في مواجهة قم.. موقفُ النجف من الانتخابات البرلمانيّة العراقيّة

https://rasanah-iiis.org/?p=26403

 تُعدّ الانتخابات البرلمانيّة العراقيّة الخامسة التي جرت في أكتوبر 2021م، من أهمّ الانتخابات منذ سقوط نظام صدّام حسين، حتى اليوم؛ نظرًا لأنّها جاءت نتيجة إكراهات وضغوطات الاحتجاجات التشرينية 2019م، ودعوة المرجعية الدينية حينئذ إلى انتخابات مبكرة، في مساندة واضحة لمطالب «الثوّار».   

ويبدو الدين مركزيًا في المشهد الشيعي، فلا يزال «التقليد» حاضرًا لم يتأثر بفعل الحداثةِ والعولمة في الدول العربية والإسلاميّة؛ لأن سياسة نظام صدام حسين، ثمّ الفراغ الذي طرأ بعد سقوطه، أدى إلى ظاهرة تضخم الشعائر والتعبير عنها، والاستمساك بها، كهُويّة تمايُز، ولا يزال هذا التعبير في أوجّه، وذروته. وفي العموم، يبدو الدين في العالم العربي والإسلامي مركزيًّا إلى حدٍّ كبير في الحياة السياسية والشأن العام؛ لأنّه من أدوات تعزيز الشرعية السياسية، ولأنّ الناس تستجيب للدين أكثر من استجابتها للقوانين، ولذا وجدنا اللجوء كثيرًا إلى الفتوى الدينية كسلاحٍ فاعلٍ ضد الخصوم السياسيين من قِبل السلطة الرسمية أو المعارضة الدينية.  

وفي الحالة العراقيّة يبدو المشهد أكثر تعقيدًا بسبب دخول الإيرانيين ومشروعهم القومي والمذهبي، على خطّ الأزمة، ومحاولاتهم توظيف الدين والمذهب لخدمة المصالح الإيرانية في الداخل العراقي؛ فيؤمن الإيرانيون بشمول ولاية الفقيه ولا محدوديتها، جغرافيًّا ومذهبيًّا؛ وبالتالي كانت العراق بحكم الأكثرية الشيعية بيئةً مهمةً للإيرانيين لمحاولة الاستقطاب، وإيجاد مواضع نفوذ. كذلك، فإنَّ حضور رجال الدين والمرجعيات الدينية والتيارات الإسلامية وفصائلها المسلحة، في المشهد السياسي العراقي أربكته وعقّدته في أحايين كثيرة، وعطّلت التحول نحو ديمقراطيةٍ راسخة ودولةٍ دستوريةٍ مدنية.

ولذا يسعى هذا التقرير لمعرفة موقف المرجعية الدينية من الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، ومركزية البُعد الديني، وتأثيره على المزاج الشعبيّ، ومدى إحداث تغيرات حقيقية في المشهد العام.

التجاذبات الدينية: ما قبل الانتخابات

أصدرت المرجعية الدينية بالنجف بيانًا (يوم 29 سبتمبر 2021م) حثّت فيه المواطنين على المشاركة في الانتخابات البرلمانيّة الخامسة. وأقرّت المرجعية أنّ الانتخابات ليست مثالية، لكنها الطريقة الأمثل لتفادي سيناريوهات أشد سوءًا من مقاطعتها: “وإن كانت (أيْ الانتخابات) لا تخلو من بعض النواقص، ولكنها تبقى هي الطريق الأسلم للعبور بالبلد إلى مستقبل يُرجى أن يكون أفضل مما مضى، وبها يتفادى خطر الوقوع في مهاوي الفوضى والانسداد السياسي“.

ثمّ نأت المرجعية بنفسها عن الحزبية الضيقة ولم تُحدد للمواطنين انتخاب أشخاص أو أحزاب معينة، لكنها نصحت بالأُطر الكلية، والتغيير العام: «على الناخبين أن يأخذوا العِبَر والدروس من التجارب الماضية، ويعوا قيمة أصواتهم ودورها المهم في رسم مستقبل البلد، فيستغلوا هذه الفرصة المهمة لإحداث تغيير حقيقي في إدارة الدولة وإبعاد الأيادي الفاسدة وغير الكفوءة عن مفاصلها الرئيسة، وهو أمرٌ ممكن إن تكاتف الواعون وشاركوا في التصويت بصورة فاعلة وأحسنوا الاختيار، وبخلاف ذلك فسوف تتكرر إخفاقات المجالس النيابية السابقة والحكومات المنبثقة عنها، ولات حين مندم».   

ويُمكن القول: إنّ بيان المرجعية شمل ثلاث رسائل، موجَّهة إلى إيران ووكلائها في الداخل، الأولى متعلقة بمسألة السيادة العراقيّة، والثانية متعلقة بالشرعية الدستورية، والثالثة متعلقة بالمال والسلاح والجهات الخارجية.  

1- السيادة العراقيّة: يبدو أنّ المرجعية أقلقها انتهاك السيادة العراقيّة ومحاولات بعض الجهات الداخلية رهن السيادة العراقيّة للقرار الإيراني، فلفتت انتباه الناس إلى ذلك، في البيان بالقول: “ولكنها -أي المرجعية- تؤكد عليهم بأن يدقّقوا في سِيَر المرشحين في دوائرهم الانتخابية ولا ينتخبوا منهم إلا الصالح النزيه، الحريص على سيادة العراق وأمنه وازدهاره، المؤتمن على قيمهِ الأصيلة ومصالحهِ العليا“. فالأولوية لدى المرجعية هي سيادة العراق، ومصالحه العليا، لا مصالح دول أخرى!. ويذكّرنا هذا البيان ببيان المرجعية إبان الاحتجاجات التشرينية في 2019م الذي جاء فيه: “وينبغي التصدي للتدخلات الخارجية في شؤون البلاد، بقوة“. فتُدرك النجف إذن خطورة التدخلات الإيرانيّة في المشهد السياسي والديني العراقيّ، تلك التدخلات التي أربكت الحياة السياسية والاجتماعية في العراق، وأَزَّمت الشأن العام؛ وبالتالي تحاول النجف تقوية الدولة العراقيّة ومؤسساتها للحيلولة دون سقوط القرار العراقي والمؤسسات العراقيّة في الشَّرَكِ الإيرانيّ.      

2- الشرعية الدستورية: لم تنس المرجعية إبداء النصح للناس ألا ينتخبوا أولئك الذين يعملون خارج نطاق الدستور العراقي، فجاء في البيان: «وحذاري أن يمكّنوا أشخاصًا غير أكفاء أو متورطين بالفساد أو أطرافًا لا تؤمن بثوابت الشعب العراقي الكريم أو تعمل خارج إطار الدستور من شغل مقاعد مجلس النواب». وهنا تستخدم المرجعية العبارات الصريحة دون مواربة في تحصين الهُوية العراقيّة «ثوابت الشعب العراقي»، «إطار الدستور»، لاستبعاد الأذرُع الإيرانية التي لا تؤمن بــــ «ثوابت الشعب العراقي»، ولا بــــ «الدستور العراقيّ»، بل ولاءاتهم المذهبية والسياسية عابرة للنجف، وللجغرافيا العراقيّة.

وحرصت النجف في بيانات سابقة، ولا سيَّما في الأحداث العاصفة التي مرت بها الدولة العراقيّة على التذكير بالشرعية الدستورية، فجاء في بيان النجف إبان احتجاجات 2019م: «إنَّ احترام إرادة العراقيين في تحديد النظام السياسيّ وَالإداريّ لبلدهم مِن خلال إجراء الاستفتاء العام على الدستور والانتخابات الدورية لمجلس النواب هو المبدأ الذي التزمت به المرجعية الدينية وأكدت عليه منذ تغيير النظام السابق، واليوم تؤكد على أنّ الإصلاح وإنْ كان ضرورةً حتمية، كما جرى الحديث عنه أكثر مِن مرة،  إلا أنَّ ما يلزم مِن الإصلاح ويتعين إجراؤه بهذا الصدد موكولٌ أيضًا إلى اختيار الشعب العراقي بكل أطيافه وألوانه مِن أقصى البلد إلى أقصاه، وليس لأيّ شخصٍ أو مجموعةٍ أو جهةٍ بتوجه معين أو أيّ طرفٍ إقليمي أو دولي أنْ يصادر إرادة العراقيين في ذلك ويفرض رأيه عليهم».

فنلحظ التناغم الواضح بين البيانين، والتأكيد النجفي على نقاط بعينها، تُعَد من أهم معالم الخلاف بين طهران والنجف، في إشارة إلى عدم تراجع النجف عن موقفها، وقراءتها الدينية والسياسية، وحرصها على الاستقلال، وتمسكها بقراءتها الدينية وإرثها الحوزوي، وبقاء المسافة اللازمة مع الإيرانيّ، الذي يودّ استلابها وإضعافها لصالح شمولية ولاية الفقيه!.  

3- التدخلات الخارجية: وأخيرًا وجّهت المرجعية رسالتها إلى القائمين على أمر الانتخابات، وليس إلى الناس هذه المرة، بقولها: «كما تؤكد المرجعية على القائمين بأمر الانتخابات أن يعملوا على إجرائها في أجواء مطمئنة بعيدة عن التأثيرات الجانبية للمال أو السلاح غير القانوني أو التدخلات الخارجية، وأن يراعوا نزاهتها ويحافظوا على أصوات الناخبين فإنها أمانة في أعناقهم». وحرصت النجف على تكرار مسألة التدخلات الخارجية في كلّ مناسبة، إذ ترى المرجعية أنّ التدخلات الخارجية هي سبب المشكلة الرئيسة في العراق، وعلى سبيل المثال، حذّرت المرجعية من التدخلات الخارجية في نوفمبر 2019م عندما قال عبد المهدي الكربلائي في خطبة الجمعة: «إن التدخلات الخارجية المتقابلة تنذر بمخاطر كبيرة وتحويل العراق إلى ساحة صراع وتصفية حسابات سيكون الخاسر فيها هو الشعب». وفي سبتمبر 2020م قال آية الله السيستاني أثناء لقاء له مع جينين هينيس- بلاسخارت، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق: «إن الحفاظ على السيادة الوطنية ومنع خرقها وانتهاكها والوقوف بوجه التدخلات الخارجية في شؤون البلد وإبعاد مخاطر التجزئة والتقسيم عنه مسؤولية الجميع..، فالمطلوب من مختلف الأطراف الارتقاء إلى مستوى المسؤولية الوطنية وعدم التفريط لأي ذريعة بسيادة البلد واستقراره، واستقلال قراره السياسي».

هذا التكرار يشير إلى مركزية تلك المسألة في عقل المرجعية، وخشيتها من تضخم النفوذ الإيراني، ومحاولة الإيرانيين استلاب القرار العراقي، واستلاب الإرادة الشعبية العراقيّة، وليس هذا ببعيد عن دعوة النجف المستمرة إلى حصر السلاح المنفلت، وضمّ جميع الفصائل تحت مظلة الدولة العراقيّة.  

وبيان المرجعية الأخير، وإن صدر عن آية الله السيستاني، إلَّا أنه لم يكن موقف مرجعيته وحده، بل لاقى البيان إقرار آية الله بشير النجفيّ، الذي قال إنه يكتفي ببيان آية الله السيستاني.   

طهران في مواجهة النجف

ولهذه الرسائل النجفية أبعادٌ وجذورٌ، لا يُمكن تجاوزها، إذا أردنا فهم أُسس الخلاف بين طهران-النجف؛ فكان للمرجعية النجفية موقفٌ واضح من الانتخابات البرلمانيّة في العراق، ومن دسترة الحياة السياسية منذ سقوط نظام صدام 2003م. ومع سقوط نظام صدام حسين، أدركت المرجعية خارطة الصراع الداخلي والإقليمي جيّدًا، وكذلك الإرث الحوزوي الذي ورثته عن مرجعية الخوئي، ومن قبله محسن الحكيم، ومن قبله الميرزا النائيني وفقهاء الدستورية، فتمسكت بالانتخابات والرجوع إلى الناس في كثير من المسائل السياسية الشائكة؛ وارتأت أن الرجوع إلى الناس يحفظ للمرجعية استقلالًا في وجه الضغوط الإيرانية، التي تريد تجاوز الشعب العراقي في كثير من المسائل، وفرض سياسة أمر واقع. تلك السياسة النجفية كفلت لها تمرير قراءتها في نظام الحكم وشكل الدولة بعيدًا عن «ثيوقراطية» ولاية الفقيه التي تنبذها النجف.

تاريخيًّا، تؤمن النجف بالدولة المدنية الدستورية في فترة غياب «الإمام المعصوم»، وترى أنّ الانتخابات ودور الشعب في الشأن العام، والبرلمانات والمؤسسات الرقابية بمثابة الضمانات والمكابح الخارجية التي تحتاجها الدولة في فترة غياب «المعصوم» للحيلولة دون الاستبداد والفساد. وتثق النجف في اختيار الناس، إذ ليس من المعقول أن تختار الأغلبية المسلمة أمرًا مناقضًا لثوابت الشريعة وضرورياتها، وإذا فعلوا ذلك من باب الخطأ فسوف يستدركوه في الانتخابات اللاحقة، وفقًا لما نقله خوان كول عن المرجع السيستاني. 

هذه السياسة النجفية، لاقت ترحيبًا من المسؤولين العراقيين المناهضين لتضخم الدور الإيراني، فتحصنوا خلف بيانات النجف، دون اشتباك مباشر مع طهران، فبعد بيان المرجعية بخصوص الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، أبدت عددٌ من المؤسسات العراقيّة ترحيبها بالبيان.

لكن الجانب الإيراني استعمل نفس السلاح في مواجهةِ النجف التي عَرّضت بالسياسة الإيرانية، فأصدر آية الله كاظم الحائري فتوى حرّم فيها إعطاء الصوت أو تأييد: «من يدعو لبقاء قوات الاحتلال على أرض العراق، أو لا يدعو إلى إخراجها». وحرَّم كذلك انتخاب: «من ينصب العداء لقوى الحشد الشعبيّ، أو من يستتر تحت دعاوى دمج الحشد مع القوات الأمنية لتضعيفه أو تمييعه، سعيًا وراء إرضاء الأجانب الأعداء والفاسدين».

ويبدو أنّ جزءًا من تلك الفتوى موجَّهٌ ضد مرجعية النجف التي تطالب دومًا بدمج الحشد الشعبي مع القوات الأمنية. ونلحظُ أن فتوى الحائري جاءت بتاريخ (02 أكتوبر)، أي بعد فتوى السيستاني (المؤرخة بتاريخ 29 سبتمبر) بيومين اثنين فقط. والحائري من المؤمنين بولاية الفقيه، والمتعصبين لها، وهو مرجعٌ دينيٌ وروحي لكثير من عناصر الفصائل المسلحة والتي تعمل خارج نطاق القانون والمؤسسات الوطنية.     

لكن على المستوى الفنّي والفقهي فإنّ التحريم لا يكون إلا بنصّ، وعندما يُحرّم الحائريّ انتخاب من يعادي الحشد الشعبيّ، أو الذي يدعو إلى دمجه في المؤسسات الأمنية العراقيّة الوطنية، فكأنّه أولاً يجعل الحشد «مقدسًا معصومًا» لا يجوز مخاصمته، أو الخلاف معه، وكأنّه ثانيًا يجعل انتخابه في مرتبة الواجبات، وهذا بعيدٌ عن الصناعة الفقهية الدقيقة، إضافة إلى أنّه يُعَقْدِن الظنيات «السياسية»، ويجعلها في مرتبة اليقينيات التي لا يجوز الخلاف حولها. وتلك ممارسة عملية لولاية الفقيه ووصايته حتى على الفقهاء الآخرين!.  

البُعد الديني ومستقبل الخلاف الشيعي-الشيعي

والأخطر في فتوى الحائري هو عقدنته للسياسة، ورفْض نتائج الانتخابات من أذرع طهران ووكلائها، وقد أظهرت نتائج الانتخابات حصول التيار الصدري على أغلبية برلمانية، والتيار الصدري ليس محسوبًا على إيران، فبينهُما خلافات تاريخية شخصية وعلمية منذ حياة المرجع محمد الصدر، بل وتتهمه أقلامٌ محسوبة على طهران بأنه حليف لخصوم طهران الإقليميين

وفي خطابٍ متلفز (11 أكتوبر 2021م) سارع مقتدى الصدر برسالة تطمين إلى الدول الإقليمية والدولية، فطمأن السفارات الأجنبية بقوله: «كل السفارات مرحّبٌ بها مالم تتدخل في الشأن العراقي وتشكيل الحكومة»!.  

وحمل رسالة تهديد للميليشيات والفصائل المسلحة بقوله: «لن نسمح بالتدخلات على الإطلاق، ومن الآن فصاعدًا يجب حصر السلاح بيد الدولة، ويمنع استخدامه خارج هذا الإطار، وحتّى مِمَّن كانوا يدعون المقاومة». فهو هنا يُصرّح برفضه للتدخلات الإيرانيّة، ولسياسة السلاح المنفلت الذي تنتهجه الميلشيات بعيدًا عن الدولة العراقيّة.

وجاء ردّ فعل كتائب حزب الله سريعًا، بعد خطاب الصدر (وتحديدًا يوم 12 أكتوبر) فشككت في نتائج الانتخابات، على لسان أبي علي العسكريّ الناطق باسم الكتائب، الذي قال: «إنَّ ما حصل في الانتخابات التشريعية يمثل أكبر عملية احتيال والتفاف على الشعب العراقي»!. ثمّ وجّه رسالة إلى الحشد للدفاع عن نفسه، فيما يبدو أنها ردٌّ على تهديدات الصدر: «على الحشد الشعبي أن يحزم أمره ويستعد للدفاع عن كيانه المقدس». ثمّ جاء التهديد والتشكيك من حلفاء آخرين للكتائب، فصرّح هادي العامري، زعيم تحالف الفتح، برفضه لنتائج الانتخابات، قائلًا: «لا نقبل بهذه النتائج المفبركة مهما كان الثمن، وسندافع عن أصوات مرشحينا وناخبينا بكل قوة» . وقال قياديّ في عصائب الحق: «لن نسكت وسوف نزلزل الأرض تحت أقدام الخونة والمارقين».  مع أنّ قادة من تلك الفصائل أصدروا قبل الانتخابات تصريحات عديدة، يرحبون فيها بالانتخابات، ويتوقعون فوزًا ساحقًا لما سموه بـــــ «فصائل المقاومة»!، لكن النبرة تغيرت من الترحيب إلى التشكيك بعد الخسارة الفادحة لتلك الفصائل!.        

ويبدو أنّ الصدر يُدرك جيدًّا تلك المصاعب والعثرات التي ستواجه أي حكومة تعمل على كبح حقيقي لسلاح الميليشيات، فأراد بهذا الخطاب التفاف القوى المدنية، والمرجعية الدينية النجفية خلف مشروعه السياسيّ، لمواجهة حلفاء إيران، والمدعومين منها. ولكنّه عاد، بعد تهديدات الفصائل، ليستعمل لغة أخفّ في تغريدة له يوم (12 أكتوبر 2021م) دعا الجميع فيها إلى: «ضبط النفس»، والتحلي بالروح الوطنية، والالتزام بالطرق القانونية فيما يخص الاعتراضات الانتخابية، محذرًا من اللجوء إلى «ما لا يحمد عقباه». وفي نفس السياق قال عضو التيار الصدري صفاء الأسدي: «إنّ الصدر ليس مثل غيره، ولن يسمح بمصادرة حق المواطن العراقي». وهي رسالة إلى القوى الشيعية المسلحة التي يخشى الصدرُ لجوءها إلى السلاح لحل الخلاف الشيعي-الشيعي.  

نحن إذن أمام خلاف داخل البيت الشيعي، بين فريقين يرتكز كل منهما على الدين والسلاح، والخلاف وإن بدا سياسيًّا وانتخابيًّا إلا أنّ له جذورًا فكرية وأيديولوجية متعلقة باختلاف القراءات والتأسيسيات، فالصدر والتيار الصدري يرى أنّه الممثل الشرعي لإرث المرجع الراحل محمد الصدر، في حين تنتسب تيارات أخرى كالعصائب إلى محمد الصدر، وتنسب فكرها وممارساتها السياسية إلى خطّه، وفي نفس الوقت تتماهى مع القراءة الولائية الإيرانية، وهو ما يُقلق مقتدى والتيار الصدريّ، ليس فقط لأنّ ثمة خلافًا واسعًا بين المرجع الراحل محمد الصدر والإيرانيين، ولكن لأنّ مقتدى الصدر لا يريد الاندماج مع ولاية الفقيه الإيرانية، ولا يرى شموليتها الجغرافية والمذهبية، وله مشروعه السياسيّ الخاص، وقراءته الدينية الخاصة أيضا والتي يراها أجدر من القراءة «الولائية»!. ولذا فخطابه هنا يتماهى مع بيانات النجف المتتالية، وكأنّه يتحصن بالمرجعية العلياً، ودعوتها الحثيثة لحصر السلاح بيد الدولة منذ هزيمة ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، ضد العدوّ المشترك، الذي يُريد أن يسلب النجف مركزيتها، ويسلب الصدر تصدره السياسيّ.    

لكن ومع ذلك فربما يُغلّب الصدر الجانب البراجماتيّ، ويسعى إلى توافقٍ مع خصومه في البيت الشيعيّ، على غرار ما حصل في يونيو 2018م، عندما تحالف مع العامريّ، بعد اشتباكات وتصريحات مضادة من الطرفين، وصلت لدرجة التهديد باستخدام السلاح من الجانبين، واستخدام سرديات عنيفة من قبل التيار الصدري ضد الميليشيات، مثل: «الميليشيات الوقحة»، «ذيول إيران»، ثمّ بعد التحالف السياسيّ وُصف العامري من الصدر بـــ «الأخ الشقيق»!. وهذا السيناريو يُرجّحه تغريدة الصدر (يوم 17 أكتوبر 2021م) التي قال فيها: «من الآن فصاعدًا لا ينبغي أن تكون الانتخابات، ونتائجها وما يترتب عليها من تحالفات مثارًا، وبابًا للخلافات والاختلافات، والصراعات والصدامات، بل ويمنع ويحرم الاقتتال، وزعزعة السّلم الأمنيّ، والإضرار بالشعب وأمنه وقوته»، ثمّ ختم بيانه بقوله: «فالعراق لا يحتاج إلى حربٍ، بل إلى سلمٍ وسلام»!. وهذا البيان قريب من مقولاته سنة 2018م عندما قال: «خذوا السلطة وخلوا لنا الوطن»، و«ما أنا وما قدري وما خطري كي يدفع العراقيون ضريبتي؟»، و«فإذا كان انتصار آل الصدر بداية الانتقام من العراق والعراقيين فلن أسمح بذلك، فما خُلقنا نحن آل الصدر إلا قرابين للشعوب المقهورة».  

فنحن إذن أمام سيناريوهات عديدة، بعضها عقلانيّ، وبعضها متطرف، وبعضها مدنيّ وبعضها طائفيّ، وكلها سيناريوهات لا تغيب عنها القراءات الدينية والمذهبية الخاصة بكلّ فريق، ولا الفتوى المُسيَّسة!.

الخلاصة

تشير دلالات النتائج الانتخابية إلى مركزية المرجعية الدينية في النجف وفاعليتها بين حواضن التقليد، وثقة المواطن العراقي فيها، قبال المراجع الولائيين، فقد آتت فتوى آية الله السيستاني أُكلها، وفشلت الفتاوى الأخرى لكاظم الحائري وغيره في التأثير على الناخب العراقيّ الشيعي. ذلك أنّ الجيل التشريني، من الشباب والنساء يريد حياة كريمة، وإصلاحات حقيقية تمس البنية الاقتصادية والاجتماعية لا مجرد وعود دينية ومذهبية، وطائفية. فقد تجاوز هذا الجيل النمط التقليدي الدعوي والديني، وبرزت مجموعات مدنية وعلمانية من داخل الجماعة الشيعية، التي كانت متجاذَبة سابقًا بين مراجع التقليد فقط. هذا التجاوز لاحظهُ آية الله مصباح يزدي في الحالة الإيرانية سنة 2009م إبان الحركة الخضراء، ونصح باستخدام القوّة ضد معارضي ولاية الفقيه حينئذ، وبالفعل استُخدمت القوة والعنف المفرط، بتبريرات فقهية وفلسفية دينية ومذهبية، بيد أن المشهد العراقي يختلف كثيرًا، لأنّ إيران وإن كان لها دورٌ كبير في الداخل العراقي، إلّا أنّ مركز الدولة سياسيًّا وحوزويًّا ليس خالصًا لها، بل ثمة فاعلون آخرون، ومن داخل الجماعة الشيعية نفسها؛ وبالتالي فإنّ هناك توازن ربما يؤدي في نهاية المطاف إلى تغليب العامل البراجماتي، داخل البيت الشيعي كما حدث في فترات سابقة، ومحاولة تخفيف حدة التهديد بسلاح الفتوى وسلاح الميليشيات.  

وفي كلٍّ، فإنه من المرجَّح أن نجد تكثيفًا لاستخدام الدين وتوظيف الفتوى من كافة الأطراف الفاعلة، في المرحلة المقبلة، بغية تعزيز شرعيةٍ، أو تمتين حواضن شعبية وتقليدية، أو محاولة التقليل من فُرص الخصوم ورصيدهم السياسيّ.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير