تسريبات ظريف ومسارات الصراع بين «الثورة» و«الدولة» في إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=24696

بواسطةفراس إلياس

 أعادت التسريبات الخاصة بوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الحديث مرةً أخرى عن مسارات الصراع بين «الثورة» و«الدولة»، وتحديدًا على مستوى آلية صنع القرار، وتوجيه السياسة الداخلية والخارجية في إيران، خصوصًا في ما يتعلق بدور «فيلق القدس» في التضييق على خياراته الخارجية، موجِّهًا انتقاداتٍ غير مسبوقةٍ لهيمنة «الحرس الثوري» على سياسة إيران الخارجية، لتُواجَه هذه التسريبات بتصريحاتٍ منددِّةٍ صدرت من قِبل العديد من قيادات «الحرس الثوري» و«التيار المحافظ»، إلى جانب المرشد الإيراني علي خامنئي، الذي عدَّ تصريحات ظريف مؤسفةً، ولا تخرج عن ما يبثّه الأعداء من إدعاءات، بالشكل الذي ينبئ بتداعياتٍ كبيرةٍ على المستويين الداخلي والخارجي في إيران مستقبلًا.

 شكَّلت عملية تأسيس «الجمهورية الإسلامية» القائمة على ولاية الفقيه والثورية الشيعية، أحد أبرز تجليات «الثورة الإسلامية» التي قادها الخميني في فبراير 1979م، ومن أجل ترسيخ أركان هذه الجمهورية أصدر الخميني دستور  1979م، لوضع إطارٍ عام  للحكم والإدارة في إيران. ورسَّخ هذا الدستور بدوره ثنائية «الثورة» و«الدولة» عبر إنتاج مؤسساتٍ ثورية، أصبحت فيما بعد مؤسساتٍ موازيةٍ لمؤسسات الدولة الرسمية التي كانت قائمة بذاتها. كما رسَّخ الطابع الثوري لـ«الجمهورية الإسلامية»، عندما أطلق صفة «القائد الأعلى للثورة الإسلامية» على المرشد، إلى جانب إناطة مهمة الحفاظ على النظام السياسي الجديد بــ«الحرس الثوري». فضلًا عن ذلك، أكّد الدستور الإيراني مبدأ علو المؤسسات الثورية على مؤسسات الدولة الأخرى، عندما منح «القائد الأعلى للثورة» حق نقض وإبطال القرارات الصادرة عن رئاسة الجمهورية، وهو ما أدى إلى تهميشٍ واضحٍ لمؤسسة الرئاسة والتضييق عليها في مجال ممارسة صلاحياتها المنصوص عليها دستوريًّا.

 ترتَّب على ثنائية «الثورة» و«الدولة»، نتائج عدة عقّدت من تركيبة السلطة في إيران، وأثّرت في المستويين الداخلي والخارجي، ومن أهم نتائجها وجود مؤسساتٍ موازية، إذ إنَّ هناك مؤسسات «دولة» توازيها مؤسسات «ثورة»؛ فجيش «الجمهورية الإسلامية» يوازيه حرس «الثورة الإسلامية». بالإضافة إلى وجود إستراتيجياتٍ موازية، ومنها أنَّ «الدولة» قد تتبنى إستراتيجية على المستوى الداخلي أو الخارجي، وتتبنى «الثورة» إستراتيجية مغايرة تمامًا. كما توجد اقتصاداتٍ موازية فلــ«الدولة» ميزانيةٌ تخضع لرقابة مجلس الشورى وديوان المحاسبة ومختلف الأجهزة المختصة، وبالمقابل لــ«الثورة» مؤسساتٌ وشبكاتٌ اقتصادية ضخمة لا تدخل في ميزانية الدولة. ومن هذه المؤسسات «مؤسسة المستضعفين» و«مؤسسة الشهيد»، وهما تابعتان لـ «القائد الأعلى للثورة»، وتمتلكان عشرات المليارات حسب تقدير اقتصاديين إيرانيين، كما تتبع لـ«الحرس الثوري» عشرات الشركات، أكبرها «شركة خاتم الأنبياء» التي تهمين اليوم على العديد من قطاعات الاقتصاد الإيراني.

 وجدت مؤسسات الدولة في التحالف القوي الذي يجمع المرشد مع «الحرس الثوري»، باعتباره «القائد الأعلى للقوات المسلحة»، تحديًّا كبيرًا في مجال الإدارة والعمل الخارجي. وزاد من هذا التحدي تصاعد دور «التيار المحافظ» الذي أخذ يطبّق توجيهات المرشد و«الحرس الثوري» في التضييق على تحركات «التيار الإصلاحي»، الطامح لإبعاد الصبغة الثورية عن الدولة، وتحجيم دور «الحرس الثوري» في الحياة السياسية، لتدخل العلاقة فيما بعد بين إيران (الثورة – الدولة) بصداماتٍ عديدة، كانت واضحةً في أكثر من مناسبة، ابتداءً من الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ووصولًا للرئيس الحالي حسن روحاني. وفي كل مناسبةٍ كان تيار «الثورة» يفرض إيقاعه على تيار «الدولة»، لأنَّ مشروعية «الثورة» مقدمةٌ على «الدولة»، وهي مشروعية مترسِّخة في مواد الدستور الإيراني عام 1979م، التي اعتبرت أنَّ مهمة الدولة تتمثل في استمرار «الثورة الإسلامية»، وهو ما أكد عليه الخميني بعد انتهاء الحرب مع العراق، قائلًا: «إنَّ تصدير الثورة هي أبرز أولويات البلاد»، وقد أكّد خليفته خامنئي مرارًا وتكرارًا على نفس الهدف.

برزت الصراعات بين «الثورة» و«الدولة» على أوجْها مع وصول الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى سدة الحكم، خصوصًا أنَّه جاء كنتيجة نقمةٍ شعبيةٍ على «التيار المحافظ» و«الحرس الثوري»، بسبب تداعيات «الحركة الخضراء» في يونيو 2009م. وفي ضوء البرامج الإصلاحية التي تبناها للحدِّ من تأثير «الحرس الثوري» في السياسة الداخلية والخارجية؛ أخذ «الحرس الثوري» يمارس دور المُعرقل للكثير من هذه البرامج، وتحديدًا تلك التي تستهدف نفوذه الاقتصادي أو دوره الإقليمي. وتصاعدت هذه الصراعات بصورةٍ أكبر بعد توقيع الإتفاق النووي في أبريل 2015م، على إثر الالتزامات التي تعهدت بها حكومة روحاني في التوقيع على عددٍ من الإتفاقات المتعلقة بمكافحة غسيل الأموال ودعم الإرهاب وتجارة المخدرات، وهي كلها إتفاقات ترتبط بشكلٍ أو آخر بدور «الحرس الثوري» الداخلي والخارجي.

 وفي مقابل التعهدات التي التزمت بها حكومة روحاني في الإتفاق النووي، ذهب «الحرس الثوري» نحو تطوير الصواريخ الباليستية وتوسيع النفوذ الإقليمي، حيث أقامت العديد من الممرات البرية والبحرية والجوية، لتزويد حلفائها في العراق ولبنان واليمن بالصواريخ والطائرات بدون طيار، فضلًا عن تبني المرشد و«الحرس الثوري» نموذج «الاستدارة نحو الشرق» وتحديدًا الصين وروسيا، وثماره التعاون الإيراني الروسي في سوريا، و«وثيقة التعاون الإيرانية الصينية» التي تبلغ مدتها 25 عامًا، إذ أصبحت بالنسبة لخامنئي وقادة «الحرس الثوري» بديلًا فاعلًا عن إعادة إحياء الإتفاق النووي، وهو ما خلق فجوةً كبيرةً بين ما تريده إيران «الثورة»، وما تطمح إليه إيران «الدولة».

إنَّ مظاهر الصراع الداخلي الإيراني الذي يطفو إلى السطح مرةً أخرى، جاءت نتيجةً للتآكل المستمر في شرعية النظام السياسي، بحيث لم تعُد إيران «الثورة» قادرةً على كتم تذمر إيران «الدولة». وفي التسجيل الصوتي المسرَّب، كان أبرز ما وجَّهه ظريف هو انتقاداتٌ بين السطور لـ«الحرس الثوري»، من خلال هيمنتهم على السياسة الخارجية. وكان الهدف من هذه الانتقادات هو إرسال رسالةٍ للمجتمع الدولي، وتحديدًا الأطراف المتفاوضة في فيينا، بأنَّ هناك تيارًا معتدلاً في إيران، بعيدًا عن سلوكياتِ «الحرس الثوري» وحلفائه المثيرة للقلق، وهو ما يؤسِّس لفكرة أنَّ هناك انقسامًا حقيقيًا بين «الإصلاحيين» و«المحافظين»، وأنَّ على القوى الدولية أن تؤسِّس تحركها الخارجي حيال إيران على أساس هذا الانقسام.

 هذه الخلافات تحدَّث عنها ظريف عندما أشار بصورةٍ واضحةٍ، إلى أنَّ قاسم سليماني أوصل «فيلق القدس» إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ من الشهرة والنفوذ قبل مقتله العام الماضي، وغالبًا ما ضحّى بالدبلوماسية من أجل عمليات «الحرس الثوري» العسكرية في جميع أنحاء المنطقة. كما أنَّ «الحرس الثوري» تعاون مع روسيا من أجل إفشال الإتفاق النووي، وهو ما عرقل الدبلوماسية الإيرانية كثيرًا. ووفقًا له، فإنَّ «فيلق القدس» هو أكثر من مجرد جناحٍ إقليميٍّ رئيس لـ«الحرس الثوري»، فهو يتمتع أيضًا بأقوى كلمة في السياسة الخارجية بشكلٍ عام، والسياسة النووية بشكلٍ خاص. ومن وجهة نظر ظريف، فإنَّ «فيلق القدس» يعتقد أنَّ صلاحياته ومهامه تمتد إلى ما هو أبعد من الشؤون الإقليمية والعسكرية، كما يعتقد قادته أنَّهم يملكون الشرعية اللازمة للتدخل في الشؤون الداخلية والخارجية، لا سيما في أوقات الأزمات، ولن تتغير هذه العقلية بعد رحيل سليماني، لذلك يبدو أنَّ ظريف يلمّح إلى أنَّ «الحرس الثوري» سيلعب دورًا رئيسًا في تحديد نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، حتى أكثر من الناخبين أو الأجنحة المتنافسة.

 وللتأكيد على الدور المهمين لـ «الحرس الثوري» على السياسة الخارجية، ففي مقالة نشرتها صحيفة «الشرق» المقربة من «التيار الإصلاحي»، تحدثت فيها عن التسريبات الخاصة بظريف، وقالت: «إنَّ من يقول بأنَّ هناك إهاناتٌ وُجِّهت لسليماني و«الحرس الثوري»، يبدو أنَّه لم يطلِع على الواقع الإيراني بعد، فالسيد ظريف لم يكشف شيئًا خفيًّا، وأثار ما هو واضح للرأي العام الإيراني، فضرورة «الدفاع المقدس» كانت الأولوية في كل شيء لـ «الحرس الثوري»، وهي أولوية مقدمة على إطعام الناس في إيران، بعد تلبية احتياجات الجبهة والحرب. وما قاله وزير الخارجية هو أمرٌ طبيعيٌّ؛ الدبلوماسية في خدمة الساحة والميدان، وهذا لا علاقة له بـ«الحرس الثوري» والجيش وما إلى ذلك، لكن لحظات التواجد في الميدان هي ما تحدِّد المستقبل، وليس الدبلوماسية».

من المحتمل أن تُفرز تسريبات ظريف العديد من التداعيات على مسارات العلاقة بين «الثورة» و«الدولة» في إيران، وتندرج أهمها في توظيف هذه التسريبات لتحقيق المزيد من الهيمنة على الداخل من قِبل «تيار الثورة» في إيران، والحديث هنا عن «التيار المحافظ» و«الحرس الثوري». كما توضح العلاقة بين «الثورة» و«الدولة» أنَّ مسارات الصراع بينهما أصبحت ضيقة جدًا، وباتت تتفاعل مع أي حدثٍ يُثار في الداخل، وهو ما كشفته أزمة التسريبات مؤخرًا، ما يؤشر إلى مدى عمق الأزمة التي يعيشها النظام السياسي اليوم، وتحديدًا في مسألة المواءمة بين المؤسسات الثورية الموازية ومؤسسات الدولة. فقد أظهرت تسريبات ظريف أنَّ هناك تذمرًا كبيرًا من قِبل «تيار الدولة» على هيمنة «تيار الثورة»، وأنَّ هناك خلافًا كبيرًا على مستوى الخطاب الأيديولوجي والرؤية السياسية بين هذين التيارين حول العديد من القضايا الخارجية، وتحديدًا على مستوى العلاقة مع روسيا، أو جهود إحياء الإتفاق النووي، أو الدور الإقليمي، وهو خلافٌ قد ينعكس سلبًا على السياسة الداخلية والخارجية مستقبلًا.

إنَّ ظهور التسريبات بهذا الشكل ستؤثِّر وستجعل العلاقة بين مؤسسات الدولة (وزارة الخارجية) ومؤسسات الثورة (الحرس الثوري) مثلاً؛ أكثر حساسيةً وأكثر حذرًا في المستقبل، خصوصًا المواضيع الخارجية المهمة بالنسبة لإيران، مثل طبيعة العلاقة مع الحلفاء أو في عملية صنع القرار بين المؤسسات، وبعضها ستراعي الأبعاد الأمنية، وستأخذ في الاعتبار احتمالات الاختراق والتسريب. ووسط المعلومات الجديدة المثيرة للجدل التي كشف عنها ظريف؛ دعت قيادة «الحرس الثوري» إلى مراجعة السياسات الإقليمية للبلاد، لكن بعيدًا عن فكرة التراجع عن موقفها الحالي. ويبدو أنَّ المؤسسة العسكرية – التي غالبًا ما يُشار إليها بـ«القوة الميدانية»- عازمةٌ على إضفاء طابعٍ أمنيٍّ أكبر على السياسة الخارجية الإيرانية، وزيادة ميزانية «فيلق القدس» التابع لــ «الحرس الثوري»، وتعزيز المغامرة العسكرية المتأصلة لـ «الجمهورية الإسلامية».

 إنَّ تسريبات ظريف قد تشكل نهايةً لمستقبله السياسي على الأرجح، وهي نهايةٌ ليست بالجديدة في الداخل الإيراني، وتحديدًا عندما يتم التمرد على الخط العام للنظام، وسياساته الداخلية والخارجية. وفي شقها الآخر، فقد أظهرت هذه التسريبات التعقيد  الكبير الذي يواجهه النظام السياسي في طهران، وتحديدًا على مستوى العلاقة بين «الثورة» و«الدولة»، وتصاعد مستوى الصراع على السلطة بين أجنحة النظام. ومما لا شك فيه، إنَّ استمرار هذه الصراعات ستؤدي إلى إضعاف النظام وتآكل شرعيته من الداخل، كما أنَّ اعتذار ظريف لعائلة سليماني وخامنئي، أظهرت مدى القوة التي تتحلى بها «الثورة» على حساب «الدولة»، وأظهرت أنَّ مؤسسات الدولة ليست إلَّا واجهةً ناعمةً خاضعةً لنظامٍ ثوريٍّ مهيمن، بإطارٍ يدفع باتجاه استمرار الدبلوماسية الإيرانية في الاضطلاع بدورٍ ثانويٍّ، مقارنةً بسياسة التدخل العسكري التي يفرضها الدستور لـ«الحرس الثوري»، وفقًا لتوجيهات خامنئي.

  على كل حال، يمكن القول بأنَّ هناك انقساماتٍ عميقةٍ على أعلى مستويات النظام السياسي، بين تيارين لهما رؤيةٌ وخطابٌ ونهجٌ مختلفٌ عن الآخر، على الأقل في الخطوط العامة. ونتيجةً للترابط الكبير الذي يجمع مواقف «تيار الثورة» المتمثِّل في المرشد و«التيار المحافظ» و«الحرس الثوري» في الآونة الأخيرة، فإنَّه سيضطر «تيار الدولة» إلى مراجعة تجربته السياسية وإعادة إنتاج مقارباتٍ جديدةٍ للعمل السياسي، من أجل إعادة خوض تجربةٍ جديدةٍ في الداخل الإيراني. يشعر «تيار الدولة»  اليوم بأنَّه في موقفٍ دفاعيٍّ صعب للغاية، في ظل توجهٍ واضحٍ من قِبل المرشد إلى إعادة هندسة الحياة السياسية الإيرانية على نحوٍ  أشبه بـ«عسكرتارية متشددة». وفي ضوء هذا المشهد المعقَّد، ستفرض المتغيرات الوصول إلى أن تكون إستراتيجية تقليل الخسائر، أفضل نهجٍ يمكن أن يعمد إليه «تيار الدولة» في مواجهة صعود وهيمنة «تيار الثورة» في إيران.

الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

فراس إلياس
فراس إلياس
باحث في السياسات والاستراتيجيات الدولية