يُعدّ عهد أردشير الأول (180-242م)، من المواثيق المهمة بالنسبة للإرث السياسيّ الفارسيّ، فقد كان بمثابة دستور للدولة الفارسية؛ نظرًا لمكانة أردشير في تاريخ الفرس، وشهرة عهده عند من جاء بعده. فأردشير هو الذي أعاد الإمبراطورية الفارسية، ووحَّدها، ووسَّع جغرافيتها، وهو مؤسس الدولة الساسانية التي بقيت قائمة حتى الفتح الإسلامي، (وقد طُبع عهد أردشير بتحقيق إحسان عباس، سنة 1967م).
وسنسعى هنا لعقد مقارنة سريعة بين عهد أردشير، وفكر الخمينيّ، الذي انبنى عليه الفكر السياسيّ الولائيّ فيما بعد، من حيث موقع الدين في جهاز الحكم، والعلاقة بين رجال الدين ومؤسسات الدولة. فاللافت للنظر في عهد أردشير أنّ الدِّينَ استأثرَ باهتمامه، فأحيا الديانة الزرادشتية، وحطّم الأصنام وأزال الصور. والأهم من ذلك أنَّه منح رجالَ الدين سلطة واسعة في إدارة الدولة، وجعلهم ممكنين في كلّ مناحي أجهزتها وإداراتها، لإقامة الحكم وفقًا للأُسس الدينية.
وفي تأسيسه لأهم ملامح حكمه وعهده، كان أردشير يرى أنَّ الدين والدولة منصهران لا ينفكان، وبدا ذلك في قوله: «اعلموا أنّ الملك والدين أخوان توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه». وبهذا فهو يرى أهمية الدمج بين الديني والسياسيّ، وأن يكون الدينُ بيد المَلِك وحده، لأنّه وفقًا لقوله: «لن يجتمع رئيس في الدين ورئيس في المُلِك في مملكةٍ واحدة قطّ، إلا انتزعَ الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأنّ الدين أُسّ، والمُلكُ عماد». ويرجعُ سبب تأثير الدين في الناس في نظره إلى أنّ: «الدين أُسّ الملك وعماده، ثمّ صار الملك بعد حارسَ الدينِ، فلا بدّ للمُلْكِ من أُسِّه، ولا بدّ للدين من حارِسه». ويخشى أدرشير من بروز أيّ قوة أخرى تملك زمام الدين، أو تتحدث باسم الله بقراءة مغايرة لقراءة السلطة السياسية، فهذه حسب قوله: «رياساتٌ مستسرَّاتٌ»، وهي مهدِّدة لنظامِ الحُكمِ، والحلّ ألا تسمحَ السلطة لأحد بالتَّفقُه في الدينِ بعيدًا عن عينها ومؤسساتها: «وإنّ رأس ما أخافُ عليكم مبادرةُ السِّفْلَةِ إيّاكم إلى دراسةِ الدينِ، وتلاوتِه، والتفقيه فيه».
إذن أدرك أردشير فاعليّة الدين، وقوّة رجل الدين في التأثير على العامّة، لذا فقد نصحَ باستلاب الدولةِ للدين، وتشكيل الأنماط الدينية الخاصّة بها، وإقرار قراءة دينية موحدة، وهذا شبيهٌ بما تمارسه الدولة الإيرانية اليوم في العهدِ الولائيّ من وصايةٍ في توحيد النمط الثقافي، وهو ما سمَّاه الشبستري بــ «الولاية الثقافية».
ثمّ إنَّ أردشير، لم يكتفِ بذلك، أي بمنع بروز تيارات دينية بخلاف القراءة الرسمية، بل ظلَّ يدعو إلى توظيف الدين عبر مؤسساته الرسمية لإفناء خصومه، بعد نعتِهم بالمبتدعين: «فيكون الدينُ هو الذي يقتُلهم ويُريح الملوكَ منهم». وذلك يُذكّرنا بقوانين اليوم «الإفساد في الأرض» التي يُحاكَم بها مئات الإيرانيين سنويًّا، ويُسجنون باسم الدين.
لكن أردشير أدركَ مبكرًا أنّ الدين وحده، أو «أيديولوجية الدولة» ليست كافية لإبقاء النظام، أو ديمومته، فلا بدَّ له من قوّة حامية، وعسكرٍ قائمين، وحُماةٍ مدافعين. ولذا ذكَّر خلفاءه في عهدِه بأهميّة الجيش، الذي يحمي الأيديولوجية ويذُبُّ عن الدولة خصومها في الداخل والخارج. وخصّ الجيش بعنايته ورعايته، حتى يكون له عونًا ومددًا في تجذير مُلكِه.
ولذا فلم يتوانَ أردشير في استعمال القوّة المفرطة واللجوء إلى العسف والقتل لتحقيق غايته المنشودة، وهي: «صحّة الملك»، فصحّة الملك عنده لا تكون إلا باستباحة الدماء، وتخريب العقول، ولذا يجعل الغلظة على خصومِه ومعارضيه من أبواب «الرفق بالرعية». بل ويحثّ خلفاءه على العسف دون وجل أو وخز ضمير، فيقول: «ولا يقولنَّ أخاف العسف، فإنما يخاف العسف من خاف جريرة العَسْفِ على نفسِه، فأمّا إذا كان العسْفُ لبعضِ الرعيّةِ صلاحًا لبقيتها وراحةً له ولمن بقي من الرعية معه من النَّغَل والدَّغل والفساد، فلا يكوننَّ إلى شيءٍ بأسرعَ منه إلى ذلك».
وتلك المقولة تذكّرنا بمقولة رجل الدين مصباح يزدي (1935-2021م) أحد منظّري النظام الإيراني، عندما يُنظّر للتعذيب والعسف فيقول: «الكمّ ليس معيارًا في الحفاظ على الحكومة، بل المعيار أن يقدّم عددٌ من أتباع الإمام عليه السلام، أو ولاية الفقيه المشروعة دعمَهم للمحافظة على الحكومة، أحيانًا تكون نسبة هؤلاء 90%، أو 50%، أو 40%. إنّه الولي الفقيه، مأمورٌ بالمحافظة على الحكومة «الإسلامية»، فما دام هناك من يمكن بواسطتهم المحافظة على الحكومة «الإسلامية» فإنّه ملزمٌ بالمحافظة عليها. لذا، فلا اعتبار بالكميّة». وعن استعمال القوّة ضد المعارضة يقول: «إذا أردت العيش في هذا البلد، عليك القبول بالدولة «الإسلامية» حتى لو استخدَمت معك أساليب القوّة. كلّ من يعارض الدولة «الإسلامية» فهو مدان، وينبغي محاربته، حتى لو بقي شخصٌ واحد في هذه البلاد».
وكأنّ يزدي استقى ذلك التنظير من أردشير الذي كان سيء الظنّ بالجماهير (العامّة)، فيقول عنهم: «إنّ شأن العامّة الإجماعُ على استثقال الولاة والنفاسة عليهم..». ولذا يُحذّر من اجتماع كلمتهم، وتوحُّد مقولتهم، فيقول: «ثمّ يتولَّدُ من كثرتهم أن يَجْبُن الملوك عن الإقدامِ عليهم فإنّ إقدام الملك على جميع الرعية تغريرٌ بنفسه ومُلْكِه»؛ ولذا ينبغي مواجهتهم والعسف ضدهم قبل كثرتهم أو اجتماع كلمتهم، وتوحُّد غايتهم.
وعند النظر إلى فلسفةِ الخمينيّ (1902-1989م) نجدُ أنّه يسير قريبًا من سياسة أردشير في شؤون الحُكْم؛ فيُمركز الدين في الدولة، ويجَمع في يده السلطتين الدينية والسياسيّة على نحوِ ما نصحَ به أدرشير من قبل، وجعلَ الولايةَ للفقيه، وأشركَ بقية الفقهاء الموالين في إدارة شؤون الدولة، ناهيك عن موقع «الحرس الثوري» في مفاصل الدولةِ الإيرانيّة. أما بخصوصِ العامّة فإنّ الخمينيّ جرّدهم من كلّ سلطة، فالحاكمُ عنده مجعولٌ/ منصَّب من الله لا من الناس بالاختيار أو الانتخاب. ولا سيادة للناس بل السيادة لله أولًا، ثمّ للوليّ الفقيه الذي ينوبُ عن المعصوم ومن ثمّ عن الله في الدين والدنيا ثانيًا.
ولذا فإنّ للخمينيّ موقفًا سلبيًا مشهورًا في كتابه «الحكومة الإسلامية» من الثورة الدستورية 1905م، ودستورها الذي انبثق عنها؛ فاتهمها بموالاة الإنجليز، وتغريب الحياة الثقافية والسياسية الإيرانية؛ وبالتالي كان من البديهي أن نرى له موقفًا إيجابيًّا من الشيخ فضل الله النوري رأسُ فقهاء «المستبدة»، والعدوّ الأول للثورة الدستورية. فيقول الخميني عن دستور 1906م: «ما علاقة بنود الدستور جميعًا بالإسلام؟ ثمّة فرقٌ جوهريّ بين الحكومة «الإسلامية» من جهة والملكية الدستورية أو الجمهورية من جهةٍ أخرى، ففي حين يملك ممثلو الشعب أو الملك في الأنظمة الأخيرة السلطة التشريعية الكاملة، تكون السلطةُ التشريعية في الإسلام وسلطة التشريع لله الخالق القادر حصرًا، وليس لأحدٍ حقٌّ في التشريع، ولا يجوز تنفيذ أي قانونٍ يصدُر عن غير المشرّع الإلهي».
إذن يُبينُ الخميني موضعَ الخلاف الرئيسي بينه وبين الدستوريّة، فالدستورية إذا أعطت العامّة حريةَ الاختيار، والانتخاب، وبالتالي السلطةَ التشريعية، فإنّ الخمينيّ يرفض هذا الحقّ ويستلبُه من العامّة؛ لأنّ السلطة التشريعية في نظره هي لله حصرًا وإنفاذها عن طريقِ الوليّ الفقيه.
هذا موضع الخلاف الرئيسي الذي انبنَت عليه الدولة الإيرانية المعاصرة، ومفارقتها عن الدولة المدنية الدستورية الحديثة. ويحرص الولائيون على تلك المفارقة لأنها هي التي تكفل استمرارهم في السلطة باعتبارهم أوصياء على الناس، وولاةً عليهم، بأمرٍ سماويّ لا اختيار للناس فيه.
ويتفق الخمينيّ مع نفس توجّه الشيخ فضل الله النوري، ويرى انتخابات «المشروطة» مجرد مسرحية: «إن الانتخابات في أيام «المشروطة» كانت مسرحية، لسيطرة الأمراء والخانات وعملاء الأجانب عليها، وإنها لم تكن حرة إلا في بعض الموارد»؛ (و«المشروطة» هي حركة سياسية قامت في إيران سنة 1905م للمطالبة برفع الاستبداد وتطبيق الحكم الشوروي، وانقسم الفقهاء والمجتمع الإيراني إزاءها إلى فريقين: فريق داعم لها متبنيًا للدستور والحكومة النيابية، وسُمي هذا الفريق بـ«تيار المشروطة» أو تيار الدستورية، وفريق آخر مجّها ونبذها وسُمي هذا الفريق بـ«تيار المستبدة»).
لكن الخميني في نفس الوقت لم يستطع أن يُمرّر ذلك على الإطلاق لمشاركة المرجعيات العليا حينئذ ودعمها للدستورية، فبرَّر ذلك الموقف براجماتيًّا؛ فإنّ هؤلاء المراجع في نظره ساندوا الدستورية لتقليل الظلم والاستبداد بعد عجزهم عن طرح موضوع الحكم الإسلامي.
والحقيقةُ أن المتتبِّع لمنهج الآخوند وتلامذته كالنائيني والأصفهاني وغيرهم في النجف، وجماعة رجال الدين الدستوريين في إيران كالبهبهاني والطباطبائي، يُدرك أنّهم لم يعجزوا عن طرح موضوع الحكم الإسلامي، بقدر ما كانت قناعتهم ترتكز على مَدْيَنَةِ السياسة، والقبول بالدولة المدنية، وهو ما جعل النائيني نفسه لا يجد فرقًا بين العلمانية القومية وجوهر الحكم الإسلاميّ.
وقد جمعَ الخمينيُّ بين الديني والسياسيّ والعسكريّ، لأنّه أدرك في وقتٍ مبكر أن الحلَّ الوحيد لبقاء السلطة في يد الوليّ الفقيه ليس مجرد تحالفه مع السلطان، على نحو ما كان من المحقق الكركي (1463-1534م) في عهد الصفويين، بل يكمُن الحلُّ في انحصار القوة في يد الفقيه، حتى يمكنه البقاء في السلطة وممارسة مهامِّه، وفرض قراءته الدينية والسياسيّة، ومنع أي محاولة لتوزيع السلطة أو بناء مكابح خارجية حقيقية تمسُّ من جوهر سيادته وهيمنته وولايته على جميع المؤسسات. وبناءً عليه وجدنا ما يُسمى بـ«الحرس الثوريّ الإسلامي»، ووجدنا ممثلين للولي الفقيه في كافة إدارات الجيش والحرس، وسائر المؤسسات الأمنية والسياسية، فأحكمَ قبضتهُ على العسكر، وشكّلَ الجيش على نمطٍ غير مألوف من الطاعة والتدين، والفاعلية المهامّاتية في الداخل والخارج.
وخُلاصةُ القول؛ أن الخميني والولائيين المعاصرين يستقونَ أفكارَهم وطريقتهم في إدارة الشأن العام ليس فقط من قراءةٍ متطرفة للدين والمذهب بمخالفةِ الشائع من الإرث الحوزوي في الفكر السياسيّ، بل أيضًا باندماج وتقاطع تلك القراءة مع قراءةٍ متطرفة أُخرى للإرث السياسي الفارسيّ، وانعكسَ ذلك على الشأنِ العام، ورؤيةِ النُخبة الدينية الحاكمة لمختلف القضايا الشائكة في الداخل والخارج.
وتأتي نتائجُ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي أفضت إلى فوز إبراهيم رئيسي، أحد أهمِّ زعامات «التيار المحافظ»، بعد اتهاماتٍ طالَت مجلسَ صيانة الدستور بهندسةِ الانتخابات، ومقاطعةٍ كبيرة من عمومِ الشعب الإيراني، لتؤكِّد تمسُّك الولائيين بمنهجِهِم، وموقفِهِم من علاقةِ الدين بالدولة، وموقع الشعب في نظام الحكمِ، ولترسُمَ ملامحَ مرحلةٍ تُعتَبر تكريسًا وامتدادًا للفكر الخميني – الأردشيري، التي من المرجّح أن تستمرَ طويلًا، سيما مع ديمومةِ القراءات المؤدلَجة للدين والمذهب، والتاريخ الثقافي للدولة.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد