نجح الرئيس الإيراني المنتَخب إبراهيم رئيسي في الوصول إلى منصب الرئاسة في إيران بعد الانتخابات التي جرت في 18 يونيو 2021م، الأمر الذي طرح تساؤلاتٍ حول احتمالات اتجاه السياسة الإيرانية مع أوروبا نحو التشدّد، بدلًا من الانفتاح، ولا سيّما بعد أن وجّه رئيسي في أولى تصريحاته انتقادًا حادًّا لسياسة حسن روحاني بالتقارب مع الغرب، وأكد على أنه لا يعول كثيرًا عليه لحلّ مشكلات البلاد السياسيّة والاقتصاديّة، وأنّ برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني غير قابلٍ للتفاوض، وهي التصريحات التي تبدو معاكسة للتوجهات الأوروبية التي تستندُ إلى الحوار والمشاركة للحفاظ على تدفق المصالح الأوروبية.
جاء الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو 2018م ليضع العلاقات الأوروبية_الإيرانية محلّ اختبار، حيث عرقلت حملةُ الضغوط القصوى تحقيقَ الأهداف الأوروبية بشأن إيران، وتأثّرت استقلاليتها الإستراتيجية ولا سيّما في مجال التجارة مع طهران بعدما بدت غير قادرةٍ على حماية شركاتها ومصالحها الاقتصادية في مواجهة العقوبات الأمريكية، بل فقدت نفوذها في إيران، وواجهت في هذا الإطار ضغوطًا غير مسبوقة من جانب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وربما هذا ما دفع الأطراف الأوروبية لاستثمار رأس مالها السياسي في الحفاظ على الصفقة النووية، وعرقلة خطة إدارة ترامب باستعادة العقوبات الدوليّة، وحالت دون حدوث إجماعٍ دولٍّي ضد إيران.
مع رحيل ترامب وقدوم إدارة جو بايدن ضغطت الدول الأوروبية من أجل إعادة إحياء الاتفاق النووي، واستندت الإستراتيجية الأوروبية بالأساس إلى الأهمية الإستراتيجية للاتفاق النووي بوصفه نموذجًا فعّالًا لمعالجة قضايا الانتشار ويوفر حمايةً لأمن أوروبا من التهديدات التي قد تنجمُ عن حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، ومن الناحية الاقتصاديّة فإنهُ يعيد لأوروبا مكانتها كأهمّ شريكٍ اقتصادي لإيران، إضافةً إلى أنه يمهد الطريق لإجراء حوارٍ ثُنائي ومفاوضاتٍ متابعة حول مجموعةٍ من القضايا محلّ الاهتمام الأوروبي في مقدّمتها برنامج الصواريخ الباليستية، والدور الإقليمي المزعزع للاستقرار ومِلف حقوق الإنسان، كما يجذبُ إيران بوصفها قوةً مؤثّرةً في الإقليم نحو الغرب بدلًا من سياسة التوجّه شرقًا نحو منافسي أوروبا التاريخيّين روسيا والصين.
وبناءً على ذلك؛ توسطت أوروبا من أجل فتح باب المفاوضات لإعادة إحياء الاتفاق النووي، بوصفها تمتلكُ مفتاح الوصول إلى نتيجةٍ ناجحة، وبدأت المفاوضات في فيينا في أبريل 2021م، وبعد سبع جولات من المفاوضات، تمَّ التوصل لمسودة شبه نهائية لعودة كل طرف لالتزاماته، وبدأت الولايات المتحدة بالفعل في رفع بعض العقوبات عن إيران، ولم تنجح الضغوط حتّى الآن في إدراج أيّ قضايا أخرى في الاتفاق كبرنامج الصواريخ الباليستية، أو نفوذ إيران الإقليمي، ويبدو أنّ إيران حتّى الآن قد نجحت في تحييد قضايا الخلاف عن المفاوضات النووية.
الإشكاليَّة أنه بينما منحت أوروبا إيران فرصةً هائلة بإعادة إحياء الاتفاق النووي دون حسم حقيقي لقضايا الخلاف، وتركها لمفاوضاتٍ متابعة، وهو الخطأ نفسه الذي حدث أثناء المفاوضات النووية في عام 2015م، فإنَّ كافة مصالحها تبدو معرّضة للخطر، حيث تمَّ الدفع بالمتشدِّد إبراهيم رئيسي لمنصب الرئاسة، عبر انتخاباتٍ صورية خالية من المنافسة، ضمن عمليَّة مقصودة تمَّ إعدادها بعناية من قِبل المرشد ومجلس صيانة الدستور، وبدت أهمية تصعيد رئيسي بوصفه الخليفة المحتمل لعلي خامنئي ومن أكثر المؤمنين بمبادئ الثورة والملتزمين بخط المرشديْن الخميني وخامنئي، فهو من وجهة نظر النظام، الأمين على مستقبل الجمهورية وبقاء النظام وعلى تنفيذ أولويات السياسة الخارجية في ظل منعطفٍ حرج تمرُ به إيران.
لهذا، فإنَّ الرهان الأوروبي على أنَّ الانفتاح على إيران سوف يسهمُ في تحرير السياسة من قبضة المتشددين هو مجرد أوهام رومانسية، ويبدو عدمَ إلمامٍ بدينامات السياسة الداخلية الإيرانية وتحكُّم المرشد بخيوط اللعبة السياسية بصورةٍ كاملة سواء تقلد منصب الرئيس إصلاحيًّا أم متشدِّدًا، فالتيارين وجهان لعملةٍ واحدة، ويؤديان أدورًا وظيفية في خدمة النظام الإيراني بصرف النظر عن أيهما هو المستحوذ على منصب الرئاسة، الذي يُعَد بدوره منصبًا شرفيًّا وهامشيًّا مقارنةً بمنصب المرشد. وربما تناور إيران خلال المرحلة الراهنة بالانفتاح والتفاهم مع أوروبا لتمهيد الطريق نحو عمليَّة انتقالٍ محليٍّ سلسل للسلطة يحافظ على هيكل النظام القائم.
بالإضافة إلى أنّ رئيسي مؤتمَنٌ على تأكيد مبادئ السياسة الخارجية، وأهمها هي: العداء للغرب ورفض الهيمنة، والاستقلالية، والاكتفاء الذاتي، والأُمميَّة، ومِن ثَمَّ، فإنه لن يقيّد يد الحرس الثوري في توسيع نطاق نفوذ إيران الخارجي، ولن يقيّد دوره التخريبي على الساحة الأوروبية، ولن يوقف تطوير برنامج الصواريخ الباليستية بوصفه ركيزة دفاعٍ أساسية عن الجمهورية الإيرانية. كما أنهُ سيطلق العنان لعلاقاتٍ متطورة مع روسيا والصين لموازنة العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا، الأهم من ذلك أنَّ رئيسي سيستفيدُ من عودة الاتفاق وعودة مكاسبه الاقتصادية في تمكين المحافظين واستعادة شرعيّتهم المتآكلة، وهي سياسةٌ معاكسة تمامًا لأهداف أوروبا من الحوار والشراكة مع طهران من مدخل العودة للاتفاق النووي.
وأخيرًا، فإنَّ سعي أوروبا لتأسيس نفوذ ومساحة خاصّة بها لدى إيران وفي الشرق الأوسط ككُل، بعيدًا عن المظلة الأمريكية وذلك ضمن التوازنات الدوليّة القائمة وضمن بحثها عن الاستقلالية الذاتية، رهانٌ غير مضمون ولا يمكنُ تحقّقُه على الأرض في ظل فقدان إيران للثقة في أوروبا وفي إمكانية استقلاليتها عن الولايات المتحدة، ولا سيّما بعد وصول رئيسي لمنصب الرئاسة، وبعد التجارب السيئة للشركات الأوروبية مع إيران قبل الاتفاق النووي وبعده، وبالتالي ستظل أوروبا مرتبطةً بشكلٍ وثيق بمسار العلاقات الإيرانية-الأمريكية، والعودة لإيران سيكون في الغالب في بُعده التجاري وليس الاستثماري.
المصدر: Arab News
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد