منذ بداية التدخل الأمريكي في قضايا الشرق الأوسط، وتحديدًا عند غزو العراق لدولة الكويت؛ سعت الإدارة الأمريكية لحشدِ التحالف الدولي بهدف إعادة ضبط العلاقات الدولية خلال فترة ما بعد الحرب الباردة، وذلك لتعزيزِ مفاهيم الحريات والأمن، وسيادة القانون. وحينما قام صدام حسين بالتعدِّي على هذه المفاهيم، أدى ذلك إلى تكوين تحالفٍ دوليٍّ قاد إلى تحرير الكويت، وأعطى انطباعًا جيدًا عن تماسك المجتمع الدولي، وقدرة الولايات المتحدة على القيادة في عالمٍ أحاديّ القطبية.
نشطت الدبلوماسية في فترة ما بعد حرب تحرير الكويت، وتحت ضغوطِ المنظمات الدولية، تم فرض حظرٍ اقتصاديٍّ على العراق لخرقه شروط وقف اطلاق النار، من خلال إنهاء عمليات التفتيش عن الأسلحة التابعة للأمم المتحدة، مع إقرار برنامجٍ للتخفيف عن العراقيين سُميّ برنامج (النفط مقابل الغذاء). ومع ذلك، فإنَّ صدام حسين لم يقرأ الرسالة جيدًا، واستمر في تحدي المجتمع الدولي والولايات المتحدة التي أُصيبت بحرجٍ واحباطٍ تجاه ما قام به من تحدٍ لقوتها وزعامتها الدولية.
بعد أحداث 11 سبتمبر، بدت الظروف ملائمةً للولايات المتحدة لمعاقبة صدام حسين، ولم تكن المبررات صعبةً إذ تم الاستناد إلى تطوير العراق لأسلحة الدمار الشامل، ودعم وإيواء عناصر تنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية. وفي عام 2003م، نفِد صبر الولايات المتحدة وقامت بغزو العراق، وتم التخلص من النظام العراقي. في ذلك الوقت قالت مستشارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، كوندوليزا رايس: «لقد غزونا العراق لأنَّنا اعتقدنا أنَّ الخيارات الأخرى قد نفدت. لم تكن العقوبات مجديةً، وعمليات التفتيش كانت غير مُرضية، ولم نتمكن من جعل صدام يغادر بوسائل أخرى».
وبعد ذلك، سارعت الولايات المتحدة بحلِّ الجيش العراقي في خطأٍ إستراتيجيٍّ لا تزال العراق والدول المجاورة والمجتمع الدولي تعاني من تداعياته؛ فلم تتحقَّق للعراقيين الحرية والديمقراطية التي وعُدوا بها، كما لم يتحقَّق للمجتمع الدولي إرساء معايير التعايش السلمي. وازدادت تبعًا لذلك النزاعات في بلدان الشرق الأوسط، والأسوأ منه أنَّ ذلك هيَّأ الوضع لطغيانٍ آخر للنفاذ إلى العراق والسيطرة على مقدراته، وإعادة انتاج (صدّام) آخر بوجهٍ مغاير، وأصبحت الولايات المتحدة مرةً أخرى تحاول ترويض المارد الجديد المتمثِّل في إيران، بالإضافة إلى توفر بيئةٍ لتكاثر المجموعات الإرهابية مثل «داعش» وغيرها.
مرةً أخرى، تحاول الولايات المتحدة فرض عقوباتٍ على إيران للتخلي عن سلوكها العدواني، وتطوير أسلحةٍ تتحدى المعايير الدولية، إلَّا أنَّ النظام الإيراني يمارس الأسلوب نفسه الذي انتهجه صدام حسين لتحدي الإرادة الأمريكية والمجتمع الدولي. وتتصوَّر إيران أنَّها عصية على ما تم ممارسته ضد نظام صدام حسين، وبذلك تعود الولايات المتحدة إلى دوامة التفكير في كيفيةِ التعامل مع النظام الإيراني في ظل انقسام المجتمع الدولي، وبين صانعي السياسات الأمريكية نفسها، ولا تحصد سوى الحيرة. وربما الأهم من ذلك الوصول إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ العقوبات ضد إيران باتت غير مجدية، كما أنَّ عمليات التفتيش عن الأنشطة النووية تبدو غير مرضية، وبما أنَّه لا تلوح في الأفق وسائل أخرى لتعديلِ سلوك النظام الإيراني، فإنَّ هذه الأحداث تُجبرنا على العودة إلى التفكير في تصريح رايس في عام 2003م بشأن مبررات غزو العراق.
في استعراض هذا المقال للمقارباتِ الأمريكية تجاه التعامل مع إيران، وضبابيتها في نظر حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، تبدو واشنطن وكأنَّها تحاول استرضاء طهران على حساب التفريط في عقودٍ من التحالفات والتفاهمات التي كان لها دورٌ مهمٌّ في التصدي للتحديات التي تعرضت لها المنطقة لفتراتٍ طويلة. وينبغي ألَّا ننسى أنَّ ذلك يدور في ظهر حلفاءٍ أنجزوا مع الإدارة الأمريكية مصالح مشتركة لن يكون من الحكمة التفريط فيها بسهولة، كما أنَّه يثير التساؤل عما إذا كانت أمريكا تبعث بالرسالةِ الخاطئة للنظام الإيراني من خلال تليين مواقفها.
بدايةً، يمثِّل التصريح المتسرِّع للرئيس الأمريكي جو بايدن، تجاه الرغبة في العودة إلى المسعى الدبلوماسي مع إيران، موقفًا فسَّرته إيران باللين وقابلته بالتشكيك. وسرعان ما تموضعت ردّة فعلها في مواقف متشدِّدة برزت من خلال تصريحاتها تجاه العودة للاتفاق النووي، واستئناف عمليات تخصيب اليورانيوم فوق الحدود المسموح بها، والإعلان عن اطلاق صاروخٍ فضائيٍّ في استعراضٍ للقوة والتحدي، وارتفاع نبرتها المهدِّدة بإمكانية اضطرارها لتصنيعِ قنبلةٍ نووية. كما عملت إيران على تشجيع حلفائها في اليمن بالقيام بهجماتٍ ضد المملكة العربية السعودية بغرض إفساد مساعي الإدارة الأمريكية لإنهاء الوضع المأساوي الذي تسببت فيه.
لا يختلف تعامل الولايات المتحدة مع إيران عن تعاطيها مع العراق بعد حرب تحرير الكويت، وعن تعاملها مع إيران إبان إدارة باراك أوباما، فلا تزال إيران تفهم الرسائل بشكلٍ خاطئ، أو ربما تقرأ وهن العزيمة الأمريكية في قيادة المجتمع الدولي. ولا تزال الإدارة الأمريكية تأمل في حصولِ معجزةٍ مع نظامٍ حزم أمره في السيطرة على مفاصل المنطقة، وتحدي المجتمع الدولي بتطوير أسلحةٍ صاروخيةٍ، وبرنامجٍ نووي يتحدى به المعاهدات الدولية، وسلوكٍ عدواني يجرُّ به المنطقة والعالم إلى مصيرٍ مجهول.
تصرُّ واشنطن على إظهار السِمة الغالبة على سياستها في المنطقة وهي الانخراط في تكرار خذلان حلفائها في توجهاتٍ متضاربةٍ وغير منضبطة، وتهميشٍ للعمل الجماعي الدولي، والفشل في الاستفادة من الدروس التي تعيها دول المنطقة جيدًا، ومحاولة إعادة تجريب ما تم تجريبه وفشل في السابق. وفوق ذلك فإنَّ دول المنطقة لا تزال تعاني من تداعياتِ الحروب المدمِّرة: الحرب العراقية-الإيرانية، وحرب تحرير الكويت، والحرب على العراق، والحرب ضد تنظيم داعش، وتداعيات فتنة ما يُسمى بـــ«الربيع العربي»، والحرب السورية، والحرب في اليمن، ولسان حال هذه الدول يردِّد: ثم ماذا بعد ؟، إذ أنَّ صيغة المساءلة هذه منطقية ومشروعة في ظلِّ مسك الولايات المتحدة العصا من المنتصف والاتجاه في مسارين متضادين.
ليس من المنطق ولا المصلحة أن تتنصَّل كل إدارةٍ أمريكية مما انتهجته سابقتها لتحقيق مكاسب داخلية، وإغراق المجتمع الدولي في الفوضى والتناقض، وليس من مصلحة الولايات المتحدة التخلّي عن حلفائها وانتقادهم وتحجيم قدراتهم، وعدم الاستماع لآرائهم. وفي المقابل نجد أنَّ إيران تتلقي الدعم؛ فما تم الإعلان عنه من التراجع عن تصنيف الحوثيين كمنظمةٍ إرهابية، يصبُّ في أنَّ الإدارة الحالية تحاول تغيير سياسة الولايات المتحدة ولكن بتسوياتٍ ضعيفة جوهريًّا، وعبر خطواتٍ متسرِّعة. وأتت حتى قبل وصول المبعوث الأمريكي الجديد إلى اليمن تيموثي ليندركينغ، إذ كان في طريقه إلى المنطقة والاستماع إلى الحلفاء السعوديين، مما تسبب في تطاول الحوثيين وجرأتهم بتنفيذ هجماتٍ ضد المدنيين في المملكة، والانقضاض على مدينة مأرب اليمنية في تصعيدٍ خطيرٍ للأزمة الإنسانية في اليمن. كما أنَّ التصريحات الأمريكية المتضمنة لإعادة تقييم العلاقات مع بلدٍ حليفٍ مثل السعودية، وفي المقابل الحرص على إعادةِ إحياء المفاوضات مع نظامٍ مثل النظام الإيراني، يعكس اختلال ميزان الإدارة الأمريكية الحالية، ويثير استغرابًا حول محاولتها المساواة بين الدول الحليفة والأعداء.
ومن ناحيةٍ أخرى، نجد أنَّ مياهًا كثيرة جرت من تحت الجسر، فتغيَّرت الفواعل في البيئة السياسية الدولية، إذ لم تعُد الولايات المتحدة هي المتحكمة في المشهد الدولي بمفردها، وهذا ما تراهن عليه إيران في مقارباتها. وربما من المناسب القول إنَّ سعي الولايات المتحدة عن طريق المناورة لن يعطي أُكله، إذ لا بد لنجاحِ السياسة الأمريكية تجاه إيران من العودةِ للانخراط في العمل الشامل، من خلال التنسيق مع الشركاء والحلفاء واستماع الإدارة الجديدة وأصحاب القرار في أمريكا لمخاوف حلفائهم قبل اتخاذ قراراتٍ لا توافق مع مجريات الأحداث في أرض الواقع. وعدم إعطاء إيران الانطباع بأنَّ الإدارة الأمريكية ومن خلفها المنظمات الدولية عاجزةً عن إرساءِ قيم الحريات، والعلاقات الدولية المنضبطة، والأمن، وسيادة القانون، والتي طالما تغنَّت بها، ونراها الآن متراخيةً أمام نظامٍ لم يدرك يومًا معنىً لهذه المثُل، ابتداءً بممارساته تجاه الشعب الإيراني نفسه.
كما أنَّ على الإدارة الأمريكية إدراك خطورة القيام بخطوةٍ غير محسوبةٍ ضد إيران، مما قد يؤدي إلى إشاعة الفوضى في المنطقة، أو انفلاتٍ لترسانة السلاح التي راكمتها إيران على مدى عقود، في حال سقوط نظامها، أو خلخلة أركانه، بما يخلق بيئةً أمنيةً معقدة، أو دفع إيران إلى الخروج من اتفاقية حظر الانتشار النووي (NPT) وتطوير السلاح النووي، مما يدفع دول المنطقة إلى مسارٍ مماثل. وفي ذات الوقت فإنَّ العقوبات الاقتصادية وحدها لا تكفي لردعِ سلوك إيران، فقد استفادت من ذلك لتعزيز دور الضحية أمام شعبها وأمام العالم، لشرعنة تصرفاتها، وإضعاف الأصوات المعتدلة في الداخل الإيراني لتصبح أكثر تشددًا وعدوانية ومصدرًا لعدم الاستقرار. وبدلًا من ذلك قد يكون من المناسب دفع إيران ودول المنطقة إلى مقارباتٍ أمنيةٍ وحواراتٍ بينيةٍ وتشجيعٍ لأدوار الوساطة بما يفضي إلى تهذيب السلوك الإيراني، وإعطاء فرصةٍ داعمةٍ للأصوات المعتدلة في إيران لإخراج إيران والمنطقة من قبضة “المتشددين” الذين يبدو أنَّ سيطرتهم تزداد تأثيرًا في القرار الإيراني.
وما يزيد من تصاعدِ تأثير حجم الضغط المتفاقم هو أنَّ السياسات الأمريكية تتراوح ما بين نهج القوة والهيمنة لحمايةِ المصالح الأمريكية، وبين سياساتِ الانكفاء والرغبة في التخلي عن دورها القيادي في العالم الذي يراه البعض يشكل عبئًا أثقل كاهلها، وهذا يضع العالم والمنطقة في بقعةٍ ضبابيةٍ تساهم في جعل عدم الاستقرار وعدم اليقين هو الوضع السائد.
ونخلص من ذلك إلى أنَّه من المهم الاستفادة من دروس الماضي؛ يقول المثل الشائع: «الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً»، فهل تعيد أمريكا التجريب في دول المنطقة، وإنتاج بيئة فوضى جديدة تُبقي المنطقة أسيرةً للتخلفِ والفقر والمساومات الدولية؟. سؤالٌ يدور في أذهانِ شعوب المنطقة وهم يرون الأدوار المتعاقبة للإدارات الأمريكية وهي تتقلَّب في مواقفها بين طرفي نقيض. وهذا من شأنه أن ينمِّي مظاهر الإحباط لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وأن يؤدي إلى تآكل الثقة وليس استعادتها، بما ينذر بتداعياتٍ مستقبليةٍ خطيرة، قوامها عدم إشراك الحلفاء ودعمهم لتقوية موقف الردع أمام إيران، وتقليص فرص إجبارها على مقارباتٍ أكثر انفتاحًا على دول جوارها من منطلق العلاقات الدولية المتكافئة، واحترام السيادة الوطنية لدولِ الجوار، والتخلي عن سلوكها المتهوِّر الذي ينمو ويزداد في ظلِّ التراخي والاسترضاء الأمريكي، الذي لا يخدم مصالح الولايات المتحدة ولا مصالح حلفائها، وإنَّما يصبُّ في مصلحة إيران ووكلائها في المنطقة.
وأخيرًا، فإنَّه غنيٌّ عن القول إنَّ إعادةَ ضبطِ الأمن في المنطقة هو مسؤوليةٌ أخلاقيةٌ، وعلى المجتمع الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة، أن يعزِّز من دور المنظمات الدولية، والتصدي بحزمٍ واضحٍ للممارساتِ المتطرفة، فالتاريخُ القريبُ مليءٌ بالدروسِ والعِبر، والمنطقة ليست بحاجةٍ لمآسٍ وحروبٍ وأزماتٍ جديدة، ويُنتظر من الإدارة الأمريكية إعادة النظر إلى هذه المعضلة من زوايا متعدِّدة أهمها الزاوية التي تخدم أمن واستقرار المنطقة وإبقاء الصراعات في حدودها الدنيا، إن لم يكن من سبيلٍ لإزالتها.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد