إيران.. تاريخ حافل من العَلاقات الدبلوماسية المضطربة مع الخارج

https://rasanah-iiis.org/?p=29064

بواسطةنورة السبيعي

فصل جديد من ملف انتهاك إيران لأدبيات العَلاقات الدبلوماسية المُتعارَف عليها بين المجتمع الدولي وتبنِّي سياسات خارجية عدائية، ظهر خلال الأيام القليلة الماضية، بإعلان أوكرانيا عن خفض مستوى العَلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، وسحب اعتماد سفير إيران وتقليص بعثتها الدبلوماسية في كييف، على خلفية اتهامات وجّهتها كييف إلى طهران بتزويد روسيا بمسيّرات إيرانية الصُّنع بدأت استخدامها بالفعل في الحرب الروسية-الأوكرانية، لتضع طهران نفسها في قلب الصراع الدائر حاليًّا في أوكرانيا، بما يمكننا اعتباره رسالة عداوة من طهران للغرب ومشاركة لروسيا في حرب كبرى للنفوذ والسيطرة العالمية.

وقبل أسبوعين من هذا الحدث، كان النظام الإيراني قد تلقّى ضربة أخرى بإعلان ألبانيا عن قطعها للعَلاقات الدبلوماسية الرسمية مع طهران، وطرد دبلوماسيي الأخيرة من الأراضي الألبانية، على خلفية اتهامات بهجوم إلكتروني إيراني متسلسل استهدف المؤسسات الداخلية والبنية التحتية الألبانية. وفي عُرف العَلاقات الدولية وفي الممارسات الدبلوماسية الدولية السائدة، يُعتبَر طرد دبلوماسيي دولةٍ ما، أو حتى تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي، إحدى أكثر الخطوات الدبلوماسية شيوعًا المستخدمة للتعبير عن تجاوُز الدولة الضيف للأعراف والقوانين الدولية الحاكمة في العَلاقات الدبلوماسية الثنائية بين الدول.

ومن منظور تاريخيّ، فإنّ أزمة العَلاقات الدبلوماسية بين إيران من جهة، وأوكرانيا وألبانيا من جهة أخرى، ليست بحادثة منعزلة عن طبيعة هذا النظام ورؤيته للنظام الدولي والعَلاقات الدولية فيه. ففي ما يتعلق بقضية النظام الدولي، فإنّ جوهر فكر الخميني وأدبياته قائم على إنشاء نظام عالمي وفق مبادئ ولاية الفقيه وتصديره، وهي الإستراتيجية التي تتبعها إيران في تعاطيها مع دول العالم منذ انتصار ثورتها في 1979م. هذه الإستراتيجية التي تُظهِر عدم اعتراف الخميني بحدود الدول القومية وسيادتها، ظلَّت على الدوام تُسقِط إيران في أزمة قطع العَلاقات الدبلوماسية وتوتير عَلاقاتها الخارجية.

ولعل أشهَر ما يمكن الإشارة إليه هُنا، في سياق هذا المقال، حادثة قطع الولايات المتحدة الأمريكية لعَلاقاتها الدبلوماسية مع إيران بسبب أزمة الرهائن الأمريكيين خلال السنوات الأولى من نشأة النظام الإيراني الحالي، مرورًا بتدهور عَلاقاتها مع الدول الغربية الأخرى على خلفية التهديدات الإرهابية التي تمارسها الحكومات الإيرانية على الأراضي الأوروبية، من تكوين لشبكات اغتيال إيرانية ناشطة لتصفية المعارضين على الأراضي الأوروبية،وصولًا إلى استخدامها ملف الإرهاب في قلب أوروبا أداةً للضغط وتحقيق تنازلات مرتبطة بملف خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA).

الجرأة الإيرانية المتواصلة حاليًّا في استهداف الغرب اكتُسِبَت من سياسة المهادنة والمسايرة الغربية، سواء من قِبل الإدارة الأمريكية الحالية أو من قِبل الدول الأوروبية الراغبة في إقامة عَلاقات طبيعية مع إيران. ويمكننا أن نرى ذلك بوضوح من خلال صمت ألبانيا والحكومات الغربية وحلف شمال الأطلسي لمدة 53 يومًا من حادثة القرصنة، قبل أن تعلن عن قطع العَلاقات بين الدولتين، وهو ليس بالتنازل الأول الذي يمنحه الغرب النظام الحاكم في إيران من أجل الوصول إلى ختام هذه المفاوضات، فخلال الأشهُر القليلة الماضية أُثير الجدل دوليًّا حول مشروع معاهدة بين بلجيكا وإيران لتبادل الأسرى بين الدولتين بهدف الإفراج عن الدبلوماسي الإيراني المتهم بالتخطيط لهجمات إرهابية على الأراضي الأوروبية، أسد الله أسدي، مقابل الإفراج عن مواطن بلجيكي محتجز رهينة في طهران. صمت رجال الدولة الغربيين بشأن الهجوم الإرهابي على الروائي البريطاني الهندي الأصل، سلمان رشدي في نيويورك، ومحاولة تجنب الغرب أيّ ذِكر للعَلاقة الإيرانية بمثل هذا الحدث، لا يمكن إخراجهما عن سياق تقديم التنازلات، وغضّ الأبصار والأسماع عن سلوكيات دولة يسعى معها الغرب إلى تحقيق اتفاق نووي في ظاهره تحجيم لبرنامجها النووي، وفي باطنه محرك اقتصادي ومعنوي لمزيد من الأنشطة والأعمال الإرهابية وانتهاك للحقوق الفردية والمجتمعية والدولية.

ولا يغيب عن الذكر هنا في سياق التوتر المستجد في العَلاقات الدبلوماسية بين إيران والغرب الانتهاكات الإيرانية المتواصلة لسيادة وشؤون دول المنطقة وتهديدها البالغ للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي في أكثر من زاوية. فبالإضافة إلى سياساتها العدائية التي تنتهك مبادئ القانون الدولي، كانتهاك حق السيادة وعدم مراعاة مبادئ حُسن الجوار ودعم وتمويل الإرهاب وتهديد حرية الملاحة وحركة التجارة الدولية، فإنها تعمل على خوض حروب بالوكالة عبر ميليشياتها المسلحة، أو من خلال محاولة اختراق المجتمعات الخليجية والعربية عبر شبكات التجسس والخلايا النائمة، التي تتحيَّن الفرصة لهزّ استقرار هذه الدول، وهي مخاطر قد ترقى إلى كونها أكثر خطورة من التهديدات التي تعرضت لها كل من أوكرانيا وألبانيا خلال الأيام القليلة الماضية.

وختام القول أنه في الوقت الذي يأمل فيه المجتمع الدولي أن تستمع فيه إيران لصوت الحكمة، وتتوقف عن سياساتها العدائية التي تثير التوتر والفوضى والاضطرابات، فإنها للأسف تمضي في سياسة المناورة والمراوغة والمساومة والابتزاز، غير مكترثة لمآلات هذه السياسة، سواء لجهة عزل دولتها عن المجتمع الدولي، أو لجهة زيادة الفجوة القائمة بين نظامها الحاكم ومجتمعها الداخلي، الذي أظهر غضبًا وتململًا متواصلًا من سياسات حكومة إبراهيم رئيسي، عبر سلسلة مستمرة من الاحتجاجات أخذت هذه الأيام منحى تصاعديًّا، من جرّاء الاحتجاجات التي أعقبت مقتل المواطنة الكردية مهسا أميني.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

نورة السبيعي
نورة السبيعي
باحث في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية