالذكر أن العلاقات بين أمريكا وإسرائيل في عهد أوباما كانت هشَّة، حتى إن كثيرًا من المحافل المناصرة لإسرائيل يذكر أوباما على أنه الرئيس الذي مارس ضغوطًا كبيرة على إسرائيل حتى يتمكن من توقيع الاتفاق النووي، لكنّ هذه الظروف لم تتكرر بعد أوباما، ويرى بعض المراقبين بعد عهد أوباما أن انتخاب دونالد ترمب سبب فشل الاتفاق النووي، ومن طريق أولى سبب فشل تعددية روحاني، ولكن السبب في اعتقادي يكمن في الضعف والنقص الأساسي الذي تعاني منه هذه التعددية، والذي أشرنا إلى جانب منه في ما سلف، ومع أن حظوظ سياسة التعددية في النجاح أكبر من الناحية النظرية، فعليها أخذ طيف واسع من العلاقات بعين الاعتبار، لا أن تعادي البعض وتصادق البعض، مقيدة نفسها بإطار محدود من العلاقات.
تغيير النمط الفكري
لا يحدث تغيير النمط الفكري إلا عندما تتغير تصوُّراتنا من الأساس، وحتى لو شوهدت في الظاهر تغييرات في التكتيكات وأساليب الوصول إلى الأهداف، فإن النمط الفكري لن يتغير إذا لم تتغير التصورات الأساسية في السياسة الخارجية وبقي النظام على ما هو عليه، وقد تحدث تغييرات لا تكاد تُذكر، ولا يمكنها بطبيعة الحال تقديم صورة إيجابية عن الدولة للعالم.
على الرغم من هذه الضرورة فإن الاتفاق النووي باعتباره جزءًا من سياسة روحاني التعددية، يُعَدُّ نوعًا من تغيير هذا النمط الفكري، ولكن يجب الاعتراف كذلك بحقيقة أن الجدل بين رغبة روحاني القائمة على ضرورة التفاوض مع أمريكا أو «السيِّد»، ورغبات المرشد، قلّص بشدّةٍ قدرة الحكومة التنفيذية.
المشكلة الأساسية في السياسة الإيرانية هي تَدخُّل المرشد في أدقّ تفاصيل السياسة الخارجية، وهذا بشكل دقيق يتعارض مع مهامّ المرشد المنصوص عليها في الدستور الذي ينصّ على أن المرشد يعطي رأيه في العموميات (الفقرة الأولى من المادة 110: «تحديد السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام»)، وهذا التدخّل غير المحدود جعل عملية تغيير النمط الفكري في سياسة إيران الخارجية يواجه طريقًا مسدودًا. تَحوَّل نهج السياسة الخارجية لإيران خلال الأربعين عامًا الماضية، على الرغم من الاختلافات البسيطة التي رأيناها إبان حكومة محمد خاتمي، إلى ما شاهدناه من سياسة في عهد أحمدي نجاد، أما في عهد روحاني فقد أدى مزيج من البراغماتية والتعددية إلى توقيع الاتفاق النووي، لكن بعد مدة قصيرة من توقيعه تضافرت الظروف الداخلية والدولية لتواجه السياسة الخارجية الإيرانية نوعًا من الجمود.
الظروف اليوم وصلت إلى مراحل صعبة للغاية، وهي تشبه أوضاع الوصول إلى طريق مسدود وانتظار حدوث انفجار، وذلك بسبب تَعَنُّت الطرفين، ومن الطبيعي أنه يجب اتخاذ إجراءات لحل النزاع لإحداث تغييرات أساسية، ويجب عدم تعميم ما يحدث من تغييرات بسيطة على أنه قاعدة عامة، فمن الممكن حدوث تغييرات إيجابية قصيرة المدى، لكن حدوثها مجرَّد مصادفة، ومن أجل النجاح لا بدّ من الوصول إلى ضوابط ثابتة.
مادة مترجمة عن موقع «راديو فردا»
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد