بينما تشهد الساحة العالمية حالة استقطاب حادّ بين القوى الدولية، يُحتمل أن ترسي قواعد عالمية جديدة حاكمة للنظام الدولي مغايرة لتلك التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة، على خلفية الصراع بين المعسكر الغربي وروسيا في أوكرانيا من ناحية، والصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي على طبيعة النظام الدولي من ناحية ثانية، ترصد مراكز الفكر المعنية بتقييم تراتبية القوى الدولية تناميًا ملحوظًا للتحولات الكبرى في السياسة الصينية، بالانتقال من التركيز على الاقتصاد فقط إلى الانخراط في السياسة الدولية.
تمتلك الصين المقدرات التي تجعلها قادرة على الدفع بإحداث تحولات كبرى في طبيعة النظام الدولي الراهن لصالح نظام دولي متعدد الأقطاب، يضمن للصين دورًا إقليميًّا وعالميًّا أكبر، وبما يطرح جدلًا حول مدى تأثير تنامي الحضور الصيني العالمي في نجاح عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وكذلك تأثير ذلك في مستقبل العلاقة وفرص التعاون.
برزت الصين بقوة باعتبارها قطبًا دوليًّا يمتلك أدوات تأثير في مجريات الشؤون الدولية، من خلال تعاملها العقلاني مع الاستفزازات الأمريكية، المتمثلة في زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي لتايوان خلال العام الفائت، بتفويتها أهداف السياسة الأمريكية «التوريطية» لزعزعة الثقة بالصين باعتبارها قوة دولية يمكن الانضمام إلى محورها، من خلال ردة فعل قوية ومحسوبة، دون التورط في مناوشات قد تجرها إلى حرب دولية، لإيصال رسالة بأن واقعًا دوليًّا قيد التشكيل يتجاوز عصر الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم، ويشهد صعود قوى دولية تعديلية في عالم جديد قادم مغاير لعالم ما بعد انتهاء فترة الحرب الباردة.
تعاظم الحضور الصيني العالمي يتأتى من خلال طرح بكين نفسها وسيطًا دوليًّا يمتلك أدوات قوة وأوراق ضغط عالمية قادرة على تسوية الصراعات الدولية، وبإحداثها اختراقًا دبلوماسيًّا كبيرًا في الشرق الأوسط، الذي يُعَدّ أبرز وأهمّ معاقل النفوذ التقليدية للولايات المتحدة، التي أولت سياسة الاتجاه شرقًا لتطويق الصين الأولوية على حضورها في الشرق الأوسط، إذ تمكنت الصين من دعم إعلان الجانبين السعودي والإيراني إنهاء أطول مرحلة قطيعة بين البلدين في التاريخ المعاصر، في أول اختبار دبلوماسي دولي لها من نوعه، إيذانًا بتدشين معادلة شرق أوسطية جديدة تكون فيها بكين لاعبًا مؤثرًا في قضاياها المعقدة، مقابل أفول نجم تأثير المعسكر الغربي بقيادة أمريكية.
يعتبر هذا الاتفاق أول اتفاق أمني كبير توقعه قوتين كبيرتين في الشرق الأوسط دون رعاية أمريكية منذ عقود، وتُعَدّ الصين، التي تعتمد صيغة التسوية لصالح الجميع في علاقاتها الدولية حتى إن كانت مرحلية، بديلًا دوليًّا مفضلًا لتحقيق المصالح، مقارنةً بتركيز المعسكر الغربي على صيغة «إن لم تكن معنا فأنت ضدنا»، التي لم تراعِ مصالح الشركاء الإستراتيجيين في أحايين كثيرة، خصوصًا في اللحظات الحرجة.
وبينما يحتدم الصراع الأمريكي-الصيني على القيادة الدولية، واستمرارية الحرب الروسية-الأوكرانية، التي يتهم فيه الغرب الصين بالانحياز إلى جانب روسيا، أجرى الزعيم الصيني شي تين بينغ زيارة، هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الحرب، لجاره وشريكه الإستراتيجي، روسيا، دامت ثلاثة أيام، في ظل مساعٍ غربية متتالية لعزل موسكو، وبعد أيام قليلة من إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الزعيم الروسي فلاديمير بوتين بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا. إنها زيارةٌ نُظِرَ إليها في الغرب على أنها تأييد ودعم صينيّ لبوتين، لا سيما في ظل قلق غربي-أمريكي بالغ من التحالف المتنامي بين القوتين الصينية والروسية، المنافستين القويتين للمعسكر الغربي.
وقُبيل زيارته لروسيا، رسم الرئيس الصيني، في مقالة له نُشرت بصحيفة «Russian Gazette»، ملامح عصر جديد للعلاقات الدولية مغايرة لعصر الأحادية الأمريكية، يرتكز على خلق الثقة المتبادلة والتعايش السلمي والتعاون المربح للجميع، لا طرف بعينه هو من يكسب كما يسود في ظل الأحادية القطبية، طارحًا مبادرة لتسوية الأزمة الأوكرانية على أُسُس الميثاق الأممي والمخاوف الأمنية المشروعة لكل الدول.
لدى وصوله إلى موسكو، صرح بوتين بأن الصين وروسيا قوتان رئيسيتان في العالم وعضوان دائمان في مجلس الأمن، ولا يمكن لقوة دولية بعينها أن تملي قواعد النظام الدولي، فيما تمتلك الصين وروسيا أوراقًا في الشؤون الدولية. وعند رحيله، أظهرت الفيديوهات الزعيم الصيني يقترب من بوتين، ويقول له: «إن تغييرًا لم يحدث منذ 100 عام يجري حاليًّا، ونقود معًا هذا التغيير».
بينما شككت واشنطن في مصداقية الوساطة الصينية، جرى اتهام الصين بعدم الحيادية، لقطع الطريق على بكين -فيما يبدو- والحيلولة دون إحداث اختراق دبلوماسي دولي ثانٍ، قد يضيف نقاطًا جديدة لصالح بكين في معركتها الدولية مع واشنطن، بعد نجاح الوساطة الصينية في إنهاء القطيعة بين الرياض وطهران. في المقابل، ترفض بكين ذلك، وترى أن بونًا شاسعًا بين من يطرح مبادرات السلام أمام العالم أجمع لوقف الحرب، ومَن يدعم بالسلاح طرفًا ضد طرف لاستمرارية الحرب وديمومتها، فقط من أجل حسابات جيوسياسية تضمن ديمومة قيادة المعسكر الغربي للعالم.
إدراك القيادتين السعودية والإيرانية لتنامي الحضور الصيني العالمي، لعب دورًا في إزالة جبل الجليد بين السعودية وإيران، وتوقيع الاتفاق في بكين، التي باتت تتجه نحوها الأضواء العالمية باعتبارها ثاني أهم عاصمة قرار في العالم، بحكم امتلاكها مقدرات عسكرية واقتصادية جعلتها في مقدمة الاقتصادات الأكبر في العالم.
للصين أيضًا مصالح يتقدمها ضمان تأمين إمداد النفط وسلاسل التوريد والتجارة في الممرات الدولية الشرق أوسطية، وتذليل العقبات أمام تنفيذ مشروع الحزام والطريق الصيني الدولي العابر للحدود، والأهم إبراز أدوات تأثيرها في الشرق الأوسط باعتبارها منطقة اختبار رئيسية لصعود الأقطاب الدولية، وهو ما يدعم بكين في النهاية للقيادة العالمية، لأن تعاظم دورها الشرق أوسطي ينعكس على مستويات حضورها العالمي، كما يجادل عديد من المنظِّرين والسياسيين مثل جون ميرشايمر وهنري كسينجر.
فاعلية الدور الصيني ساهمت في تفكيك أزمة الثقة المتبادلة، خصوصًا من الجانب السعودي في مقابل نظيره الإيراني، بحكم السجل الطويل من عدم الالتزام الإيراني بشأن الوعود والعهود مع الرياض، بل وفي حرصها الشديد على تنفيذ بنود الاتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية على نحو فاق التوقعات في أحايين كثيرة. ويأتي ذلك بدايةً بتغيير لغة الخطاب السياسي الملحوظة للدولتين في المنابر الإعلامية، ثم استباق الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز ليقدم الدعوة رسميًّا إلى الرئيس الإيراني لزيارة المملكة، وردّ إيران بقبول الدعوة، ثم إجراء وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان اتصالًا هاتفيًّا بنظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، لسرعة التنسيق لعقد لقاء ثنائي لإعادة فتح السفارات والقنصليات بين البلدين، بعد قيام وفود فنية بزيارة المقارّ والتحضير لإعادة فتحها. ثم شكلت مسيرة الانفراجة في العلاقات، بدايةً من محادثات الجانبين في بغداد ووصولًا إلى توقيع الاتفاق في بكين، دافعًا لتقارب إيراني-خليجي.
يُعَدّ المتغير الصيني هو الأبرز في رسم مرحلة جديدة في الشرق الأوسط، تمثلت في نجاح الوساطة لتوقيع الاتفاق بين السعودية وإيران لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، إذ تبرز فاعلية الدور الصيني وصعود الصين المتنامي في الميزان الدولي، لذلك من المتوقع أن تسخِّر الصين كل إمكاناتها لاستمرارية نجاح الاتفاق في أول اختبار لها لتعظيم أدوارها العالمية، وتنبئ جهود الطرفين السعودي والإيراني حول عودة العلاقات الدبلوماسية بأن في الدولتين رغبة حقيقية على أعلى المستويات لإنجاح الاتفاق.
وختامًا، قد تفضي هذه الرغبة إلى عودة العلاقات على أعلى مستوى دبلوماسي، بأكثر مما كان متوقعًا، وتعزيز آلية اللجان المشتركة، بما يرسي مرحلة جديدة أكثر تعاونًا في الجوانب الاقتصادية والتجارية والأمنية، وتنسيق المواقف تجاه القضايا الإقليمية والدولية، والاتفاق على صيغة معينة للقضية النووية، وبما يلقي بظلاله بشكل أكثر مما كان متوقعًا على الخلافات في الملفات الإقليمية الشائكة، وفي مقدمتها الملف اليمني، ثم الدفع باتجاه التوافق والحوار بين الفرقاء اللبنانيين لإنهاء الأزمة في لبنان، الذي بلغ حافة الهاوية، مع إمكانية أن تُحدِث إيران تغييرًا في سياستها الخارجية لصالح سياسة أكثر براغماتية في الملفات الإقليمية، بما يعزز فرص وصول الشخصيات الوطنية المتوازنة إلى السلطة مستقبلًا في العراق، وغيرها.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد