المحتجون ونزع شرعيةِ العمائم

https://rasanah-iiis.org/?p=29906

بواسطةد.محمد السيد الصياد

للعمامةِ رمزيةٌ كبيرة عند رجال الدين عامة، ورجال الدين الشيعة خاصة، واتخذت العمامة أبعادًا سياسية توظيفية بمجيئ النظام الإيراني إلى سدّة الحكم في العام 1979م، فالعمامةُ السوداء تعني أنَّ حاملها من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمّا العمامةُ البيضاء فهي لعموم رجال الدين وطلاب الحوزة، دون شرفِ النسبِ النبوي. ورجل الدين صاحب العمامة السوداء له مكانة عند العامة لا تضاهيها مكانة أخرى، ولذا فإنَّ أغلب المناصب الدينية الكبرى كانت من نصيب المتوشِّحين بالسواد. وكان النظام الإيراني منذ العام 1979م وحتى الآن يعاقب معارضيه من رجال الدين بنزع العمائم من على رؤوسهم، وحرمانهم من ارتدائها برهة من الزمن، أو دائمًا، ويريد النظام من وراء ذلك كبْح الجماعة العلمية، وتدجينها، خشيةَ فقدان نفوذه عليهم، والسيطرة على مآلات أفعالهم!

لكن المفارقة أنّ الشعب الإيراني نفسه قرَّر أن يعاقب النظام ورجال الدين المؤيدين له بنفس السياسة، فانطلقت في الآونة الأخيرة حملات «نزع العمائم»، تستهدف نزع عمائم المشايخ ورجال الدين، في الطرقات والشوارع.  

أمّا عن أسباب تلك الظاهرة، فيبدو أنَّ الشباب الإيراني يهدف من وراء تلك الحملة إلى تحقيق عدة أمور:     

1- تقليص نفوذ رجال الدين: فإيران جمهورية «إسلامية»، ويحكمها الفقهاء؛ وبالتالي فإنَّ الشباب يعتبرون رجال الدين هم المسؤولون عن الأوضاع المتردِّية، التي حلَّت بإيران جرَّاء سياسة النُّخب الدينية الحاكمة، والمنتشرة في كل مفاصل أجهزة الحُكم؛ فيريدون تقليص نفوذهم، وتعديل سلوكهم، وإرجاعهم إلى الحوزة. ويرى الشباب الإيراني أنَّ رجال الدين ورّطوا الدولة على مدار أربعين سنةً في حروب خارجية، ودعم وتخليق ميليشيات عابرة للحدود، وتوتُّرات طائفية في الداخل والخارج، وعقوبات اقتصادية، وسياسة عنيفة ضد المعارضين السياسيين، وإقصاء للمرأة والشباب، والأقلِّيات الدينية والعرقية.

2- الحوزة الصامتة: شكَّلسكوتُ رجال الدين عن سياسة النُّخبة الحاكمة، قناعات لدى الشباب والنساء والعامّة، أنَّ رجال الدين ما عادوا منافحين عن حقوق الناس، ومدافعين عن مطالبهم، كما كان يُنظَر إليهم تاريخيًا. والمفارقةُ هنا أنَّ حوزة قُم كانت تتّهم النجف دائمًا بأنها حوزة «صامتة» لا علاقة لها بالشأنِ العام، ولا تدافع عن حقوق «المستضعفين» و «المحرومين». في حين أن قُم تتّخِذ نفس المسار اليوم، عندما يتعلَّق الأمر بنقد سياسات النظام، ولذلك دلالات مهمة، فصمت قُم، إمّا خشية من البطش والتنكيل، وإمّا من باب الإقرار على صنيع النظام. وفي كلتا الحالتين، فإنَّ الشباب الإيرانيّ الثائر في الميادين غاضبٌ من رجال الدين سواءً كانوا ولائيين أو انتظاريين، ويرى أنَّه يجب الانتقال إلى حُكْمٍ مدنيٍّ دستوري.       

3- فجوةُ الأجيال: برزت فجوةٌ كبيرة بين أجيال الثورة، وأجيال ما بعد الثورة، فالأجيال الحالية من الشباب والنساء ممّن لم يعيشوا الأجواء الثورية في سبعينات وثمانينات القرن العشرين، لا يعنيهم الخطاب الثوري، المتمرِّس في صناعة الأعداء، وتخليق عدو وهمي أو حقيقي، لتحميله تبعِات الفشل والإخفاق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، بل يعنيهم أمرُ الإصلاحِ، فالاقتصاد متمركز في أولويات مطالبهم، والإصلاح السياسي المتعلِّق بمزيد من الحريات السياسية والاجتماعية، مسيطرٌ على عقل أغلب هذا الجيل. في حين أنَّ النظام لا يزال يستعمل لغة سبعينات القرن العشرين، إبان ثورة الإيرانيين ضد الشاه، ولم يدرك رجالات النظام، أنَّهم الآن في سُدّة السلطة لا في المعارضة، وأنّهم مُكلَّفون بإدارة الدولة ومواردها، وتوفير بيئة آمنة، ومعيشة كريمة لكافة المواطنين الإيرانيين دون تفرقة بين أحد منهم.

4- قداسةٌ مُتوهمَّة: يبدو أيضًا أنَّ مكانة رجال الدين «المقدسة»، لم تعُد كما كانت عليه في صدرِ الثورة، فَصَمْتُ تيارٍ عريض من رجال الدين عن نقد النظام ومحاولات تقويمه، وتدجين البعض الآخر، وعناية آخرين بمصالحهم الاقتصادية على حساب مصالح الشعب الكلية، وارتباط فريقٍ منهم بالنظام ارتباطًا لا انفكاك منه، كلّ ذلك وَلَّدَ قناعات لدى الأجيال الجديدة، أنّ رجال الدين ليسوا في مرتبة «المقدس»، بل أنزلهم بعض المحتجين إلى مرتبة «المدنس». وهناك أيضًا فئة النساء فأغلبهنّ يتعرَّضن لمظلومية حقيقية من قِبَل النظام ونُخَبه وأجهزته، سواءً بالحرمان من الحقوق السياسية الكاملة، واعتبار المرأة ناقصة الأهلية، أو الحرمان من الحقوق الاجتماعية، كحرية ارتداء الثياب، وحرية اختيار الأزواج، ودخول الملاعب، ونحو ذلك؛ ما خَلَّق فئةً عريضةً ضد النظام، تشكِّل خطرًا حقيقيًا عليه، إن لم يغيِّر النظام من سلوكه، وسياساته.

5- الخطابُ الديني «الإصلاحي» التنويري: هناك خطابٌ ديني «إصلاحي» وتنويري مضاد لخطاب السلطة، وقراءتها، اجتذب الشباب والنساء وأجيال ما بعد الثورة، لتناغمه مع قضايا العصر، ومشكلات الأجيال الجديدة، فالخطاب التنويري ينتقد السلطة المطلقة، ويفنِّد ولاية الفقيه باعتبارها دخيلةً على الفكر الشيعي، ويحاول دمقْرَطة الفكر السياسي الشيعي، ولبْرَلة الحياة الاجتماعية في إيران، ومركَزة المرأة في لُبّ المشهد السياسي والاجتماعيّ؛ ما أثَّر على جماهير عريضة باتت تؤمن بهذا الخطاب، وتنقمُ على القراءة الاحتكارية للدين التي تتبنّاها النُّخَب الدينية للنظام. ويتزعَّم هذا الخطاب أمثال عبد الكريم سروش، والشبستري، وحجاريان، وملكيان، وغيرهم. مع فارق واضح بين التيار التنويري والتيار «الإصلاحي»، الذي يُحسب عليه منتظري وكديفر ومحمد خاتمي، والذي يريد غالبًا الإصلاح من الداخل، والتحوُّل إلى الدستورية من داخل النظام نفسه. 

لكن السؤال المهم، هل تسبَّبت تلك الحركة الاحتجاجية في بروز تصدُّعات بين رجال الدين؟ تبدو النُّخَب الدينية الحاكمة، عاجزةً عن تلبية مطالب الشعبِ وعازمةً على تجاهُل تلك المطالب والتصدي لها، والاستمرار في سياسة العنف والقهر التي تتّبِعها إزاءَ المحتجين، من الشباب والنساء؛ ما زاد رقعة المحتجين، حتى وصلت للاعبي وجماهير كرة القدم المشاركين في كأس العالم بقطر، والذين أحجموا عن أداء النشيد الوطني، لبلادهم في مباراتهم الأولى. وهذا الصنيع من اللاعبين إضافةً إلى حملة نزع العمائم، مع المظاهرات المستمرة في الشوارع من كافة الجماهير، يُشير إلى أيّ مدى ساءت الأوضاع، وإلى أيّ مدى باتت العلاقة بين الجماهير ورجال الدولة!

لكن الحقيقة أنَّ الاحتجاجات أحدثت تصدُّعًا داخل النُّخبة الدينية في البلاد، فحسن الخميني دعا النظام إلى تحكيم العقلانية والديمقراطية، وتحكيم رأي الناس؛ «لأنه بناءً على العقلانية، فإن الطريق الأفضل والأقل كُلفة، هو أن يكون رأي الأغلبية هو المعيار».  أمّا الرئيس السابق محمد خاتمي فقد حذَّر النظام من استمرار الوضع الحالي؛ لأنّه حسب قوله، سيؤدي إلى انهيار اجتماعي شامل. لكنه في نفس الوقت قال إنَّ الإطاحة بنظام الحُكمِ ليس ممكنًا، ولا مطلوبًا. وانتقد المرشدَ خامنئي (الذي أرجع الاحتجاجات إلى أعداء خارجيين) بصورة غير مباشرة، فقال: «إذا تم تقديم كل احتجاج على أنه أعمال شغب، وتم تبرير التعامل العنيف والقاسي معه، فإن ذلك سيزيد من المشكلة». ثمّ شخَّص العلاج من وجهة نظره، الذي يكمُن في تغيير سلوك النظام من الداخل، أو ما سمّاه بـ«التصحيح الذاتي»، فهو «السبيل الوحيد للنظام»، لكن النظام «لا يشعر بالحاجة لسماع ذلك». في المقابل، حرصت النُّخَب الدينية الموالية للنظام على إنكار وجود احتجاجات من الشعب أصلًا، فالمتواجدون في الشوارع حسب أحمد علم الهدى خطيب جمعة مشهد، هم علمانيون، وملحدون، وأعداء للنظام. أو حسب رجل دين آخر، فإنَّ المتواجدين في الميادين هم أعداء إيران «الإسلامية».  

إذن، هناك انقسامٌ حاد داخل الجماعة الدينية في إيران، ففريق محسوب على النظام يريد أن يسير على نفس الإستراتيجية، ويخشى من عواقب إحداث أي تغييرات جوهرية قد يراها المحتجون نقطة ضعف للنظام، وفريق ينتقد الأوضاع السائدة، ويدعو إلى إصلاحات ترضي الناس، وتكبح الحركة الجماهيرية، حفاظًا على النظام من السقوط.  

وأخيرًا؛ تبدو النُّخَب الدينية بعيدةً عن أولويات وهموم الشباب والنساء، وأجيال ما بعد الثورة، وعاجزةً عن استيعابهم، ولم تستطِع تلك النُّخَب أن تتكيَّف مع الواقع الجديد، بل تتنكَّر له، وتتّهِم الأجيال الجديدة بالعلمنة والتأثُّر بالحداثة والإمبريالية الغربية، وهو خطابٌ مُتنكِّرٌ للواقع، ولحقوق شريحةٍ كبيرة من الإيرانيين، ما عاد يعنيهم تلك الأعباء الأيديولوجية والطائفية التي يُحمِّلهم بها النظام الإيراني عبر سياساته العنيفة. في المقابل، فالشباب والنساء والأجيال الجديدة عاجزون كذلك عن التكيُّف مع أفكار رجال الدين الراديكالية تارةً، والتقليدية أخرى، فهذا الجيل نشأ مع نهضةٍ تكنولوجية هائلة، وله متطلَّبات مغايرة للأجيال السابقة، فإمّا أن يتم امتصاصها واستيعابها، وإمّا أن تنفجر يومًا ما، مهما مُورِس عليه من كبتٍ وعنف.  


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د.محمد السيد الصياد
د.محمد السيد الصياد
باحث متخصص في الدراسات الفكرية والأيدولوجية بـ «رصانة»