الصحوة الجيوسياسية لأوروبا ضد روسيا  

https://rasanah-iiis.org/?p=28121

المقدمة

توجَّت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها المنتصر الأكبر بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد الحرب الباردة. قادت حلف الناتو من أجل ترسيخ واقعٍ سياسيّ جديد في أوروبا يخدم مصالحها، وقامت بتوسيعه؛ لكي يحقّق لها المزيد من الأهداف والقوة على الساحة الدولية، والأوروبية على وجه التحديد. وسعت واشنطن لإيجاد المبرر لبقاء قواعدها العسكرية في أوروبا، وإفشال الجهود السياسية لكلٍّ من فرنسا وألمانيا نحو استقلال القارة الأوروبية عن الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ذات الوقت عزل روسيا عن أوروبا، وإفشال أية محاولة للتكامل أو التقارب الاقتصادي والسياسي والعسكري معها، وكذلك ضم دول أوروبا الشرقية وإبعادها عن البقاء في المدار الروسي؛ كي لا تظهر من جديد روسيا على أنها منافسةً للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وتظل الولايات المتحدة منفردةً بأكبر قدر من القوة.

عبر التاريخ، لطالما بحثت الدول العظمى عن عدو، وإذا لم تجده تتعمد صناعته. يبدو أنّ وجود العدو، هو سر بقاء الأمم واستقواؤها؛ فالشعوب دون خصمٍ لدود تضعَف وتنكفئ وتموت. دون عدو لن تجد الدولة المبرر السياسي والشعبي لبناء القوة، والبقاء في حالة يقظة واستعداد، ولن تتمكّن من حشد المجتمع خلف قيادتها السياسية، أو تبرير التدخُّلات الخارجية. شكَّلت حوادث 11 سبتمبر مبررًا وذريعة أمريكية لغزو أفغانستان، والبقاء فيها 20 عامًا. كذلك وبمبرّرٍ كاذب، احتلت أمريكا العراق بدعاوى امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل. أوروبيًا، تدرك أمريكا أنّ «الناتو» لن يستمر قائمًا دون وجود عدو جيوسياسي كبير. بقي الحلف ضامنًا للأمن الأوروبي ضد التهديد الجيوسياسي، الذي كان متمثِّلًا في الاتحاد السوفيتي لأكثر من سبعة عقود. انهار الاتحاد السوفيتي وغاب الخطر الجيوسياسي؛ فبدأ مبرر وجود وبقاء «الناتو» يتآكل. وصل الحلف إلى مستوى من الضعف جعل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصفه في نهاية 2019م، بأنه في حالة «موت إكلينيكي».

أوروبا تاريخيًا عوَّدت العالم أنها لا تستيقظ إلّا عند الأزمات والصدمات، وليس لديها في الغالب إستراتيجيات استباقية ضد المهددات، وإذا انتهت الأزمة تعود كل الترتيبات الأمنية والدفاعية المُستحدَثة إلى وضعها السابق. حاليًا، أجبر الغزو الروسي لأوكرانيا الأوروبيين على إعادة تشكيل نظامهم الأمني، وتقديم عددٍ من المبادرات الإستراتيجية وتوظيف بعض الأدوات الجديدة، لكن يتساءل العديد من الأوروبيين حول طبيعة هذه القفزة الجيوسياسية الأوروبية بعد أن ينتهي الغزو الروسي لأوكرانيا؟ وهل بالفعل يمكنُ لدول الاتحاد الأوروبي تبنِّي المبادرة الفرنسية «مشروع الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي»، أم أنّ الغزو الروسي أعاد الحياة لحلف الأطلسي وأنعشه، وأوجد المبرر لبقاء الحلف واستمرار اعتماد أوروبا عسكريًا على الولايات المتحدة؟

أوّلًا: حلف الناتو كضامن للأمن الأوروبي ضد روسيا

بعد الحرب العالمية الثانية، باتت واشنطن مقتنعةً أنّ منافسها القادم هو الاتحاد السوفيتي، الذي خرج أيضًا منتصرًا من الحرب ضد ألمانيا. أدركت الولايات المتحدة أنّ عليها وضع قواعد جديدة للعبة الجيوإستراتيجية القادمة في أوروبا، حيث دارت أغلب معارك الحرب ضد النازية. كان ستالين يفكر أيضًا بنفس الطريقة، وأنه يجب أن يحيط روسيا بدول حليفة لا توالي واشنطن. خلال خمسة عقود تقريبًا، لم ينجح الاتحاد السوفيتي في تأسيس الدولة الحديثة، ولا توفير الرفاه الاقتصادي، ولا منح الحريات؛ فانهار وانهارت معه دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكه، وابتعدت عنه باتجاه أوروبا الغربية وحلف الناتو، باحثةً عن الرفاه الاجتماعي والحكم الديمقراطي والحماية العسكرية من روسيا.

  1. التوسُّع الجيوإستراتيجي للحلف باتجاه تطويق روسيا

رغم تغيُّر الظروف والسياقات التي نشأ فيها الحلف، تفكَّك الاتحاد السوفيتي، وانهار نظام القطبية الثنائية، وانتهت الحرب الباردة، وتوحَّدت ألمانيا، وتشكَّل الاتحاد الأوروبي، وصعدت الصين، وتغيَّرت البيئة الدولية التي نشأ فيها «الناتو» تغيُّرا جذريّا، وظلَّت روسيا تمثّلُ عدو الغرب الأول، وظل الحلف يتمدد شرقًا دون توقُّف.

عندما تأسس الحلف عام 1949م، لم يكُن يشمل إلّا 12 دولة فقط، هي: الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، كندا، بلجيكا، الدنمارك، فرنسا، أيسلندا، إيطاليا، لوكسمبورغ، هولندا، النرويج، والبرتغال. وفي عام 1952م، انضمت اليونان وتركيا، وفي 1955م انضمت ألمانيا الغربية، وبعدها إسبانيا عام 1982م؛ ليصبح عدد المنضمين للحلف 16 دولة. بعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي وانهيار حلف وارسو، بدأت دول شرق أوروبا التي كانت جزءًا من الحلف الشيوعي السابق في الانضمام لـ «الناتو». انضمت بولندا والمجر والتشيك عام 1999م، ولحقت بها رومانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا في 2004م، وهو العام نفسه الذي شهد انضمام دول البلطيق الثلاث؛ لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، التي هي على تماسّ مباشر مع روسيا. ثُم انضمت ألبانيا وكرواتيا في 2009م، وجمهورية الجبل الأسود (مونتينيغرو) عام 2017م، وكانت جمهورية شمال مقدونيا هي الدولة الثلاثين والأخيرة التي تنضم للحلف عام 2020م.[1] واستمر «الناتو» في تعزيز قدراته العسكرية وتحفيز النشاط العسكري لدول الكتلة، وزيادة توسُّع الحلف، وإقامة قواعد عسكرية على مقربة من الحدود الروسية، وهو ما رأته موسكو يشكل تهديدًا لأمنها القومي.

لكن يجب أن يذكر أنه قبل ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014م، لم يكُن لدى «الناتو» أيّ خطط لنشر قوات مقاتلة في الجزء الشرقي من الحلف. أتى الغزو الروسي للقرم بمثابة إنذارٍ مبكر عن النوايا الروسية القادمة، يضافُ إلى الإنذارات السابقة، خاصةً غزو روسيا لجورجيا في 2008م. أمام نوايا بوتين في مواصلة تأمين مجال روسيا الحيوي باتجاه شرق أوروبا، شرَع الحلف في تعزيز وجوده العسكري في الأجزاء الشرقية، كنوعٍ من الردع وتأمين الدفاع عن دول الحلف الشرقية؛ فمثلًا في قمة «الناتو» لعام 2016 في وارسو، واستجابةً للمخاوف من الزحف الروسي باتجاه أطراف الحلف الشرقية، وبعد أن سيطرت روسيا  على شبه جزيرة القرم، وافق رؤساء دول وحكومات الحلف على تعزيز الوجود الأمامي لـ «الناتو» في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية للحلف.

  • تعزيز الوجود الأمامي لــ «الناتو» في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية للحلف

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وافق الحلفاء على إنشاء أربع مجموعاتٍ قتالية متعددة الجنسيات. تأسّس هذا التعزيز الأمامي للحلف لأول مرة في عام 2017م، مع إنشاء أربع مجموعاتٍ قتالية متعددة الجنسيات بحجم كتائب في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، على أساس التناوب. ثُم تلا ذلك تعزيزات بمجموعاتٍ قتالية إضافية أخرى في بلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا، بقيادة المملكة المتحدة وكندا وألمانيا والولايات المتحدة على التوالي، وتُعَد قوات قوية وجاهزة للقتال؛ لإثبات أنّ الهجوم على حليف واحد سيُعَد هجومًا على الحلف بأكمله. وبذلك يرتفع العدد الإجمالي للمجموعات القتالية متعددة الجنسيات إلى ثمانية، تمتد على طول الجناح الشرقي للحلف -من بحر البلطيق في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب- بينما يواصل الحلفاء المساهمة بالقوات والقدرات برًا وبحرًا وجوًا في منطقة البحر الأسود[2].

أيضًا تمّ تشكيل وحدات برية في جنوب شرق التحالف حول لواء متعدد الجنسيات، تحت الفرقة متعددة الجنسيات في الجنوب الشرقي برومانيا. في البحر، نشر «الناتو» المزيد من السفن، وأجرى المزيد من التدريبات البحرية. في الجو، كثَّف الحلفاء تدريبهم؛ ما ساهم في تحسين الوعي بالحالة، وتعزيز الاستعداد القتالي، ورفع الكفاءة القتالية للحلف[3].

كذلك، منذ بداية مارس 2022م، بدأ الحلفاء في إرسال سفن وطائرات وقوات إضافية إلى أراضي «الناتو» في شرق وجنوب شرق أوروبا؛ ما يعزز موقف الردع للحلف والدفاع عنه. وهذا يشمل الآلاف من الجنود الإضافيين إلى مجموعات القتال التابعة للحلف، والطائرات المقاتلة لدعم مهام دورياته الجوية، والقوات البحرية المعززة في بحر البلطيق والبحر الأبيض المتوسط (انظر شكل 1). ورغم تراجع الثقة في حلف الناتو في السنوات الأخيرة، خاصةً من قِبَل الأوربيين، فإنّ الغزو الروسي لأوكرانيا ساهم في إعادة الروح إلى الحلف، وجعله يتكيَّف من جديد ويخطِّط وَفقًا لما يراه بأنها مهدِّدات روسية جديدة.

شكل (1): توزيع قوات «الناتو» في أوروبا الشرقية بعد تعزيزاته الأخيرة

المصدر: موقع الناتو، (21 مارس 2022م)، تاريخ الاطلاع: 31 مارس 2022م، https://bit.ly/3iU59IV

ولكي تتمكن دول أوروبا من هزيمة روسيا بشكل حاسم، عليها أن تستولي على موسكو. لكن المسافة إلى موسكو طويلة؛ ما يتطلب نقل تعزيزات وإمدادات إلى الأمام. ومع التقدُّم باتجاه روسيا ستضعف حتمًا قوات المهاجمين؛ فقد وصل هتلر ونابليون إلى موسكو منهكين، كلاهُما تعرَّضا للاحتكاك والوهن؛ بسبب بُعد المسافة والشتاء القارس. لذلك؛ فـ «الناتو» يسعى للتموضُع الاستباقي قريبًا من الحدود الروسية، حيث تكون المدن الروسية في مرمى نيرانه. في ذروة الحرب الباردة، كانت سانت بطرسبرغ على بُعد حوالي 1000 ميل من قوات الحلف، وموسكو على بُعد حوالي 1300 ميل. اليوم، سانت بطرسبرغ لا تبعد إلّا حوالي 100 ميل، وموسكو حوالي 500 ميل؛ ما فهمه بوتين هو أنّ «الناتو» والغرب عمومًا أصبح مهدِّدًا مباشرًا. انظر (شكل 2).

شكل (2): تقلُّص مسافة الأمان بين روسيا وأعضاء «الناتو»

Source: GPF, Russia’s Search for Strategic Depth,17 November 2020, Accessed:12April 12, 2020, https://bit.ly/3xmuS4X

  • نشر منظومة الدرع الصاروخي يرعب موسكو 

الولايات المتحدة كانت قد انسحبت في عام 2002م من معاهدة الدفاع ضد الصواريخ مع روسيا، متذرعةً بالحاجة إلى تطوير نظام دفاع صاروخي عالمي للدفاع ضد ما تسميهم بـِ «الدول المارقة»؛ إيران وكوريا الشمالية. هذا المبرر الأمريكي لم يقنع روسيا إطلاقًا، التي باتت متأكدةً من اقتراب الصواريخ الأمريكية من حدودها، وأنه لا بد من شنّ عملٍ ما لوقف مخاطر هذا الدرع على الأمن الروسي.

تقوم فكرة الدرع الصاروخي الأمريكي على إنشاء قواعد عسكرية، وتجهيز صواريخ ومنظومات دفاعية في البر والبحر؛ لمنع وصول أيّ صاروخ باليستي عابر للقارات إلى أراضي الولايات المتحدة أو أحد حلفائها. وتملك الولايات المتحدة قواعد جاهزة، أو أنها بصدد الإنجاز. ويقوم برنامج الدرع الصاروخي على كشف أماكن منصات إطلاق الصواريخ الهجومية المعادية، وتعقُّب الصواريخ منذ إطلاقها وتدميرها. الهدف من هذا الدرع، هو ردع هذه الدول على تطوير واستخدام مثل هذه الصواريخ الباليستية، أو تبنِّي سياسة الهجمات الصاروخية بشكل عام ضد المصالح الأمريكية والغربية، إضافةً إلى تقويض قدرة الردع الروسية فيما تراه أنه مجالها الحيوي[4].

ومن أكبر القواعد الأمريكية في شرق أوروبا، 6 قواعد في بولندا يتوزع فيها 5500 جندي أمريكي، كما تراجعت واشنطن عن إنشاء قاعدةٍ لها في التشيك. وفي هذين البلدين القريبين من الحدود الروسية، نشرت الولايات المتحدة اثنتين من أشهر وأقوى منظوماتها الدفاعية وصواريخها الأكثر تطوُّرًا، والقادرة على اعتراض أسرع الصواريخ الهجومية، وهُما: منظومة «إيجيس أشور» Aegis ashore)) ومنظومة «ثاد» Thaad)). وفي سنة 2016م، سبق أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن تأسيس قاعدة في رومانيا بتكلفة بلغت 800 مليون دولار، الهدف منها المساهمة في تعزيز الدرع الصاروخي الأمريكي، والعمل بجانب قوات حلف الناتو[5].

وقَّعت أيضًا بولندا اتفاقية مع شركتَي Lockheed Martin وRaytheon؛ لشراء أنظمة Patriot PAC-3 ورادارات مكمِّلة لها بقيمة 4.75 مليارات دولار. وستتضمن الدفعة الأولى بطاريتَي صواريخ Patriot، تتألف من 16 قاذفًا وصواريخPAC-3 ، وبحسب تقارير صحافية دولية، فإنّ عملية التسليم لهذه الأنظمة إلى بولندا يُتوقّع أن تتم في العام الجاري (2022م)؛ حيث ستصبح الوحدة الأولى مميدنة في العام 2024م. أُبرِمت هذه الصفقة، بعد أن بدأت روسيا بنشر صواريخ إسكندر Iskander في كاليننغراد. وبحسب مجلة «فورين بوليسي»، فإن الجيش الروسي أرسل صواريخ إسكندر إلى الخطوط الأمامية على الحدود مع أوكرانيا، إذ تُعَد أقوى وأهم منظومة صواريخ لدى الجيش الروسي، وتدخل في خانة الجدار الحديدي لروسيا للدفاع عن حدودها ضد أيّ عدوان محتمل. وتُعَد هذه الصواريخ من أسرع الصواريخ في القرن الـ 21، والهدف منها إسقاط منظومات الدفاع الجوي والصاروخي للعدو، ويبلغ مداها 500 كيلومتر[6]

والحقيقة أنّ صواريخ إسكندر كانت مصدر قلقٍ لأوروبا قبل الحرب الأوكرانية، وأثارت رعب الأوكرانيين، بعد استخدامها من قِبَل الروس خلال أيام الحرب. وقالت صحيفة «نيويورك تايمز» إنّ مسؤولي المخابرات الأمريكية اكتشفوا أنّ وابل الصواريخ الباليستية التي أطلقتها روسيا على أوكرانيا، يحمل «مفاجأةً، تمثلت في أنّ الصواريخ بإمكانها خداع رادارات الدفاع الجوي والصواريخ الحرارية، عبر ذخيرة إلكترونية غامضة تنطلقُ على شكل سهمٍ لونه أبيض وذيله برتقالي، بمجرد محاولة استهداف الصاروخ من أنظمة الدفاع الجوي الأوكرانية. هذه الذخيرة الإلكترونية تحتوي على مصدر حرارة لجذب صواريخ الدفاع الجوي القادمة». وربما يفسّر هذا الكشف، الصعوبة التي تواجهها أسلحة الدفاع الجوي الأوكرانية في اعتراض صواريخ إسكندر الروسية. ووَفقًا لوثائق الحكومة الأمريكية، يمكنُ لـ «إسكندر»، المدعوم بمحرك صاروخي يعمل بالوقود الصلب، الوصول إلى أهدافٍ على بُعد أكثر من 300 كم، ويمكنُ لكُل قاذفة متنقلة إطلاق صاروخين من طراز إسكندر قبل إعادة تحميلها[7].

على كل حال، طوَّرت روسيا من قدراتها الصاروخية؛ لأنها أدركت أنّ الهدف الأمريكي المحدد هو قواعد الصواريخ الإستراتيجية النووية في قلب روسيا، بما يقلِّص تمامًا قدرتها على الردع النووي؛ لهذا عدّت انضمام بولندا إلى المشروع الأمريكي يضعها ضمن أهداف الرد الصاروخي النووي الروسي، في حال المواجهة. إنّ مسألة الدفاع الجوي البولندي هي واحدة من المسائل، التي كانت تشق طريقها على مدى سنوات عديدة وسط مخاوف روسية من تزايدها.

كذلك أوكرانيا التي تثيرُ قلق موسكو هي الأخرى، ومنذ 2014م، بدأت تحديث أنظمتها الصاروخية الموجودة في ترسانتها الصاروخية، إضافةً إلى تطوير أنظمة صواريخ متوسطة وقصيرة المدى. وفي العام 2015م، أعلن أمين عام المجلس القومي للدفاع والأمن الأوكراني ألكسندر تيرتشينوفOlexsandr Turchynov عن نيّة أوكرانيا استرجاع درعها الصاروخي، وتطوير الصاروخ الجوال Neptune والنظام المدفعي الصاروخي Vilkha وHrim-2 في المجمع التكتيكي العملياتي. كما يوجد هناك مشروع آخر لمكتب تصميم Pivdenne، وهو الصاروخ الجوال دون سرعة الصوت Hun-2، الذي بفضل تصميمه، بحسب بعض العسكريين الأوكرانيين، سينافسُ الصاروخين الجوالين Tomahawk الأمريكي وCalibr الروسي. ولا شكّ أنّ هذه التطورات في مجال الإنتاج الصاروخي وبناء قاعدة للصواريخ في أوكرانيا، قد شكَّلت حالةً من الرعب للكرملين[8].

وفي العام 2019م، كان متوقعًا أن يتسلم الجيش الأوكراني أنظمةً صاروخية أُعيد تحسينها وتحديثها وإجراء تعديلات مختلفة عليها، على غرار أنظمة الدفاع الصاروخي Buk و S-300وS-125، فيما الدفاع الجوي الأوكراني مغطَّى بنسبة عالية باستخدام صاروخَي  S-300 PT وS-300 PS، إضافةً إلىBUK-M1 . وصرحت وكالة الدفاع الأوكرانية بأنها باشرت جهودها لتصليح أنظمة الدفاع الجوي للمدى القصير، على غرار OSA-AKM وStrela-10، ونظام الصاروخ المضاد للمقاتلات الذاتي الحركة Shilka، ونظام الدفاع الجوي الصاروخي TUNGUSKA للقتال بصورة رئيسة، ضد أهداف تحلق على ارتفاعات منخفضة على غرار الطائرات المسيرة، معلنةً بأنه سيكون هناك تطوُّر آخر واعد في نظام الصاروخ المضاد للطائرات للمدى المتوسط DNIPRO الذي لديه مدى مُعلَن يبلغ 650 كم[9].

لهذا لم يكُن مستغربًا أن تكون الهجمات الصاروخية الروسية والضربات الجوية موجهةً لتدمير منظومة الدفاع الجوي الأوكرانية وقواعدها والبنية التحتية لسلاح الطيران، التي باتت في أيام معدودة تقريبًا خارج الخدمة. روسيا أدركت أنه منذ أن تغيّر توجُّه نظام الحكم في أوكرانيا عام 2014م وميله للغرب، فإنّ أوكرانيا ستصبح منطقةَ قواعد عسكرية لحلف الناتو، كما هي دولٌ مثل بولندا ورومانيا والتشيك ودول البلطيق، وأنّ الأمن القومي الروسي سيصبح مُخترَقًا.أرى أنه من خلال غزو أوكرانيا، تعتقد روسيا بأنها نجحت في تأسيس نهج تفكيرٍ استباقي لإستراتيجيتها الكبرى في أوكرانيا لمواجهة النفوذ الغربي، وتعزيز عمقها الإستراتيجي في الكتلة السوفيتية السابقة، قبل أن تكون روسيا في مرمى نيران الحلف.

ثانيًا: دور الاتحاد الأوروبي على رقعة الشطرنج الجيوسياسية

كشفت روسيا لأوروبا بأنّ الطاقة والدفاع أهم مهدّديْن دائمين أمام أوروبا، يستلزم على الاتحاد الأوروبي السيطرة عليهما واحتوائهما. لهذا لم نستغرب أن تركز قمة الاتحاد الأوروبي التي انعقدت في الفترة من 10-11 مارس في فرساي بفرنسا بوصفها جزءًا من الرئاسة الفرنسية الدورية للاتحاد الأوروبي، على استقلال الطاقة الأوروبية والدفاع الأوروبي، تمامًا كما أجبرت جائحة «كوفيد-19» الاتحاد الأوروبي على الاعتراف بالتكلفة الإستراتيجية لاعتماده على الصين. غزو روسيا لأوكرانيا يلزم الاتحاد الأوروبي بمعالجة التحديات الأمنية والاقتصادية المترابطة، التي تظهرها روسيا الغاضبة، واستخدام الأدوات المتاحة لها؛ للتصدي للتركيبة الجديدة المعقَّدة؛ الجيوسياسية والجيواقتصادية.

  1.  أدوات جديدة يتبناها الاتحاد الأوروبي

يرى أوربيون أنّ الحرب في أوكرانيا بمثابة دعوة للاتحاد الأوروبي للاستيقاظ، والتصرف بشكل إستراتيجي، بمعنى أن يستيقظ الاتحاد متأخرًا خيرٌ من أن لا يستيقظ أبدًا! بالفعل، من خلال رد فعل على الغزو الروسي لأوكرانيا، بدأ الاتحاد الأوروبي في الاستفادة من مجموعة أدواته الكاملة، ابتداءً بالعقوبات الاقتصادية الشديدة، ومرورًا بتفعيل مرفق صناعة السلام الأوروبي، وليس انتهاءً بتزويد أوكرانيا بالأسلحة. فبعد أسبوع فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، تبنّى الاتحاد الأوروبي خمس حزم من العقوبات الاقتصادية الشديدة المتزايدة ضد روسيا. ومن المرجّح أن يتكثّف هذا الاتجاه خلال السنوات القليلة المقبلة مستهدفًا ضرب الكرملين، الذي يؤلمه قطاع الطاقة؛ حيث تقوم سلسلة من شركات الغاز والنّفط الأوروبية، بما فيها BP وShell وEquinor، بسحب استثماراتها الروسية[10]. ويتضح استعداد الاتحاد الأوروبي للاستفادة من ثقله الاقتصادي الكامل كأداة قسرية ضد روسيا، من خلال المناقشات بين الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين بشأن حظر واردات النفط والغاز الروسي. وعلى الرغم من عدم التوصل إلى حلٍ وسط حتّى الآن، فإنّ المناقشة نفسها تُظهِر أنّ الاتحاد الأوروبي على استعداد لدفع ثمن انفجار أسعار الطاقة؛ لجني مكاسبَ جيوسياسية، وإضعاف الاقتصاد الروسي المقاوم حتّى الآن.

على الصعيد الداخلي، بدأ الاتحاد الأوروبي في التخفيف من التحديات المرتبطة بتدفق اللاجئين الأوكرانيين على المجتمعات الأوروبية. وأطلق صانعو السياسة في بروكسل توجيه الحماية المؤقتة (Temporary Protection Directive)، الذي تمّت صياغته في عام 2001م، لكن لم يتم استخدامه. وتُمنَح آلية الطوارئ هذه الحماية لعددٍ كبير من اللاجئين الأوكرانيين، من خلال حقوق الإقامة والوصول إلى سوق العمل والمساعدة الطبية والتعليم. ومن أجل دعم الناس في أوكرانيا بشكل مباشر، أعلن الاتحاد الأوروبي أيضًا عن حزمة مهمة من المساعدات الإنسانية والمالية. في موازاة ذلك، تحرك الاتحاد الأوروبي لتعليق وسائل الإعلام الروسية، مثل «روسيا اليوم» و«سبوتنيك»، وكثّفت فرقة عمل «ستراتكوم الشرقية» التابعة للمفوضية   Commission’s East StratCom Task Force من جهودها؛ لمعالجة التضليل المعلوماتي الروسي[11].

والأهم من ذلك، أنّ الاتحاد الأوروبي يبرز كجهة فاعلة أمنية على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، من خلال إطلاق العنان لمرفق السلام الأوروبي، وهي مبادرة تمّ الإعلان عنها في يوليو 2021م؛ لسد الثغرات المالية في سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي، ودعم البلدان الشريكة بشكل ثنائي في المجال العسكري والدفاعي. وستوفّرُ هذه الأداة 500 مليون يورو لتجهيز أوكرانيا بالأسلحة، بما في ذلك الأسلحة الفتاكة[12]. هذه الصحوة الجيوسياسية لا تحدث في بروكسل فقط؛ فبعد سنوات من التردد العسكري، حقّقت ألمانيا التحول الأكثر دراماتيكية في سياستها الدفاعية، من خلال الإعلان عن صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو للإنفاق الدفاعي على مدى السنوات الأربع المقبلة، والتزام دائم بأكثر من 2% من الإنفاق الدفاعي السنوي[13]. كما أعلنت السويد أنها ستعزز نفقاتها الدفاعية، والتزمت الدنمارك بهدف «الناتو» البالغ 2%، وتهدف رومانيا ولاتفيا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي، وتخطط بولندا لزيادة الإنفاق إلى 3% بحلول عام 2023م[14]. كما أعلنت المملكة المتحدة عن نيّتها تنفيذ أكبر استثمار في قواتها المسلحة، منذ 3 عقود، على الرغم من أزمة كورونا وتداعياتها، في إطار سعي الحكومة لاستعادة مكانة البلاد على المسرح العالمي، خصوصًا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست). وسبق أن تعهد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في نوفمبر 2020م بزيادة قيمة الإنفاق الدفاعي لبلاده بنحو 16.5 مليار إسترليني؛ لاستعادة دور بلاده، بوصفها -كما قال- «القوة البحرية الأولى في أوروبا»، وتبلغ الميزانية الدفاعية لبريطانيا الآن ما يقارب 42 مليار جنيه إسترليني سنويًا[15].

لكن على الرغم من الإفاقة الأوروبية ضد ما تراه دولها حربًا غير شرعية من جانب روسيا، فإنه ربما نجحت في توظيف بعض أدواتها المتوفرة، لكن حتّى الآن لم تستخدم مجموعة أدواتها الكاملة للضغط الجيوسياسي على روسيا، وَفقًا لإستراتيجية دفاعية واقتصادية تشارك فيها كُل دول الاتحاد.

  • جهود مستدامة لكسب اللعبة الجيوسياسية الطويلة

مع عودة سياسة القوة، يواجه الأوروبيون الآن لعبةً جيوسياسية جديدة وطويلة تتطلب منهم أن تكون جهودهم مستدامة، وليست مؤقتة. وتُعَد زيادة الإنفاق الدفاعي من قِبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي نقطة انطلاق مهمة، لكن هناك من يتطلع إلى أنه يجب ترجمة هذه الجهود إلى تنسيقٍ على مستوى الاتحاد. وَفقًا لذلك، ستستفيد الدول الأعضاء من صندوق الدفاع والتعاون الأوروبي؛ لضمان استخدام ميزانيات الدفاع المتزايدة بطريقةٍ منسقة. كما أنّ برنامج الاقتراض الشامل لتمويل الدفاع الأوروبي، من شأنه أن يسمح للاتحاد الأوروبي بالتصعيد ضد التهديدات الروسية؛ ففي حال زعزعت روسيا استقرار دول البلطيق أو الدول الأعضاء الشمالية، فإنّ تعزيز المرونة والتغلب على الشلل المؤسّسي شرط أساسي لقدرة الاتحاد الأوروبي على مواجهة التحديات الروسية المستقبلية.

يبدو أنّ الاتحاد الأوروبي، وبدلًا من استخدام الـ 27 دولة في الدفاع عن أوروبا، سيركز أكثر على توظيف المادة 44 من معاهدة الاتحاد، التي من خلالها يفوِّض الاتحاد الأوروبي تنفيذ مهمة أمنية أو دفاعية لمجموعة من الدول الأوروبية الراغبة والقادرة على ذلك. ولتحقيق هذه الغاية، يمكنُ لحلف الناتو والدول الشريكة أن يجدوا الدعم في مجموعات القتال التابعة للاتحاد الأوروبي، والوحدات العسكرية متعددة الجنسيات ذات الاستجابة السريعة التي تمّ إنشاؤها في عام 2003م، التي لم يتم استخدامها حتّى الآن، مطلقًا[16].

بالإضافة إلى الاتفاق على المسؤوليات والقيادة، لا يمكنُ للاتحاد الأوروبي أن يلعب دورًا مستدامًا على رقعة الشطرنج الجيوسياسية إلّا إذا أعاد تصميم سياسةٍ للتعامل مع دول الجوار. كانت دول البلقان دولًا مرشَّحة منذ سنوات لتعزيز الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، لكن المفاوضات تعثّرت؛ ما دفع هذه الدول إلى البحث عن شراكات مختلفة، ولا سيّما مع تركيا وروسيا والصين. علاوةً على ذلك، كانت محاولة الاتحاد الأوروبي لبناء «حلقة أصدقاء» مع دول البلقان من خلال الشراكة الشرقية كبديل لعضوية الاتحاد الأوروبي، مجرد كلام إنشائي. ربما حصل تركيز على الجوانب الاقتصادية، ومكافحة الفساد، والجوانب الثقافية، لكن كان هناك غيابٌ شبه تام للبُعد الأمني والدفاعي، وتم استبعاده بشكل منهجي تقريبًا. وتخشى دولٌ مثل جورجيا ومولدوفا من الوقوع ضحيةً للعدوان الروسي، لكنّ بروكسل لم تأخذ مخاوف هذه الدول على محمل الجد؛ فهل أعطت الأزمة الأوكرانية درسًا للاتحاد الأوروبي بتسريع عضوية هذه الدول في غضون السنوات القليلة المقبلة، مع إضافة البُعد الأمني إلى سياسة الجوار، من خلال أدوات مثل مرفق السلام الأوروبي؟  

هذا يجعلنا نقول إنّ دور الاتحاد الأوروبي على رقعة الشطرنج الجيوسياسية سيتحدد، من خلال قدرته على معالجة دمج الاقتصاديات الجيوسياسية مع الجغرافيا السياسية، ويتطلب تجهيز الاتحاد الأوروبي للعبة الجيوسياسية الطويلة أيضًا إعادة التفكير في وضعه الجغرافي الاقتصادي. يُعَد الاتحاد الأوروبي أكبر مستورد للغاز الطبيعي في العالم، بحسب المديرية العامة للطاقة في الاتحاد الأوروبي، وتأتي الحصة الأكبر من غازه من روسيا (41%)[17]. كانت ألمانيا على وجه الخصوص تجادل بأنّ «نورد ستريم 2»؛ خط الأنابيب الذي ينقل الغاز الروسي عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، كان مشروعًا اقتصاديًا بحتًا دون أيّ مكون سياسي. الحرب في أوكرانيا أنهت هذا الاعتقاد، وأجبرت الأوروبيين على الشروع منذ اللحظة في تنويع مصادر طاقتهم. لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة، وبتلك السرعة. على المدى القصير، سيحتاج صانعو السياسات إلى إعداد شعوبهم لارتفاع أسعار الطاقة، وبالتالي؛ يحتاجون إلى التهيؤ لمناقشات وسجالات محلية شرسة مع ناخبيهم المتأثرين بتداعيات العقوبات.

ولأنّ الدول الأخرى المصدِّرة للغاز، خاصةً الخليجية، مرتبطة بعقود آجلة لسنوات قادمة، أو ملتزمة بسياسات «أوبك+»، فإنّ أوروبا ستعاني قبل أن تجد البديل للغاز الروسي. تركز أوروبا أيضًا على مصادر الطاقة المتجددة، لكن الشبكة غير مجهزة بعد لمصادر متقطعة مثل الرياح والطاقة الشمسية لسد الفجوة تمامًا. كذلك فالمصادر المتجددة لا يمكنها حتّى الآن إنتاج طاقة كافية لتلبية الطلب، بما قد يضطر بعض الدول الأوروبية إلى العودة إلى استخدام الفحم، وهو ما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على أهداف الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالمناخ.

قمة الاتحاد الأوروبي التي عُقدت في الفترة من 10 إلى 11 مارس في فرنسا، خرجت ببيان فرساي الذي أكد أهمية تعزيز ثلاثة أبعاد من التعاون، وهي: تعزيز القدرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي، وتقليل اعتماده على الطاقة الروسية، وبناء قاعدة اقتصادية أكثر قوة[18]، وهو ما يُعَدّ إقرارًا أوروبيًا بأنّ الطاقة والجغرافيا السياسية متشابكتان. يضغط الرئيس إيمانويل ماكرون من أجل خطة تمويلٍ مشتركة؛ لدعم توفير الطاقة وتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية. قد تكون مثل هذه الخطوة جريئة، لكن لا يوجد بديل إذا أراد الأوروبيون ضمان عدم اختفاء جهودهم بعد الأزمة الحالية؛ بسبب قيود الميزانية. إذا تمكن ماكرون مرةً أخرى من تقديم اقتراح فرنسي-ألماني للاقتراض الأوروبي لتمويل تطوير بُعدَي الطاقة والدفاع؛ فإنّ هذا سيعزز قدرة الاتحاد الأوروبي على العمل في الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية، لكن من غير المؤكد أنّ مبادرة ماكرون ستحقّق توافقًا أوروبيًا، لكن بالتأكيد ستبقى نقطة تركيز في مشروع فرنسا الأوروبي، خاصةً بعد فوز ماكرون بولاية رئاسية ثانية.

ثالثًا: هل نحن أمام استقلال إستراتيجي أوروبي أم اعتمادية أكبر على «الناتو»؟

لم يكُن موضوع الدفاع في أوروبا، منذ إنشاء الاتحاد الأوروبي، حاضرًا كثيرًا، كان أقل إجماعًا في النقاش العام والسياسي. ربما المشهد تغير الآن. تعززت حاجة الأوروبيين إلى قوة عسكرية مشتركة خاصة، بهم بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والشكوك التي ألقتها سياسات ترامب الأوروبية حول مدى استمرار التزام الولايات المتحدة بشراكتها الأورو-أطلسية في إطار حلف الناتو؛ فقد وصلت تلك السياسة، التي مارسها ترامب تحت شعار «أمريكا أوّلًا»، إلى حدّ تهديده بالانسحاب من الحلف، بعد ضغوط متوالية على شركائه لزيادة إنفاقهم. وستبقى حاجة الأوروبيين إلى تعزيز دفاعهم المشترك من خارج «الناتو» قائمةً ما بقيَت شكوكهم في شريكهم الأمريكي، في ظل تغيُّر إداراته وسياساته وأولوياته. وهي شكوك أكدتها بعض الخِيارات والسياسات والتحالفات الأمريكية؛ حيث بدا أنّ الرابط الأنغلو-ساكسوني يغلب على الرابط الأورو-أطلسي، وأحيانًا يكون على حسابه. أمام هذا التوجس الأوروبي من تراجع دور حلف الناتو وضعف الشراكة على جانبَي الأطلسي، بادرت فرنسا إلى إطلاق مقاربتين إستراتيجيتين؛ الأولى فكرة مبادرة التدخُّل الأوروبي، والثانية مشروع الاستقلال الإستراتيجي.

  1. مبادرة التدخُّل الأوروبي

مبادرة التدخُّل الأوروبي هي لبنة جديدة في التطور الملموس لأوروبا للدفاع، إذ تُترجَم اليوم هذه المبادرة إلى إجراءات تعاون ملموسة وقابلة للتحقيق. فكرة مبادرة التدخُّل الأوروبيEuropean Intervention Initiative (EII) انطلقت في سبتمبر 2017م، من قِبَل رئيس الجمهورية الفرنسية. وكانت الأهداف الموضوعة لهذه المبادرة، من خلال تطوير ثقافة إستراتيجية أوروبية مشتركة للوصول إلى تجهيز أوروبا، بحلول بداية العقد المقبل، بميزانية دفاع مشتركة، وقوة تدخُّل مشتركة، وعقيدة عمل مشتركة؛ لتمكين الأوروبيين من العمل معًا عسكريًا بشكل مقنع. دعونا نلاحظ على الفور أنّ أحد الأهداف الثلاثة -ميزانية الدفاع المشتركة- على وشك أن يتحقّق بعد الأزمة الأوكرانية، وهو ما لم يكُن مؤكدًا بعد، في سبتمبر من العام 2021م.

في ضوء هذه المبادرة، يبدو أنّ مشروع الدفاع الأوروبي يتشكل بشكل أكثر وضوحًا وبشكل ملموس أكثر من العضوية «البسيطة» في حلف الناتو، أو في الاتحاد الأوروبي. في الواقع، تتميز EII بتوفُّر الإرادة لدى أعضاء المبادرة، حتّى إن كان عددهم محدودًا حتّى الآن (13 دولة أوروبية من أصل 28 عضوًا في الاتحاد الأوروبي)، لكن لديهم رغبة حقيقية في التعاون الإستراتيجي العسكري، ولديهم الموارد المادية والبشرية الكافية والقادرة على الاستجابة بسرعة وفعالية ضد أي مهدِّد[19].

حُدِّد للمبادرة ميزانيةٌ إجمالية تقارب 30 مليار يورو، على مدى سبع سنوات (2021-2027م). من المرجّح أن يتم توزيع الميزانية على عدة بنود؛ سيُنشأ صندوق دفاع أوروبي بقيمة 13 مليار يورو مخصص لأبحاث الدفاع خلال السنوات السبع المقبلة، ومرفق سلام أوروبي بقيمة 10.5 مليار يورو مخصص لتمويل عمليات الاتحاد الأوروبي ذات الآثار العسكرية أو الدفاعية، وأخيرًا حزمة تدابير لتعزيز «الحراك العسكري» داخل الاتحاد بمبلغٍ إضافي قدره 6 مليارات يورو[20].

أما بالنسبة لـ «قوة التدخُّل المشتركة»، فهناك العديد من الأمثلة: قوة المشاة المشتركة الفرنسية البريطانية التي تمّ إنشاؤها بموجب معاهدة لانكستر هاوس في 2010م؛ القوة الاستكشافية المشتركة بين البريطانيين ودول البلطيق والدول الاسكندنافية والهولندية التي أنشأتها اتفاقية لانكستر هاوس أخرى في 2015م واكتملت في 2017م؛ مفهوم إطار عمل الأمة الألمانية لعام 2014م، الذي تمّ إنشاؤه داخل «الناتو»؛ مجموعة اللواء الفرنسي-الألماني المنتشر حاليًا في مالي؛ وأخيرًا أحدث هذه المبادرات ما يسمى بقوة الاتحاد الأوروبي -عملية الاستجابة للأزمات  الأساسية EUFOR Crisis Response Operation Core-وهو مشروعٌ لعملية بناء القدرات تمّ إنشاؤه في إطار التعاون المنظم الدائمPESCO) )، الذي تمّ إنشاؤه في نوفمبر 2017م بين 25 دولة أوروبية باستثناء المملكة المتحدة والدنمارك ومالطا[21].

تتمتع عملية الاستجابة للأزماتCROC) ) بالقدرة على تحسين قدرات إدارة الأزمات في الاتحاد الأوروبي، من خلال تعزيز الاستعداد لتكوين القوات واستعدادها والتزام الدول الأعضاء الأوروبية بالعمل والمشاركة في العمليات والبعثات. ويمكنُ تحقيق زيادةً كافية في جاهزية القوات البرية، من خلال لواء متعدد الجنسيات في إطار CROC، وتعزيز المرونة أمرٌ بالغ الأهمية على جميع المستويات. ومن المحتمل أن تكون درجة الواقعية التي تمّ تحقيقها من خلال فعالية التشغيل البيْني للاستجابة للأزمات، التي تقدمها CROC))، أكثر صلابةً من أيّ مبادرة أخرى من هذا النوع.

من فوائد المبادرة المتوقعة، أنها أوّلًا تعالج السبب الجذري للمشكلة؛ أي الاختلافات المهمة بين الدول الأعضاء في إدراك التهديد وطرق حماية أنفسهم من هذه التهديدات. وعلى الرغم من كل التطورات الأخيرة، تواصل كُل دولة تقييم المواقف، والحكم عليها من وجهة نظرها الخاصة؛ لكلٍّ هواجسه وحلوله. قد يكون تغيير هذه الحالة الذهنية أكثر فاعلية من التشريع بشأن الدفاع الأوروبي، وله ميزة أنه لم تتم تجربته مطلقًا. لكن لن يتحقق كل ذلك مالم تقُم الدول الأوروبية بعددٍ من الإجراءات، منها على سبيل المثال: فحص الرؤى الإستراتيجية معًا من قِبَل كل الدول، تبادل المعلومات الاستخباراتية، التخطيط العملياتي المشترك، تطوير عقيدة قتالية مشتركة، ووضع إجراءات إدارية موحدة. يتطلب الأمر كذلك تغيير العقلية العامة، وأيضًا بناء قواعد مشتركة للاشتباك، التي بدونها يمكنُ للعمليات العسكرية للتحالف أن تتدهور بسرعة بسبب القيود/ المحاذير الخاصة بكل قوة. يجب كذلك من أجل تسهيل عملية التوافق العملياتي، تطوير سيناريوهات وإجراء مناورات مشتركة.

الميزة الثانية للمبادرة، هي أنها تعمل خارج مؤسّسات الاتحاد الأوروبي، من خلال إجراءات تشغيل مرنة للغاية. يمكنُ وصف هذا النهج بأنه عملي للغاية: لا توجد معايير للانضمام، إلّا من خلال دعوة بسيطة. لا توجد التزامات على المدى الطويل، أو عقوبات، أو حتّى تقييم للفاعلية. المبادرة هي مجموعة من الدول، التي تتبنّى نفس التصوُّر للمهدِّدات، وتملك فلسفةً دفاعية شبه موحدة.

أخيرًا، نظرًا لأنها تعمل على وجه التحديد خارج هياكل الاتحاد؛ فإنّ المبادرة الأوروبية تجعل من الممكن، من ناحية، التمسُّك بالبريطانيين على الرغم من خروجهم من الاتحاد الأوروبي، ومن ناحية أخرى الإبقاء على الدنماركيين الذين اختاروا الانسحاب من سياسة الأمن والدفاع المشتركة CSDP))، وفي ذات الوقت عدم استبعاد دول، مثل السويد أو بولندا اللتان لطالما قاتلتا فكرة الحكم الذاتي الإستراتيجي، خوفًا من فقدان الحماية الأمريكية.

ومع أنّ فكرة المبادرة جذابة وتقدم العديد من الفوائد، لكن من الصعب الحكم النهائي عليها؛ بسبب أنّ محتواها لا يزال قيد المراجعة، وعدد الدول المشاركة قليل. سيبقى التحدي أمام المبادرة، هو تماسك كل القوى المشاركة في هذه المبادرة.  في رأيي كباحث، أنّ مشكلة هذه المبادرة أنها ركزت على الاستجابة لما تراه بعض الدول الأوروبية، كفرنسا، مهدِّدات ضد مصالحها في الشرق الأوسط وأفريقيا، بنفس العقلية الاستعمارية القديمة، وتناست جهلًا أو عمدًا المهدِّدات التي قد تواجه أوروبا، كالمهدِّد الروسي أو الأمن الداخلي لدول الاتحاد (الإرهاب، تجارة المخدرات، الكوارث الطبيعية، عنف داخلي، نزعات انفصالية). لذلك، فبعد الأزمة الأوكرانية قد يرى الأوروبيون أنه سيكون منطقيًا ومُجديًا دعم هذه المبادرة والانضمام إليها، مع حصر نشاطها العسكري لحماية القارة الأوروبية من المهدِّدات المباشرة عليها، وعدم التوسع بعيدًا عن حدود أوروبا.

  • هل مشروع «الاستقلال الإستراتيجي» الأوروبي لا يزال مطروحًا؟

ظهرت في أوروبا في الآونة الأخيرة، قبل الغزو الروسي، خاصةً في الأدبيات الفرنسية، مصطلحاتٌ عديدة مثل السيادة والاستقلال الإستراتيجي والسيادة الإستراتيجية. جميع المصطلحات تعبِّر عن نفس الفكرة؛ «يجب أن نعمل كأوروبيين بشكل جماعي ومستقل، كلما أمكن ذلك». الحقيقة أنه لا يزال الجدل الدلالي محتدمًا بين أنصار «الناتو» وأنصار الاستقلال الإستراتيجي؛ بعض دول أوروبا، خاصةً الشرقية منها، تراها لعنة أن يتم فك الارتباط عن الأمريكان، وبعض الدول، خاصةً فرنسا، ترى أنه يجب التفكير جيدًا في إعطاء مزيد من الثقة للمؤسسات الأوروبية ودعم إستراتيجية الاستقلال، بما يعني امتلاك القدرة على المقاومة والرد، بما في ذلك عسكريًا.

الاتحاد الأوروبي هو بالفعل حتّى الآن قوة اقتصادية ومعيارية (قانون المنافسة، قانون اللوائح والامتثال؛ اللائحة العامة لحماية البيانات RGPD ولائحة تشريعات تسجيل المواد الكيميائية وتقييمها وترخيصها وتقييدها REACH، كأحد أكثر التشريعات البيئية بعيدة المدى وشمولًا، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي، إلخ)، وأيضًا قوة تجارية. وقَّع الاتحاد حتّى الآن أكثر من 50 اتفاقية تجارية مقارنةً بـ 18 لليابان و14 للولايات المتحدة)، كذلك الاتحاد قوة للمساعدة الإنمائية (الاتحاد يقدم أكثر من نصف المساعدة الإنمائية الرسمية في العالم)، وقوة جوية وفضائية (آريان، إيرباص، جاليليو/ كوبرنيكوس)[22].

في رأيي، أنّ مشكلة الاتحاد الأوروبي ليست اقتصادية، إنما تكمُن في عدم وجود جيش موحد، أو قوة دفاع مشتركة. حتّى الآن، لم يتقن الاتحاد الأوروبي بناء أدوات «القوة الصلبة» للحفاظ على أمنه الجماعي، ولا يمتلك سياسةً دفاعية مشتركة، وعملياته العسكرية وشراكاته متواضعة الحجم، مقارنةً بتلك التي يمتلكها «الناتو». طرحت فرنسا مشروع «الاستقلال الإستراتيجي» الهادف إلى تحويل الاتحاد الأوروبي من قوة اقتصادية إلى لاعب جيوسياسي دولي يستقل تدريجيًا عن الولايات المتحدة. وحظِيت هذه الفكرة بشعبية في أوروبا، خصوصًا خلال عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (2017م -2021م)، حيث لم تكُن التبعية الأوروبية المتنامية لواشنطن في ذلك الحين مرغوبة، بالمقارنة بعهد الرئيس الأسبق باراك أوباما (2009م-2017م).

المشكلة تكمُن في المصالح المتضاربة لدول أوروبا وتركيز كل دولة على علاقاتها الثنائية مع واشنطن؛ ما يجعل هناك عقبةً رئيسةً أمام تحقيق «الاستقلال الإستراتيجي» الأوروبي. كما أنّ هناك عقبةً أُخرى، وهي أنَّ الاتحاد الأوروبي -في غرضه ومفهومه الأساسي-ليس تكتُّلًا عسكريًا، وإنما سوقًا اقتصادية مشتركة. بمعنى أنّ نقص الإمكانات ليس هو السبب الذي يمنع الاتحاد الأوروبي من أن يصبح قوةً عسكرية مستقِلَّةً على المسرح الدولي، بل غياب الإرادة السياسية. لا تُجمِع دول الاتحاد الأوروبي على رؤية جيوسياسية واحدة تجاه المهدِّدات. سيتوقَّف تحقيق «الاستقلال الإستراتيجي» الأوروبي على دور الدبلوماسيين الفرنسيين على إقناع حلفائهم الأوروبيين بضرورة وجود منظمة أوروبية جديدة إلى جانب «الناتو». سيعتمد تحقيق المشروع أيضًا على قبول الولايات المتحدة؛ قد توافِق عليه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لدوافع سياسية، لكن من المُرجَّح أن يواجهَ رفضًا من البنتاجون[23].

تعرضت باريس من جانبها للانتقاد؛ بسبب حوارها الثنائي أُحادي الجانب مع روسيا. فخلال الفترة من 2019م إلى 2020م، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين لبدء حوار مع روسيا، دون مشاورات مع باقي شركاء باريس المهمِّين في الاتحاد الأوروبي. هذا كان أحد الأسباب وراء عدم تأييد دول البلطيق أو دول أوروبا الشرقية بصورة خاصَّة للمشروع الفرنسي. ويُضاف إلى ذلك تصريح ماكرون في مقابلة أجرتها معه مجلَّة «إيكونوميست»، بأنّ «الناتو ميِّتٌ دماغيًا»[24]. أدَّى هذا الانتقاد لـ «الناتو»، إلى تقويض مصداقية ماكرون عند غالبية دول أوروبا والولايات المتحدة.  يبدو أنّ المشروع وبعد الضغوطات التي تعرضت لها فرنسا، بدأ يتحول من كونه مشروعًا بديلًا بالكامل عن حلف الناتو، كما كانت تريده فرنسا في بداية الأمر، إلى كونه مشروعًا مكمِّلًا للحلف، وليس بديلًا عنه.

يؤمِنُ صُنَّاع القرار الفرنسيون بأنَّ هذه البراجماتية، ستساعدهم في إقناع غالبية أعضاء الاتحاد الأوروبي بأهمِّية مشروع الدفاع الأوروبي المستقل عن واشنطن. ولطالما دافعت باريس من أجل السيادة الأوروبية من خلال الاتحاد الأوروبي، لكنها في ذات الوقت حافظت على التزاماتها تجاه «الناتو»، من خلال نشر قوات في رومانيا وإستونيا. وبالمثل، تواصل الدول الأوروبية، التي قد تكون أكثر المتضررين من التعرُّض الجغرافي الروسي وهي بولندا ودول البلطيق والدول الإسكندنافية والبلقان، اللجوء إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي كمُقدمي خدمات أمنية.

لكن أمام الغزو الروسي، ظهرت هناك بعض التبايُنات بين دول الاتحاد الأوروبي الشرقية منها والغربية؛ فبينما تشدِّد بولندا ودول البلطيق على أهمية أن يقوم «الناتو» بدورٍ لوقف الخطر الروسي تعارض باقي الدول هذا التوجُّه، كفرنسا وألمانيا والمجر. استبعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل قاطع أيّ تدخُّل لحلف الناتو في أوكرانيا، أو عمل منطقة حظر جوي، أو أن يصبح الحلف شريكًا في الحرب. وتتحرك بولندا والمجر نحو الانقسام في المجلس الأوروبي، حيث تضغط بولندا لفرض عقوبات على واردات الغاز والنفط والفحم الروسية، وإرسال بعثة إنسانية لحلف الناتو إلى أوكرانيا، وتمنع المجر إلى جانب ألمانيا العقوبات على واردات الطاقة، وتسعى إلى تجنّب أي تورُّط للحلف أو فرض عقوبات على الطاقة الروسية؛ خوفًا من أن يؤدي ذلك إل ركود أوروبي.

على الجانب الدفاعي، يبدو أنّ دول الاتحاد الأوروبي بدأت تقوم بمراجعاتٍ لسياساتها الدفاعية، وأدركت أنه يجب أن يكون هناك قوة ردع للمستقبل. وعكست ألمانيا رغبتها في أن يكون لها دورٌ دفاعي أكبر بعد بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي كان له تأثيرٌ واضح على صُنّاع القرار في برلين. وأعلن المستشار الألماني أولاف شولتز تخصيص 100 مليار يورو لصندوق خاص يستهدف تعزيز المنظومة الدفاعية للقوات المسلحة، وقال شولتز أمام نواب البرلمان: «سنؤسّس صندوقًا خاصًا للجيش الألماني لاستخدامه للاستثمارات في مجال الدفاع. من الواضح أننا بحاجة إلى زيادة الاستثمار بشكل كبير في أمن بلدنا؛ من أجل ضمان حريتنا وديمقراطيتنا». ودعا المستشار الألماني لضرورة إدراج الصندوق الخاص للجيش في الدستور، مع التنصيص على زيادة الإنفاق الدفاعي بأكثر من 2%من إجمالي الناتج المحلي، بدلًا من حوالي 1.5%[25].  ويشير ذلك إلى تغييرٍ طويل الأجل لدور ألمانيا في الدفاع الأوروبي، في منعطفٍ لافت للسياسة العسكرية التي ظلت برلين تتبعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

حتّى عندما ينخفض ​​التهديد الوشيك من روسيا، يدرك الأوروبيون أنهم لا يستطيعون تحمُّل نقص التنسيق بينهم. وحتّى الدول التي تشعر تقليديًا بالقلق من التعاون الدفاعي من خلال الاتحاد الأوروبي، قد تراجع موقفها. أحدث مثال على ذلك، الدنمارك، التي أعلنت عن إجراء استفتاء في يوليو الماضي على احتمال انضمامها إلى سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي. في ظل شرط موافقة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على استثمارات ضخمة في دفاع الاتحاد الأوروبي، يبدو من المحتمل أنّ الأوروبيين سوف ينسقون جهودهم بشأن تطوير القدرات والتبادل من خلال الاتحاد الأوروبي، مع ضمان التوافق مع «الناتو».

 في الواقع، تمت دعوة الولايات المتحدة وكندا والنرويج بالفعل للانضمام إلى مشروع Permanent Structured Cooperation (PESCO) الخاص بالاتحاد الأوروبي، بشأن التنقل العسكري، والذي من المرجّح أن يشكل مخططًا للتعاون المستقبلي. من المرجّح أن تصبح الولايات المتحدة عاملًا رئيسًا في قدرة الاتحاد الأوروبي على أن يصبح لاعبًا جيوسياسيًا مستقلًا، فهي تدفع بالفعل من أجل أن يصبح الاتحاد الأوروبي الذراع الجغرافي الاقتصادي للتعاون الأمني ​​عبر المحيط الأطلسي. كما سيتم تحديد الموقف الجيوسياسي للاتحاد الأوروبي من منظور واشنطن، على وجه الخصوص ستنتظر ألمانيا وأوروبا الشرقية «الضوء الأخضر» من واشنطن للالتزام بالتنسيق المكثّف داخل الاتحاد الأوروبي.

في الوقت نفسِه، بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وتحالف AUKUS، واحتمال انتخاب مرشّح شبيه بترامب في عام 2024م، من المرجّح أن يصعد الاتحاد الأوروبي كمُمثل جيوسياسي أكثر استقلالي، بما سيعزز من المبادرة الفرنسية للاستقلال الإستراتيجي. يسلط الغزو الروسي لأوكرانيا الضوء أيضًا على تفضيل الولايات المتحدة لتمكين وتجهيز الشركاء الأوروبيين لتحمُّل المسؤولية عن أمنهم، بدلًا من نشر القوة المباشرة. في هذا السياق، ترفض الولايات المتحدة إنشاء منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، لكنها توافق للدول الأعضاء في «الناتو»، بما في ذلك بولندا، على تسليم طائرات مقاتلة إلى أوكرانيا.

تظل المملكة المتحدة أيضًا شريكًا رئيسًا في الدفاع الأوروبي، حتّى بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي؛ فمنذ بداية الأزمة الأوكرانية، أثبتت المملكة المتحدة أنها حليفٌ موثوق به، من خلال الحوار النّشط مع روسيا والدعم الملموس لبولندا. وأكد وزير الدفاع البريطاني أنّ 350 من مشاة البحرية الملكية مشكَّلين من 45 قيادة، سينتشرون في بولندا خلال الأيام المقبلة، وسيدعمون القوات المسلحة البولندية من خلال التدريبات المشتركة والتخطيط للطوارئ وبناء القدرات في مواجهة التوترات المستمرة على الحدود الأوكرانية. يتم تقديم هذا الدعم على أساس ثنائي، وليس جزءًا من عرض المملكة المتحدة لحلف الناتو[26].

في حين أنّ اتفاقًا بشأن التعاون الأمني ​​بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لا يزال غائبًا عن الأفق، فإنّ هذا يؤكد أنّ التعاون الدفاعي الثنائي يظل آليةً تشغيلية حاسمة لمواجهة التحديات الأمنية الأوروبية. علاوةً على ذلك، يتم تضمين المملكة المتحدة في صيغ التعاون الدفاعي مع الدول الأوروبية الأخرى، مثل مبادرة التدخُّل الأوروبية التي سبق الحديث عنها، وكذلك مثل تعاون الدفاع الشمالي (Nordefco) الذي يتكون من خمسة أعضاء، هُم الدنمارك وفنلندا وأيسلندا والنرويج والسويد، والذي يهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية للدول الأعضاء، من خلال تحديد مجالات التعاون وتعزيز الحلول الفعالة[27].

يمكنُ لهذه النماذج الدفاعية المصغَّرة أن تتبلور لتشكل منظومةً دفاعية أوروبية تنسق جهودها مع جهود حلف الناتو، وَفقًا لإستراتيجية موحدة. قدمت قمة فرساي مؤشرات جيدة، على أنّ لحظة اليقظة هذه قد تنتقل إلى إرادة سياسية أوروبية كافية تعزز من استقلال الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة، وتقوية قدراته الدفاعية المستقلة؛ لكسب مزيد من حرية العمل، بعيدًا عن الاعتماد الكامل على واشنطن.

الخلاصة

نعلم أنّ الاتحاد الأوروبي، منذ إنشائه، يتقدم جماعيًا ببطء، ولم يكن تقدُّمه إلّا عبر صدمة الأزمات. كما هو حال مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي يُرى موحَّدًا عندما يمر بأزمةٍ ما. كل الإنجازات العظيمة التي حققها الاتحاد الأوروبي، من بداية النصف الثاني من القرن العشرين وحتى يومنا هذا، قد حدثت في أوقات الأزمات، وليس في أوقات السِّلم. فعندما يكون كل شيء على ما يرام، فإنّ كل دوله تسارع في الدفاع عن مصالحها، وعن رؤيتها الوطنية المحددة، وتبقى كثيرٌ من القرارات الجماعية على مستوى الاتحاد محلّ خلاف، أو تأخذ وقتًا طويلًا كي تحظى بالإجماع.

اليوم يمر الاتحاد الأوروبي بمنعطف خطير يستلزم منه اتخاذ قرارات إستراتيجية كبرى، إذا أراد البقاء قويًا متماسكًا. القرار الأول على المدى القصير، هو التوصُّل لإستراتيجية أوروبية موحدة تمنع روسيا من ابتلاع أوكرانيا وضمّها إلى مداره، ووقف زحفه باتجاه بعض دول أوروبا الشرقية. أما القرار الثاني على المدى المتوسط والبعيد فهو، من وجهة نظري، ما يتعلق بالقرار الأوروبي حول مستقبل الدفاع عن أوروبا عسكريًا أمام المهدِّدات الحالية والمستقبلية؛ هل ستبقى أوروبا تعتمد بالكامل على حلف الناتو للدفاع عسكريًا عنها، أم أنّ أوروبا وعت الدرس الروسي وستقبلُ بالمبادرة الفرنسية حول «الاستقلال الإستراتيجي» وستعتزم بناء قوتها الدفاعية الذاتية المشتركة، أم أنها ستكون طائرًا بجناحين؛ جناح حلف الناتو وجناح قوة الدفاع الأوروبية المشتركة؟

على كل حال، يبدو أنّ وقت التحوُّل الجيوسياسي للاتحاد الأوروبي قد حان. ستُجبَر القيادات السياسية للاتحاد الأوروبي خلال الأشهر والسنوات المقبلة، على خوض سجالات سياسية وحوارات ومراجعات لوضع الاتحاد الحالي؛ بحثًا عن سُبل جاهزيته للتحوُّلات القادمة التي ستواجه أوروبا، والمكانة التي يمكنُ أن تحتلها على الساحة الدولية، وتجعل منها سيدة مصيرها؟  عدة متغيرات قادمة ستساهمُ ربما في «إيقاظ» القارة القديمة: عودة روسيا كمهدِّد جيوإستراتيجي لدول أوروبا الشرقية، مؤشرات الصعود الصيني وقرب تربُّع بكين على الاقتصاد العالمي مزيحةً أمريكا، وتوغُّل بكين الاقتصادي في أوروبا والنمو السريع لقوتها الصلبة، الأزمة التركية-اليونانية التي زعزعت رؤية الاتحاد الأوروبي لحدوده، حلول الأزمة عبر الأطلسي التي توضح بشكل متزايد الاختلافات بين مصالح الولايات المتحدة والمصالح الأوروبية. ستكون الاستقلالية الأوروبية في مجال الدفاع والطاقة، هي محور السجال السياسي للعقد المقبل بين قادة أوروبا؛ سعيًا منهم لإيجاد البدائل عن الحماية العسكرية الأمريكية غير المضمونة وعن الغاز الروسي، الذي يمكنُ أن توظفه موسكو كسلاح يشلّ الاقتصاد الأوروبي.

أخيرًا، ردود أفعال القادة الأوروبيين تجاه هذه الصدمات الحالية والقادمة، ستكشف لنا عن مدى امتلاك الاتحاد الأوروبي للإرادة السياسية والشعبية؛ لاستكمال روايته الوحدوية المشتركة التي نجح فيها اقتصاديًا إلى حدٍ كبير. وها هي الآن الأصوات تتعالى مطالبةً بأن ينجح عسكريًا، أيضًا. دول الاتحاد الأوروبي تدرك أنها لا يمكنها بشكل منفرد احتواء المهدِّدات القادمة، أو أن تفرض نفسها، كدول منفردة، لاعبًا قويًا في النظام العالمي متعدد الأقطاب، الذي يتبلور أمام أعيننا. وبالتالي، فهي تدرك أنّ تعزيز قوتها الجماعية لم يعُد خيارًا، وإنما ضرورةً إستراتيجية تُمليها متطلبات تجاوز الأزمة الأوكرانية الحالية وتبعاتها الاقتصادية والأمنية، والاستعداد لاحتواء مستقبلٍ تكتنفه الضبابية والتقلبات والفوضى، ليس في أوروبا فقط، وإنما في كل العالم.

 
 

[1]  العربية، بالخرائط.. هكذا تنتشر قوات الناتو في دول أوروبا الشرقية، (27 مارس 2022م)، تاريخ الاطلاع: 31 مارس 2022م، https://bit.ly/36G3QL7

[2] NATO, NATO’s military presence in the east of the Alliance,28 Mars 2022,  Accessed:3 April 2022,  https://bit.ly/3LUEkkr

[3] المرجع السابق.

[4]  المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، الأزمة الاوكرانية: الأهداف الحقيقية لروسيا والولايات المتحدة، دلال محمود، (22 فبراير 2022م)، تاريخ الاطلاع: 21 مارس 2022م، https://bit.ly/3wnQpdb

[5] الجزيرة، مواجهة بين صواريخ “الدرع” الأميركي و”إسكندر” الروسي.. لمن تكون الغلبة؟،(11 فبراير 2022م)، تاريخ الاطلاع: 17 أبريل 2022م، https://bit.ly/3JNB2h5

[6] دفاع، الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا الشرقية، (أغسطس-سمبتمبر 2020م)، تاريخ الاطلاع: 13 أبريل 2022م، https://bit.ly/3rj7Nwr

[7]  الحرة، مفاجأة بشأن صواريخ إسكندر.. خدعة روسية تنشر ذخيرة غامضة في أوكرانيا، (15 مارس 2022م)، تاريخ الاطلاع: 25 أبريل 2022. https://arbne.ws/38eZVW1

[8]  المرجع السابق.

[9]  المرجع السابق.

[10] G M F, Russia’s War on Ukraine: the EU’s Geopolitical Awakening, 8 March 2022. Accessed:4 April 2022, https://bit.ly/3K6yMm1

[11] المرجع السابق.

[12] European council, EU adopts new set of measures to respond to Russia’s military aggression against Ukraine, 28 February 2022, Accessed:10 April 2022, https://bit.ly/37BCqpW

[13] GMF, Germany’s foreign policy took a dramatic turn on Sunday, 28 February 2022, Accessed:10 April 2022, https://bit.ly/3jpAYtb

[14] G M F, Russia’s War on Ukraine: the EU’s Geopolitical Awakening.

[15]  الشرق، بريطانيا تعلن أكبر ميزانية عسكرية منذ 3 عقود، (19نوفمبر 2020م)، تاريخ الاطلاع: 25 أبريل 2022م، https://bit.ly/3EJzTGw

[16] G M F, Russia’s War on Ukraine: the EU’s Geopolitical Awakening .

[17] CNBC, Why Europe is so dependent on Russia for natural gas, 24 February 2022, Accessed: 25 April 2022, https://cnb.cx/3xQCvRz

[18]PRÉSIDENCE FRANÇAISE DU CONSEIL DE L’UNION EUROPÉENNE, Déclaration de Versailles, 10 et 11 mars 2022, 11 mars 2022, Accessed 10 April 2022, https://bit.ly/3LXf5xR

[19] Institut Talleyrand, L’Europe de la défense à travers l’Initiative Européenne d’Intervention (IEI), 23 mars 2021, Accessed :25 April 2022, https://bit.ly/3LdO2Ox

[20] IRIS, The European Intervention Initiative: Why we should listen to German Chancellor Merkel, 16 July 2018, Accessed: 25 April 2022,  https://bit.ly/37GQLSp

[21]  المرجع السابق.

[22]   Foundation Robert SCHUMAN, European sovereignty, strategic autonomy, Europe as a power: what reality for the European Bruno DUPRÉ Union and what future? 25 January 2022, Accessed: 25 April 2022, https://bit.ly/3v9b7MW

[23] معهد رصانة، مستقبل «الناتو» ومشروع «الاستقلال الإستراتيجي» الأوروبي، (03 نوفمبر 2021م)، تاريخ الاطلاع: 11 أبريل 2022م، https://bit.ly/3jso25P

[24]  المرجع السابق.

[25]سكاي نيوز، كيف أيقظ بوتن “عملاق أوروبا النائم”؟.. ألمانيا تعزز ترسانتها، (27 فبراير 2022م)، تاريخ الاطلاع: 11 أبريل 2022م، https://bit.ly/3E2AX8b

[26] GOV.UK, Defense Secretary and Polish counterpart reaffirm commitment to European security,8 February 2022, Accessed: 11 April, 2022, https://bit.ly/3JA5QBP

[27] G M F, Russia’s War on Ukraine: the EU’s Geopolitical Awakening.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير