أثارت موجة الغضب الشعبية التي عمَّت الأرجاء الإيرانية، بعد حادثة مقتل الشابة الإيرانية الكردية مهسا أميني (22 عامًا) في طهران على يد ما يُعرَف بشرطة الإرشاد (الآداب)، موجاتٍ عارمة من الاحتجاجات الشعبية داخليًا؛ بحجَّة عدم ارتدائها للحجاب بالشكل المطلوب، أو بالطريقة التي تروّج لها قوانين الحجاب في إيران. وتزايَد سخط المجتمع الإيراني إثر التعامل الوحشي، والطريقة التي عُومِلت بها هذه الفتاة من قِبَل شرطة الإرشاد؛ بسبب مخالفةٍ لا تستلزمُ مثل هذا التصرُّف. إلَّا أنَّ ما زادَ من وتيرة ذلك، تناقُض الرواية الرسمية من قِبَل المسؤولين ورجال الشرطة الإيرانية مع الرواية التي أوردتها عائلة الفتاة. اتّسعت رقعة الاحتجاجات على امتداد المدن والمحافظات الإيرانية، بما فيها العاصمة طهران وعدد من المحافظات ذات الغالبية الكردية، في الوقت الذي يشهد فيه الداخل مواجهاتٍ سبَقت هذه الحادثة حول مسألة فرض الحجاب الإجباري وتصاعُد الغضب من إلزامية تطبيقه. يبدو أنَّ هذه المظاهرات مع تزايُد السخط الشعبي تختلف هذه المرَّة اختلافًا جوهريًا عن سابقاتها؛ لأنَّ معظمَ الاحتجاجات السابقة كانت في أغلبها احتجاجات فئوية وضدَّ الفقر وللمطالبة بتحسين الوضع المعيشي، أما الأخيرة فقد كانت قضيتها هي المرأة والتنديد بالقمع الذي تتعرَّض له، وأصبحت المرأة هي العنصر المحوري والرئيس، الذي يقود غضبَ الشارع الإيراني ضدَّ نظامه. ولعلَّ هذا الاختلاف الجوهري في طبيعة هذه المظاهرات في أنه لم يسبق أن حدثت بهذه الصورة، منذ المظاهرات الحاشدة التي امتلأت بها الشوارع الإيرانية عقِب الثورة، عندما أعلن الخميني فرضَ الحجاب الإجباري على النساء الإيرانيات، وما تبِعهُ من قمع واعتقالات واسعة.
وعلى غرار الاحتجاجات السابقة، سارعت قوات الأمن الإيرانية، بما فيها القوات المعنية بمكافحة الشغب، بقمع المظاهرات التي لا تزال كما يصفها اجتماعٌ لقيادات الحرس الثوري، تحت بند «الحالة البرتقالية»، وهي الحالة الأمنية التي يتكفَّل بقيادتها قوات الباسيج أو المتطوعون الذين يرتدون الزيّ المدني، ولم تتطوَّر إلى الحالة الحرجة، أو «الحالة الحمراء»، التي تستدعي تدخُّل الحرس الثوري بصورة مباشرة للمواجهة.
وهنا يُطرَح التساؤل المباشر والأهم حول المؤسسات الأمنية والعسكرية، التي تقود دفَّة كبح المظاهرات ومواجهتها والأساليب التي تنتهجها في مواجهة هذه المظاهرات وأدوارها الرئيسة في قمع المظاهرات؟ والتبعات المحتملة من جرّاء تصاعُد الموقف؟
لطالما اضطلعت المؤسسات الأمنية والعسكرية الإيرانية بمواجهة المظاهرات والاحتجاجات، التي شهدتها إيران طيلةَ السنوات الماضية؛ ما جعلها تقوم على الدوام بإعادة توزيع مهام كلِّ قطاع من القطاعات الأمنية المختلفة، التي واجهت المتظاهرين بما يقتضيهِ الواقعُ الميداني وأرجحية الأدوات، التي يتم التعامل بها مع جموع المتظاهرين. فقد رسمت لمؤسساتها جملةً من المهام والتدابير الوقائية، وعمدت إلى تحديد مناطق المسؤولية لكل قطاع، سواءً كان من قِبَل المؤسسات الأمنية، أو القطاعات التابعة للحرس الثوري. ولعلَّ أحداث العام 2009م، كانت منطلقًا لفرض تنظيم المهام والمسؤوليات بشكل أوسع. أحدَثَ ذلك تغييرًا في المهام والمسؤوليات، التي تضطلع بها الأجهزة المعنية بضبط الوضع الأمني الداخلي ومواجهة الاحتجاجات الشعبية، نتجَ عنهُ تأسيس وتشكيل عدد من المقار الأمنية والعسكرية؛ فمقر «ثأر الله» الأمني أُوكِلت له مهمَّة حماية العاصمة طهران، والمدن التابعة لها، كما أُنيطت به أيضًا مسؤولية التنسيق بين القوات الأمنية ممثلةً بالشرطة أو وزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية، إلى جانب قوات الباسيج ومقارها العسكرية التابعة له والمنتشرة في المدن والمحافظات كافة، حيث تتولى هذه القوات مهمَّةَ إدارة ومراقبة الحالة الأمنية وتدهورها إزاءَ نشوب المظاهرات، والمسيرات الاحتجاجية.
وقد تجلَّت مهام تلك القطاعات في مواجهة المظاهرات في الداخل الإيراني، سواءً بالمواجهة المباشرة عن طريق القمع المباشر للمتظاهرين، باستخدام الأسلحة النارية أو القنابل المسيلة للدموع، وتنفيذ أعمال الاعتقالات الواسعة للحشود الاحتجاجية، يرافق ذلك إحكام سيطرتها على الإنترنت بصورة أوسع، والخاضع للرقابة الشديدة من قِبل الدولة، عبر قطع خدمات الإنترنت على المحافظات والمدن؛ بهدف حرمان المتظاهرين من القدرة على تنظيم المسيرات وتوجيه التجمعات الاحتجاجية.
إلَّا أنه وعطفًا على الأساليب السابقة، أضحت الحكومة خلال السنوات الأخيرة تستخدم أساليب الحرب النفسية لمواجهة المظاهرات، من خلال نشر الشائعات التي تُشير لوجود عناصر خارجية بين المعارضين، ونشر الشائعات بشأن القبض على قادة الجماعات المعارضة. إلى جانب نشر الدعايات التي تُقلِّل من المطالبات التي ترفعها المظاهرات، بالإضافة إلى إكراه الشخصيات التي تقودُ المظاهرات بالاعترافات الرافضة لتلك التصرفات. كما تتَّجه الأساليب المستخدمة إلى ضرورة ممارسة كافة الإجراءات الممكنة لإرهاب المتظاهرين، واستخدام الخداع لتلك الجماعات المعارضة، أو القيادات التي تتولى تنظيمها. عطفًا على نشر الأخبار التي تحاول فيها تشتيتَ المتظاهرين، وصرف نظرهم عن ماهية مطالبهم، أو القضايا الداعية للتظاهر، أو الترويج للقبض على عناصر أجنبية تسعى لتوجيه المتظاهرين لضرب المصالح الحيوية للدولة.
المظاهرات الحالية أظهرت جزءًا من ذلك، حيث تم توجيه التُّهم بوجود أيادٍ خارجية تؤجِّج المتظاهرين، وتدعو إلى العنف في الداخل. كما أصدرَ الحرس الثوري في بيان له بأن «هذه المظاهرات موجَّهةٌ من قِبَل أعداء النظام، وتهدفُ إلى الانتقام من النجاحات الإستراتيجية للنظام الإيراني»، كما تم وصف المتظاهرين بـ«الدواعش»، خلافًا للأدبيات الإيرانية السابقة التي كانت تُشير إلى المظاهرات بـ«الفتنة».
وعلى الرغم من تلك الإجراءات القمعية، إلَّا أنَّ سيرَ تلك المظاهرات وواقع الغضب الشعبي المتزايد لا يزال يُثير مخاوفَ النظام في الوقت الحالي كمؤشر يُنبئ عن عمق ما تُشكِّله هذه المظاهرات من تبِعات محتملة، في ظل تزايد أعداد المعتقلين، وسقوط العشرات من القتلى والجرحى، وسلوك المسؤولين الإيرانيين وتعاطيهم مع الأزمة، وفي وسائلهم العنيفة تجاه المتظاهرين، وفي مقدِّمتهم الرئيس إبراهيم رئيسي، وظهورهم بلغة أكثر حدَّة تجاه المتظاهرين.
ويُتوقَّع أن يتّجِه النظام إلى استنفاد كافة الأساليب والإستراتيجيات الممكنة لإثبات قدرتِه على السيطرة على الأوضاع، وقد تشمل إقالاتٍ واسعة بحق المسؤولين والقيادات الأمنية والعسكرية، وقد يتبعُ ذلك إعادة مراجعة للقوانين المتعلقة بمسألة الحجاب. إلَّا أنه في حال استفحال هذه الأزمة وشعور النظام بخطر الثورة الشعبية ضدَّه، فلا يُستبَعد أن يؤول الأمر لإنزال الحرس الثوري للمواجهة المباشرة مع المتظاهرين؛ لضمان استمرار النظام وإبعاد شبح سقوطِه.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد