حـدود تـأثـير الأطـراف المُعرقِلة لعودة العلاقات السعودية-الإيرانية

https://rasanah-iiis.org/?p=30907

ينظُر الكثير من المنظِّرين والمراقبين للاتفاق السعودي-الإيراني، على أنَّه تحوُّل يُحدِث «زلزالًا سياسيًا» -حال نجاحه- يقود إلى تغييرات جذرية في ترتيبات المنطقة الشرق أوسطية، التي بُنيت على مدى عدّة عقود ماضية، وتبدو الأطراف الخاسرة أو القلِقة أو المتأثِّرة؛ دولًا أو جماعات، متأهِّبة للحيلولة دون تحقيق أهداف الاتفاق المرجُوَّة من الجانبين السعودي والإيراني، أو التقليل من حجم النتائج المتوقَّعة عند الحد الأدنى، خصوصًا إذا ما قُدِّرت حجم النتائج على أنَّها ترتِّب لتحوُّلات جيوإستراتيجية تُرسي معالم مرحلة جديدة، تتعارض بشكل كبير مع مصالحها العامة أو الخاصة وتوجُّهاتها الإستراتيجية، في منطقة حيوية ذات سِلَع إستراتيجية هائلة تحتلّ أولويةً كبرى في سياساتها وتوجُّهاتها، لاعتبارات جيوسياسية وأمنية واقتصادية.

من المتوقَّع أن تلجأ الأطراف الخاسرة إلى تبنِّي تدابير وسياسات سلبية (تخريبية) تجاه الاتفاق، خاصةً إذا بدا لها أنَّ الأطراف الموقِّعة (السعودية وإيران) والضامنة (الصين) جادَّة وحريصة على نجاح الاتفاق، حيث لم تمضِ سوى ساعات قليلة على إعلان الاتفاق، حتى سارعت الأطراف الخاسرة إلى تشكيكها في الالتزام الإيراني ببنوده، ولسان حالها أنَّ إيران لن تتغيَّر، وأنَّ السلوك العنيف للميليشيات المسلَّحة الموالية لم يشهد تراجعًا في ساحات النفوذ، وتعتمد في ذلك على مركزية الأيديولوجيا في النظام الإيراني.

وكذلك، بدا يلوح في الأفق امتعاضٌ واضح من الميليشيات المتضرِّرة، بدليل صمتها وعدم مباركتها الاتفاق، الذي يحتمل أن يؤثِّر سلبًا على مستقبلها من ناحية أولى، وقصفها بعض الأهداف الأمريكية في الساحة السورية من ناحية ثانية، ورَدُّ واشنطن برسائل ردع قوية ضد الأهداف الإيرانية في الساحة السورية بسرعة شديدة للغاية؛ ما يعكس رغبةً أمريكية لإثبات صحة شكوكها في الالتزام الإيراني ببنود الاتفاق من ناحية ثالثة. كما أنَّ تصريح القيادي الحوثي محمد علي الحوثي بأنَّ الاتفاق يخُص الأطراف الموقِّعة بينما القضية اليمنية مستقلَّة وتسويتها يمنية-يمنية من ناحية ثالثة، يعكس مدى القلق لدى الميليشيات من انخفاض الحاجة الوظيفية لها في المعادلة الإيرانية نتيجةً لهذا الاتفاق.

تسعى هذه الدراسة إلى مناقشة هذا الموضوع، من خلال الإجابة على عدّة تساؤلات رئيسية، تتضمَّن: مدى تأثير السياسات التخريبية المُحتمَلة على مستقبل الاتفاق السعودي-الإيراني وعودة العلاقات السعودية-الإيرانية؟ وما مدى قُدرة الأطراف الموقِّعة والضامنة على تحييد أو تجاوُز سياسات الأطراف المُعرقِلة لإنجاح الاتفاق وعودة وتعزيز العلاقات؟ وما حدود ومدى الالتزام الإيراني بالاتفاق وعودة العلاقات مع السعودية؟ وما هي أدوات الضغط الإيرانية وما مدى كفايتها على المُعرقِلين التابعين لإيران في ساحات النفوذ-الأذرع، التي حقَّقت مصالح ومكتسبات خاصة على مدى سنوات يصعُب التنازل عنها، للالتزام بالنهج الإيراني الجديد تجاه المملكة؟

تُسهِم الإجابة على التساؤلات في تحديد الأطراف الخاسرة المؤثِّرة على الاتفاق، وأوزانها الإقليمية والدولية من ناحية أولى، حيث تختلف أدوات تأثير الأطراف على عودة العلاقات السعودية-الإيرانية باختلاف أوزان الأطراف الخاسرة، وتُسهِم -أيضًا- في الكشف عن تقدير السياسات السلبية المُحتمَلة (هامشية أم مركزية)؛ للحد من مكاسب الاتفاق من ناحية ثانية. كما تُسهم أيضًا في كيفية تحييدها وتجاوزها من قِبَل الأطراف الموقِّعة، بما يضمن تنفيذ الاتفاق وتعظيم مكاسبه، وسرعة قيام الدول الموقِّعة بإعداد إستراتيجيات المواجهة للتعاطي مع كافّة السيناريوهات المُحتمَلة من الأطراف الخاسرة.

أولًا: أوزان الأطراف الخاسرة من الاتفاق وحجم خسائرها

تفيد الافتراضات الواقعية بأنَّ الأطراف الخاسرة من اتفاق تُبرمه وحدتين دوليتين مؤثِّرتين في مجريات الشؤون الإقليمية والدولية، تتحدَّد على ضوء تداعيات نتائج الاتفاق على مفهومين رئيسيين، بالنسبة لهذه الأطراف: القوة والمصلحة؛ فعندما يتهدَّد معدل قوة/مصلحة فاعل من الدول أو فاعل من دون الدول من وراء توقيع تلك الوحدتين لاتفاقٍ ما، عندها تتحدَّد هذه الأطراف الخاسرة. وفي حالة الاتفاق السعودي-الإيراني، فإنَّ الأطراف الخاسرة (الخاسرون)، تكون على النحو التالي:

1. الميليشيات المتضرِّرة

يقصد بها الميليشيات الموالية لإيران، التي حقَّقت مكاسب مالية ومصالح اقتصادية خاصة بها على مدى سنوات، في ساحات النفوذ العراقية والسورية واليمنية، مثل ميليشيا عصائب أهل الحق وأهل الكهف في العراق وسوريا، وميليشيا قوات الدفاع الشعبي في سوريا والحوثيين في اليمن، من خلال جني الأرباح المالية من التجارة السوداء (المخدّرات وغسيل الأموال وتهريب الأسلحة)، والحصول على العمولات من مناطق السلع الإستراتيجية؛ لتغطية نفقات مقاتليها وعملياتها القتالية والتسليحية، ونفقات التعويضات والرعاية لأُسر القتلى، يُضاف لذلك الأوضاع المالية السيِّئة، التي باتت تعيشها بعد تراجُع الدعم المالي الإيراني بفعل العقوبات الاقتصادية.

تمتلك الميليشيات -أيضًا- شركات سياحية وتجارية وعقارية خاصة، في العديد من المحافظات العراقية والسورية، وشركات شحن تعمل في نقل وتهريب السِلَع الإستراتيجية القادمة من إيران أو من العراق إلى الدول المجاورة، لإعادة تصديرها إلى العالم الخارجي لجني العوائد المالية، بالإضافة إلى توظيف النفوذ السياسي والعسكري الواسع في الحصول على قروض تفضيلية وتسهيلات قانونية، لتنفيذ العديد من المشاريع الخاصة؛ لتعظيم جني الأرباح المالية. ليس هذا وحسب، بل سيطرت هذه الميليشيات على الكثير من الأراضي الزراعية.

في ظل احتمال تأثير هذا الاتفاق على مصالحها، يتوقَّع عدم التزامها بنتائج الاتفاق، ما لم تمارس إيران كافّة أدوات الضغط المُتاحة عليها، للحد من سلوكها في ساحات النفوذ، للاعتبارات التالية:

  • وزنها وثِقلها الكبير: تحظى الميليشيات المتضرِّرة بوزن وتأثير كبيرين في ساحات النفوذ؛ لاعتبارات تتعلَّق بعدد مقاتليها، وحجم تسليحها، ومناطق انتشارها في المعابر الحدودية والمناطق الإستراتيجية ذات الموارد النفطية الهائلة والثروات الطبيعية.
  • حجم الخسائر المُحتمَلة: وهي المصالح الخاصة، التي يصعب التنازل عنها، مثل عوائد التجارة السوداء الهائلة من تهريب مخدّرات وأسلحة وبضائع، وعوائد الشركات والمشاريع الخاصة بها، ومناطق النفوذ ذات السِلَع الإستراتيجية والممرّات الحيوية والمعابر الحدودية، وتقلُّص فرص تأثيرها على القرارات الإستراتيجية لصالحها في ساحات النفوذ، مع إمكانية تقلُّص نفوذها السياسي والعسكري بتزايد مطالب احتكار الدولة للسلاح، حال تزايُد فرص الدول الوطنية على حساب الفاعلين من غير الدول.
  • تخوُّف الحوثيين: فيما ينسِّق الطرفان السعودي والإيراني للقاء مرتقب بين وزيري خارجيتهما لإعادة فتح المقار الدبلوماسية، صرَّح القيادي في حركة أنصار الله (الحوثيين) محمد علي الحوثي بتصريح، يحمل دلالات غاية في الأهمِّية على مدى التأييد الحوثي للاتفاق، ومدى الهاجس من حصّة الحوثيين في المعادلة اليمنية الجديدة المُحتمَلة، بقوله: «القضية اليمنية مستقلَّة، وأهلها هم فقط المعنيون بشأنها وتسويتها، وإنَّ الاتفاق بين الرياض وطهران شأن يخُص البلدين»([1]).

يعكس تصريح محمد الحوثي إدراك الحوثيين بأنَّهم باتوا ورقة مساومة بين الطرفين، وأنَّهم لا يقبلون بحل لم يمنحهم حصّة في المعادلة الجديدة، تتناسب وحجم نفوذهم على الأرض، ويعزِّز من تصوُّر إمكانية وقوع تطوُّرات سلبية تؤثِّر على سير الاتفاق، ما لم يتدارك الطرفان حساسية الموقف وتفعيل إيران كافة أوراق ضغطها على الحوثيين؛ للقبول بحل مرضي للجميع. لكن التساؤل المطروح: هل أدوات الضغط الإيرانية على الحوثيين كافية لقبولهم بتسوية الأزمة؟ وماذا لو تعنَّت الحوثيون ورفعوا سقف مطالبهم، بما لا يُفضي إلى تسوية للأزمة؟ وماذا سيكون رد الفعل السعودي المتوقَّع في هذه الحالة؟

  • أولوية الحسابات الخاصة: تشير التجارب السابقة إلى أنَّ بعض الميليشيات ذات المصالح الخاصة، عادةً ما تعطي مصالحها الأولوية عندما تتعارض والأوامر الإيرانية؛ فعلى سبيل المثال، رفضت عصائب أهل الحق الالتزام بالمطالب الإيرانية بعدم قصف الأهداف الأمريكية؛ تجنُّبًا لاستفزاز الرئيس السابق دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية، ودفعه لاستخدامه القوة ضد الأهداف الإيرانية بالعراق، بما يعزِّز من حظوظه في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020م، حيث قصفت بالفعل أهدافًا أمريكية مرّتين في نوفمبر وديسمبر2020م، واعتبر قائد «العصائب» قيس الخزعلي، أنَّ مقاومة الوجود الأمريكي مطلب عراقي لا إيراني([2])؛ ما فسَّره البعض على أنَّه تمرُّد على بيت الطاعة الإيراني.

2. إسرائيل

أصاب الاتفاق السعودي-الإيراني إسرائيل، حكومة ومعارضة وشعبًا؛ بصدمة من العيار الثقيل، وأربك حسابات حكومة نتانياهو في الداخل والخارج، ووصفته كتلة المعارضة بقيادة رئيس الحكومة السابق يائير لبيد بالصفعة الكبرى لإسرائيل، وعدَّته فشلًا ذريعًا لحكومة نتانياهو في السياسة الخارجية، وانتصارًا دبلوماسيًا كبيرًا للحكومة الإيرانية في المقابل؛ حيث بذلت تل أبيب جهودًا كبيرة على مدى سنوات سابقة لعزل إيران، وبناء جدار دفاعي ضدّها. وغرَّد عضو الكنيست جدعون ساعر، على «تويتر»: «نتانياهو وعد بالسلام مع السعودية.. في النهاية فعلت السعودية ذلك مع إيران»([3]).

يكشف حجم الصدمة، التي أصابت إسرائيل -حسب تصريحات مسؤوليها ومحلِّليها- عن تبوُّئها المرتبة الأولى في قائمة الخاسرين من الاتفاق، بالنظر لحجم الخسائر الكبيرة، التي ستلحق بإسرائيل، لكونه سيقضي على الأهداف الإستراتيجية الكبرى لإسرائيل، التي بذلت فيها تل أبيب جهودًا جبارة على مدى السنوات الماضية لتحقيقها، أبرزها:

  • تقليل فرص توسيع الاتجاه التطبيعي مع الحكومات العربية، بينما كانت تل أبيب تجهِّز نفسها لمرحلة تطبيعيه جديدة أوسع مع الدول العربية.
  • تقليص فرص اتجاهها نحو فرض مزيد من العُزلة والحصار ضد إيران، فيما يخُص سلوكها الإقليمي وبرنامجها النووي وصواريخها البالستية، بينما تبذل حكومة نتانياهو جهودًا جبارة لتشديد العُزلة وإحكام الحصار على إيران.
  • خفض الطموح الإسرائيلي تجاه جهود بناء جدار إقليمي دفاعي عسكري وسياسي قوي، بمشاركة المملكة العربية السعودية ضد إيران؛ وبالتالي بات تصوُّر انضمام الرياض إلى أيّ تحالُف عسكري يستهدف ضرب إيران غير وارد.

3. الولايات المتحدة

تشير الدلائل إلى أنَّ الاتفاق لم يكُن مقبولًا أو مرضيًا بالنسبة لواشنطن، كما أنَّ تصريحات مسؤوليها المشكِّكة في نجاح الاتفاق تصُب في السياق ذاته ([4]). ويفسِّر عدم الرضا الأمريكي حجم الخسائر الأمريكية المحتملة من الاتفاق، ومن أبرزها:

  • خسارة نقاط إضافية لصالح الصين في المعركة الكبرى على القيادة الدولية، بتحقيق الصين اختراقًا دبلوماسيًا كبيرًا في منطقة ظلَّت لعقود في مدار النفوذ الأمريكي.
  • كسر احتكار الولايات المتحدة المنفرد لطرح مبادرات الوساطة، ورعايتها لتسوية الصراعات بين القوى المؤثِّرة في مجريات الشؤون الإقليمية والدولية، بما يعظِّم مصالحها ومكاسبها.
  • مزيد من تراجُع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، وتقليص فرص مشاركتها في الترتيبات الأمنية، في ظل بديل دولة كبيرة بوزن الصين تنافسها على هذا الدور.
  • بوادر خسارة حليف تقليدي إستراتيجي هام بالشرق الأوسط، هو المملكة العربية السعودية، وترجيح الميزان الصيني باستقطاب المملكة ذات الثقل في المنطقة وفي العالم الإسلامي وفي ميزان الطاقة العالمي.  

هـ. خسارتها ما كانت تجنيه من وراء سياسة تأجيج الصراع المذهبي السُنِّي-الشيعي بالمنطقة، وكل ذلك يخصم من نقاط ديمومة هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي بشكل منفرد.

­­­

ثانيًا: التدابير والسياسات السلبية المحتملة لعرقلة الاتفاق

نظرًا لكون الأطراف المُحتمَل خسارتها من جرَّاء الاتفاق، ذات أوزان ومقدرات إقليمية وعالمية هائلة (الولايات المتحدة القطب الأعظم الأول في العالم بحُكم مقدراته وإمكانياته وأدواته العالمية وإسرائيل القوة الإقليمية المؤثِّرة في الشؤون الإقليمية والدولية)، باستثناء الميليشيات المتضررة، يُضاف إليها كافّة الدول المحسوبة على المعسكر الغربي المتضرِّرة من احتمالية تنامي المصالح الصينية-الشرق أوسطية على حساب مصالحها في الساحة الشرق أوسطية في المستقبل، مثل بعض الدول الأوروبية ثم الهند واليابان وكوريا الجنوبية؛ وبالتالي تمتلك هذه الدول الأدوات الكافية للتأثير على مستقبل الاتفاق.

كما أنَّ حجم خسائر تلك الأطراف يُصنَّف ضمن الخسائر الجيوسياسية والجيوإستراتيجية، إقليميًا وعالميًا (مركزية وليست هامشية)؛ وبالتالي يصعب وقوفها مكتوفة اليدين معصوبة العينين تجاه النتائج المُحتمَلة للاتفاق، خصوصًا في ظل مساعي أقطاب دولية صاعدة لمنافستها بقوة على الساحتين الإقليمية والدولية.

وعلى قدر تصوُّر مقدار الخسائر لكل طرف خاسر، تكون التدابير المُعرقِلة للاتفاق. وفيما يلي أبرز التدابير المُعرقِلة المُحتمَلة بقصد التأثير على فرص ومكاسب الأطراف الموقِّعة والضامنة للاتفاق:

1. التصعيد الميليشياوي العسكري ضد الأهداف الأجنبية

قد توالي بعض الميليشيات المتضرِّرة عملية قصف الأهداف الداخلية أو الأجنبية، في ساحات النفوذ، لاسيّما في العراق وسوريا واليمن، بقصد التأثير على مواقف الطرفين السعودي والإيراني وإصرارهما لإنجاح الاتفاق، حيث تشهد سوريا والعراق انتشارًا واسعًا للعديد من الأطراف المسلحة. وقد يأتي في هذا السياق، ووارد أن يتكرَّر لاحقًا، سلسلة الهجمات الأخيرة، التي صرَّحت واشنطن، بأنَّها نُفِّذت بواسطة ميليشيات مسلحة تابعة للحرس الثوري الإيراني، بطائرات مسيَّرة ضد أهداف أمريكية في سوريا، وأسفرت عن مقتل متعاقد مدني أمريكي، وإصابة ستة آخرين من بينهم خمسة من أفراد الخدمة العسكرية بالجيش الأمريكي.

ويؤكد ذلك، ما كشفه مصدر مقرَّب من قائد «فيلق القدس» الإيراني إسماعيل قآني، يوم 30 مارس 2023م، بأنَّ تحقيقات إيران بعد سلسلة الهجمات الأخيرة، التي طالت أهدافًا أمريكية، كشفت عن أنَّها ترجع لخلية من ضباط في الحرس الثوري وآخرين ينتمون إلى فصائل لبنانية وسورية وعراقية ويمنية، خطَّطت لعرقلة وتخريب التقارب السعودي-الإيراني ([5]).

2. ارتفاع‭ ‬حدة‭ ‬المناوشات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والإسرائيلية‭ ‬مع‭ ‬الميليشيات‭ ‬الموالية‭ ‬لإيران‭ ‬في‭ ‬المنطقة

قد تلجأ كلٌّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى تكثيف استهداف مقار وتمركزات الأطراف الموالية لإيران، بشكل متكرِّر؛ بهدف عودة التوتُّر الإقليمي من ناحية، وإثبات صدق شكوكهما في عدم التزام إيران وميليشياتها المسلحة بأيّة عهود. وتأتي في هذا السياق، مسارعة الجيش الأمريكي لإثبات صحة شكوكه واغتنام الفرصة، بشنِّه غارات جوِّية واسعة على مواقع متعدِّدة شرق سوريا، يوم 24 مارس 2023م، ضد تمركزات، قالت واشنطن إنَّها تابعة لميليشيات مسلحة تتبع الحرس الثوري الإيراني، أدّت إلى مقتل 14 مقاتلًا تابعين للميليشيات؛ ردًا على سلسلة هجمات بطائرات مسيَّرة ضد أهداف أمريكية في سوريا.

وكذلك، كثَّفت إسرائيل غاراتها الجوِّية ضد التمركزات الإيرانية في مناطق متفرِّقة بسوريا، على مدى يومين متتاليين (30 مارس و1 أبريل 2023م)، أسفرت عن مقتل 5 من ضباط الحرس الثوي، بينهم ضابط برتبة كبيرة، وأكدت إيران عزمها الرد على الغرات الإسرائيلية، في مؤشِّر إلى مزيد من التصعيد المتبادل المُحتمَل بين الجانبين في سوريا ولبنان وفلسطين.

3. تنامي الحديث عن ضربة عسكرية إسرائيلية وشيكة لإيران

قد تشهد المنطقة الشرق أوسطية خلال قادم الأيام، تنامي الحديث بكثرة عن ضربة إسرائيلية وشيكة لإيران، باستغلال قضية الملف النووي الإيراني، أو السلوك الإقليمي، أو الصواريخ البالستية، على خلفية الآثار السلبية الناجمة من توقيع الطرفين السعودي والإيراني للاتفاق.

وفي هذا السياق، يتوقَّع المحلِّل الروسي ألكسندر نازاروف، أن تعزِّز واشنطن وتل أبيب من سياسة الاستفزازات العسكرية ضد إيران؛ بقصد التأثير على الموقف السعودي من الاتفاق من ناحية، ودفعها نحو الانضمام إلى جانبهما حال القيام بأيّ عمل عسكري ضد إيران من ناحية ثانية. وهو ما يعزِّز من فرص احتمالات ضرب إيران([6])، خصوصًا أنَّ الولايات المتحدة وإسرائيل تدركان أنَّ قوة الردع الإيرانية في ظل الواقع الجديد بعد توقيع الاتفاق تتراجع، مقارنةً بمرحلة ما قبل توقيع الاتفاق؛ لأنَّ إيران لا تمتلك حدودًا مباشرة مع إسرائيل، ولا يمكنها، في هذه الحالة، تهديد المصالح الأمريكية أو الخليجية في المنطقة الخليجية عامة والسعودية خاصة، التي كانت تشكِّل قيدًا على واشنطن في اتّخاذ قرار ضرب إيران عسكريًا.

وهنا يُلاحظ أنَّ إسرائيل خسرت فرصةً تاريخية في تشكيل تحالف عسكري إقليمي معادٍ لإيران، لطالما بذلت جهودًا حثيثة طيلة السنوات الماضية لتدشينه، كما خسرت إيران بالحسابات العسكرية قوة الردع العسكرية القائمة على التهديد بالحرب الشاملة في المنطقة الشرق أوسطية، وأصبحت الدولتان الإسرائيلية والإيرانية لأول مرّة وجهًا لوجه، بعيدًا عن الزج بالمنطقة الخليجية في صراعاتهم. لذلك؛ بات عليهما اتّخاذ القرار المناسب؛ لتحديد مسارات الصراع البيني، وتحمُّل مسؤولية وتبعِات ما ستقرِّرانه، بعيدًا عن الساحة الخليجية.

إضافةً للتصعيد العسكري المُحتمَل ضد إيران على خلفية الاتفاق، تأتي استمرارية التصعيد السياسي الإسرائيلي ضدها؛ لتطويقها من عدَّة جبهات، وآخر مؤشِّرات ذلك تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين بشأن الاتفاق مع نظيره الأذربيجاني، حول «تشكيل جبهة موحَّدة» ضد إيران.

4. إعادة واشنطن تقييم علاقتها مع الرياض

تتعالى الأصوات في واشنطن بضرورة إدراك الولايات المتحدة لأهمِّية الشريك السعودي، وتفهُّم طروحاته السياسية بحُكم مقدراته وإمكانياته وأدواته المؤثِّرة في الشؤون الإقليمية والدولية، وأنَّ هناك مصالح إستراتيجية سعودية ذات أولوية باتت تشغل صانع القرار السعودي، وأن تعيد تقييم العلاقة على هذا الأساس، بدلًا من المكابرة، التي أصبحت تخدم مصالح منافسي الولايات المتحدة، وتقلِّص تحالفاتها الدولية. إلّا أن المخاوف أيضًا تتزايد من قيام الولايات المتحدة بتكثيف ضغوطها ضد المملكة في قضايا مختلفة، مثل قضايا حقوق الإنسان، وقضايا الطاقة، والحرب في اليمن، بُغية ثني المملكة عن التناغم مع الجانب الصيني، والتفاهم مع إيران.

5. مزيد من التصعيد والتطويق الأمريكي ضد الصين

يتوقَّع أن يتفاقم الصراع الأمريكي-الصيني في العديد من بؤر التوتُّر العالمية بين واشنطن وبكين، على خلفية المساعي الصينية لكسر قاعدة احتكار الولايات المتحدة للقيادة الدولية، لاسيّما في ظل المساعي الصينية الدؤوبة لتغيير كافّة القواعد الحاكمة للنظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة، بما يؤدِّي إلى إنهاء عصر الأُحادية القطبية.

قد تلجأ إدارة بايدن إلى نهج أكثر تصعيدًا ضد الصين، في البؤرة التايوانية الأكثر التهابًا بين الجانبين الأمريكي والصيني؛ بقصد توريط الصين في صراعات ممتدَّة، وتشتيت جهودها، وتعطيل مساعيها العالمية لتغيير القواعد الحاكمة للنظام الدولي، بأن تلوِّح -مجرّد تلويح- على سبيل المثال لا الحصر، بإمكانية عدم الالتزام بمبدأ «صين واحدة ونظامان»، على نحوٍ يؤجِّج الموقف التايواني نحو المُضي في إعلان الاستقلال رسميًا عن الصين، وعندها ترُد الصين عسكريًا لتتورَّط في حرب ممتدَّة لا تُحمَد عقباها.

وقد تلجأ الولايات المتحدة -أيضًا- إلى مزيد من التطويق ضد الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي، بتعزيز وتفعيل تحالفاتها السياسية والعسكرية مع القوى الآسيوية الحليفة (*)، ضمن سياسة الاتجاه شرقًا، لمزيد من تطويق وحصار الصين الصاعدة بقوة على الساحة الدولية.

ارتباطًا بما سبق، يأتي قرار إدارة الرئيس بايدن في الرابع والعشرين من مارس 2023م، باستبدال مقاتلاتها الحديثة متعدِّدة المهام من الشرق الأوسط، بطائرات قديمة من طراز «إيه-10»؛ بهدف تحويلها إلى منطقة الإندو-باسفيك وأوروبا، للمساهمة في تطويق الصين ([7])، حيث أنَّ الطائرات الحديثة يمكنها التعامل مع القُدرات العسكرية الصينية المتنامية، بينما تصلح طائرات «إيه-10» في التعامل مع خطر الجماعات المسلحة بأسلحة إيرانية خفيفة في الشرق الأوسط.

وقد تكثِّف الولايات المتحدة من استخدام سلاح العقوبات ضد الشركات الصينية بشكل عام، وضد الشركات الصينية ذات المصالح الكبرى في الشرق الأوسط بشكل خاص، مع إمكانية أن تلجأ واشنطن إلى تعقُّب المصالح الصينية في الشرق الأوسط، بتعطيل سفن التجارة وناقلات السلع الإستراتيجية المارّة نحو الصين من مضيق ملقا الإستراتيجي، بذريعة التعاطي مع دولة تخضع للعقوبات الأمريكية. ويفسِّر تشكيك واشنطن في الوساطة الصينية لحل الأزمة الأوكرانية، حقيقة النوايا الأمريكية لقطع الطريق على الصين في تسوية المزيد من الأزمات الدولية.

ثالثًا: حدود قُدرة أطراف الاتفاق على تجاوُز سياسات مُعرقِليه

رغم توقُّع لجوء الأطراف الخاسرة إلى عدّة تدابير وسياسات سلبية؛ للتأثير على موقف الأطراف الموقعة على الاتفاق للحد من مكاسبه، غير أنَّ هناك العديد من الفرص أمام الطرفين، لتعظيم المكاسب من الاتفاق من ناحية، وتحييد السياسات السلبية للأطراف الخاسرة من ناحية ثانية، وذلك على النحو التالي:

1. قُدرة إيران على ضبط السلوك العنيف للميليشيات

تشكِّل سيطرة إيران على النسبة الأكبر من الميليشيات المسلحة في ساحات النفوذ: العراق وسوريا ولبنان واليمن، فرصةً لكبح جماحها، حيث تدين النسبة الأكبر من الميليشيات في الدول الأربع بالولاء لمرجعية قُم، وتؤمن قياداتها بـ«ولاية الفقيه»؛ وبالتالي زمام أنشطتها بيد إيران بنسبة كبيرة؛ ما من شأنه الحد من سطوتها، والتأثير على سلوكها العنيف، بما يسهم في تحسين العلاقات مع السعودية.

لكن يُتوقَّع قيام إيران باتّباع تكنيكيات جديدة لاستمرارية مخطَّطها التوسُّعي في ساحات النفوذ، بما يتماشى وطبيعة النظام الإيراني من ناحية، وطبيعة المرحلة الجديدة في العلاقات السعودية-الإيرانية من ناحية ثانية. فقد تلجأ إيران إلى إيلاء الأولوية للأبعاد الناعمة والبراجماتية على الأبعاد العسكرية، مثل إعادة تمكين الميليشيات من اقتصاد الدول المُشار إليها؛ للسيطرة والاستفادة من المرحلة الجديدة.

2. تفاقُم الانقسام الحاد في الداخل الإسرائيلي

يشهد المجتمع الإسرائيلي انقسامات حادّة وصراعات مصيرية، من حيث طبيعتها وأطرافها ومستوياتها وتداعياتها على الداخل الإسرائيلي، وعلى توجُّهاتها وسياساتها الخارجية، وُصِفت من كبار المفكِّرين والأدباء اليهود بالأسوأ والأخطر على مستقبل إسرائيل، منذ نشأتها قبل نحو خمسة وسبعون عامًا؛ لكونها كشفت بوضوح عن عُمق الهاوية الاجتماعية، ونقاط ضعفها الذاتية، التي تمزِّق الكيان الصهيوني منذ عقود.

بات سيناريو الفوضى حاضرًا بقوة في المشهد الإسرائيلي، على خلفية أزمة تعديلات النظام القضائي. اتّخذت الأزمة مسارات خطيرة، باعتماد المعارضة على تحريك الشارع، وتوالي الاحتجاجات المنادية باستقالة نتانياهو. وقد بلغت الانقسامات حدَّ إقالة وزير الدفاع، مع إطلاق كبار القيادات الأمنية والعسكرية والسياسية تحذيرات جادّة حول خطورة الأوضاع في الداخل الإسرائيلي.

يشكِّل الانشغال الإسرائيلي باستمرارية الانقسام الحاد، من خلال مُضي اليمين في السيطرة ليس فقط على القضاء، بل على كافة مؤسسات الدولة، فرصةً أمام الطرفين السعودي والإيراني لتعزيز العلاقات، والحد من التأثيرات الإسرائيلية على مستقبل الاتفاق.

3. الانشغال الأمريكي بمعركة القيادة الدولية

يُعَدُّ الانشغال الأمريكي بديمومة النظام الأُحادي القطبية حاكمًا للنظام الدولي، فرصةً مهمةً للطرفين لتعظيم المكاسب، والحد من تبِعات التدابير السلبية للأطراف غير الراضية على الاتفاق. كما أنَّ الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا تأخذ حيِّزًا كبيرًا في اهتمام الولايات المتحدة والمعسكر الغربي. كما تنشغل واشنطن، بالمعركة الكبرى مع الصين على تراتُبية القوة في سلم القيادة الدولية في القرن الـ 21؛ لذلك حوَّلت بوصلة اتّجاهها إلى منطقة الإندو-باسفيك، لمواجهة تنامي القوة الصينية في هذه الدائرة، التي باتت أبرز الدوائر الحاسمة للمعركة الكبرى على القيادة الدولية. يُضاف لذلك هواجس واشنطن من تنامي الخطر الكوري الشمالي النووي في شرق آسيا، واستعراض قوتها الصاروخية، واستمراريتها في إطلاق الصواريخ البالستية بالمناطق القريبة أو الخاضعة لسيادة حلفائها الآسيويين، ردًا على تنامي التعاون العسكري الأمريكي-الكوري الجنوبي والياباني.

4. السلام المُربِح بدلًا من الأزمات المنهكة

يبدو أنَّ الصراع بين السعودية وإيران وصل إلى مرحلة النضج، وقناعة الطرفين بأنَّ المواصلة في هذا الطريق لا يخدم أيّ مصلحة؛ لذا فضَّل الطرفان وبمساعدة دولة صديقة لكليهما ومستفيدة من ذلك، الجلوس على مائدة المفاوضات. السلام المربح أصبح خيارًا مفضَّلًا لتحقيق المصالح وتعظيم المكاسب، وإنهاء حالات الابتزاز السياسي الإقليمي والدولي، والمساهمة في تحقيق الاستقرار الإقليمي، بدلًا من استمرارية الصراع، أو الانزلاق للحرب؛ لاعتبارات تتعلَّق بتكلفة الحرب، وبتداعياتها الأمنية، وتبِعاتها الاقتصادية. ووصول الطرفين لهذه المرحلة يحِد من أزمة الثقة المتبادلة بينهما، وتعكس جهودهما المتواصلة منذ توقيع الاتفاق، الرغبة المشتركة على أعلى المستويات لإنجاح الاتفاق.

5. الوزن الإستراتيجي للمملكة لدى واشنطن

على الرغم من أنَّ الرياض عازمة بشدّة على سياسة تنويع الشركاء والبدائل على الصعيدين الإقليمي والدولي، إضافةً للشريك الأمريكي التاريخي؛ لتحقيق مصالحها الإستراتيجية، غير أنَّ ذلك لا يعني أبدًا تراجُع ثِقلها ووزنها في الإستراتيجية الأمريكية، لما تمتلكه من أدوات ومقدرات وسِلَع إستراتيجية تجعلها مؤثِّرة في مجريات الشؤون الإقليمية بل والدولية، بل تحظى المملكة بوزن وثِقَل إستراتيجيين لدى الولايات المتحدة؛ ما يُعَدُّ فرصةً للمملكة للمُضي في تعظيم مصالحها، حسب سياساتها وتوجُّهاتها. وليس أدلَّ على ذلك من توقيع الجانبين الأمريكي والسعودي بعد توقيع الاتفاق مع إيران بأربعة أيام فقط، تحديدًا في الرابع عشر من مارس 2023م، صفقة طائرات من نوع «بوينج» للأغراض التجارية، بمبلغ ضخم للغاية يُقدَّر بـ37 مليار دولار ([8])، وقد أعلن عن هذه الصفقة متحدِّث البيت الأبيض وليس الشركة الصانعة، رُبما في رسالة للجانب الصيني بأنَّ المملكة لا تزال تدور في الفلك الأمريكي.

6. القوة العالمية للصين كوسيط

توافُر وسيط دولي كبير بحجم الصين، في أول اختبار دولي لها في مجال طرح مبادرات الوساطة الدولية، يُعَدُّ الفرصة الرئيسية للطرفين لإنجاح الاتفاق؛ فالصين شريك دولي موثوق يعلي من مبادئ عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادتها، ويمتلك قدرات اقتصادية عالمية صنَّفها صندوق النقد الدولي للعام 2022م، بالاقتصاد الأول عالميًا -حسب معامل القوة الشرائية- اعتمادًا على أنَّ نسبة الصين في إجمالي الناتج المحلِّي العالمي تقدَّر بنحو 18.6%، بينما تُقدَّر نسبة الولايات المتحدة بـ 15.7%، والاقتصاد الهندي يُقدَّر بنحو 7.0%، واقتصاديات دول الآسيان مجتمعة تُقدَّر بنحو 5.5% ([9]).

كما تُعَدُّ الصين الثاني عالميًا بعد الولايات المتحدة عسكريًا، وتسعى جاهدةً لتقليص فارق حجم القوة العسكرية مع الولايات المتحدة سنويًا. وسياسيًا، تُعَدُّ الصين أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، كما أنَّ نفوذها الاقتصادي والسياسي يتنامى عالميًا بشكل كبير في تنافسها الدولي المحتدم مع الولايات المتحدة؛ لذلك فإنَّ إنجاح الوساطة بين طرفين كبيرين بوزن السعودية وإيران في منطقة جيوإستراتيجية حساسة، وفي قضية ألقت بظلالها على منطقة الشرق الأوسط والعالم لعدّة سنوات، يُعتبَر أول اختبار حقيقي لقوة الصين وأدوات تأثيرها في المنطقة، وسوف تسعى لإنجاحه ودعمه بكل الوسائل.

كذلك، تمتلك الصين أوراق ضغط ضد إيران، أولها حاجة إيران لـ«الفيتو الصيني» ضد مشاريع القرارات الأمريكية لاستمرارية عزل وحصار إيران، كما أنَّ الصين أهمّ شريك تجاري لإيران، ومشترٍ رئيسي للنفط الإيراني حتى أثناء العقوبات، وموازن دولي كبير في مواجهة الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم.

رابعًا: الخاتمة والنتائج

على ضوء المعطيات السابقة، تكشف الدراسة عن أنَّ الخاسرين لا يُعَدُّون فقط من المؤثِّرين في القرارات والأفعال الدولية، بل من الصانعين لها. والحديث هُنا عن الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين والآسيويين وإسرائيل، بحُكم مقدراتها وأدوات تأثيرها، التي تستطيع من خلالها التأثير على مستقبل الاتفاق. وعلى الرغم من توافُر عدّة فرص للرابحين لتحييد سياسات مُعرقِليه، غير أنَّه يصعب تصوُّر اتّباع الخاسرين موقفًا محايدًا من النتائج المُحتمَلة للاتفاق على مصالحها، خصوصًا في ظل مساعي أقطاب دولية لمنافستها بقوة على الساحتين الإقليمية والدولية.

وقد بدأت السياسات المُعرقِلة في الساحة السورية، على خلفية تعارُض الاتفاق مع مصالح بعض الميليشيات المتضرِّرة في سوريا والعراق واليمن؛ لتقليص مكاسب الأطراف الرابحة، لاسيّما في ظل ظهور بوادر جادّة على أعلى المستويات لإنجاح الاتفاق؛ ما يفرض على الأطراف الرابحة ضرورةَ التواصل الفعّال تجاه مسائل تحييد سياسات وتدابير المخرِّبين، لتفويت الفرصة عليهم من ناحية، وتعاظُم المكاسب المُحتمَلة من ناحية ثانية، من خلال ما يلي:

  1. الصين: أول الرابحين، لاعتبارات تتعلَّق بحصولها على نقاط إضافية تُحسَب لصالحها، في صراعها مع الولايات المتحدة على القيادة الدولية، وبحصولها على فرصة دولية تعزِّز من فرصها كوسيط دولي، بما يعظِّم دورها في طرح المزيد من مبادرات الوساطة لحل الأزمات الدولية، وتأكيدها للعالم أنَّها تمتلك أدوات تجعلها قادرةً على وضع الحلول للأزمات الدولية، وتقدِّم للعالم نموذجًا مغايرًا عن النموذج الأمريكي-الغربي في حل الصراعات، من خلال الحوار ودعاوى الديمقراطية، ويضيف مزيدًا من النفوذ ويحقِّق مزيدًا من المصالح الصينية في الشرق الأوسط؛ كون الرياض وطهران من أهمّ الشركاء الإستراتيجيين والتجاريين للصين، ويمتلكان السلع الإستراتيجية الضرورية (النفط والغاز) لدوران عجلة الإنتاج الصينية الضخمة، وتعزيز فرص تمكين الصين من تنفيذ طريق الحرير الدولي العابر للحدود في الشرق الأوسط، بحُكم وقوع الدولتين ضمن نطاقه الجغرافي. كما أنَّ تسوية الصراع بين قوتين كبيرتين بالشرق الأوسط بوزن السعودية وإيران، من شأنه ضمان سلامة مرور ناقلات النفط وسفن نقل التجارة، والتي غالبيتها صينية؛ ما من شأنه تعزيز التجارة الخارجية الصينية، وبالتالي يُتوقَّع أن تكون الصين أكثر الأطراف حرصًا على إنجاح الاتفاق، مع تقديم نفسها كبديل دولي للدول الطامحة في تحقيق الاستقلالية في سياستها الخارجية، بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية.
  2. السعودية: ثاني أكبر رابح، لاعتبارات تتعلَّق بخروجها من دائرة الصراعات المُنهِكة في الشرق الأوسط، وبإمكانية تعظيم مصالحها من بوابة علاقاتها الإستراتيجية بموازن دولي كبير بحجم الصين؛ وبالتالي تعاظُم فرص تحقيق مصالحها الدولية. كما أنَّ إنهاء الصراع مع إيران من شأنه تقليص حجم التكلفة السياسية والأمنية (تخفيف العبء) على المملكة، خصوصًا التهديدات والمخاطر الأمنية القادمة من الساحة اليمنية، مع تقليص فرص استمرارية الصراع المذهبي السُنِّي-الشيعي، وكذلك تقليل فرص حالة الابتزاز الإسرائيلي والأمريكي للمملكة، والأهم خروج المملكة من حسابات الطرفين الإسرائيلي والإيراني، فيما يخُص اندلاع أيّ حرب مُحتَملة بينهما، وتركت المملكة الطرفين لأول مرة وجهًا لوجه يقرِّران ما يريدان، وبذلك أفقدت إيران أهمية مبدأ الحرب الشاملة، التي تقصد بها إيران ضرب المصالح الأمريكية في الدول الخليجية عامة والسعودية خاصة وُحلفاء الولايات المتحدة الخليجيين، حال شنَّت تل أبيب أو واشنطن حربًا استباقيةً ضدّها، زِد على ذلك تعزيز فرص المملكة في ممارسة دور أكبر في القرارات الإستراتيجية، والترتيبات الأمنية الكبيرة بالشرق الأوسط، مع تعاظُم فرص دورها كوسيط إقليمي يمكنه تسوية العديد من الأزمات الإقليمية، مع إمكانية تحقيق رسالتها الإقليمية بضرورة الحفاظ على الدول الوطنية. وبهذا الاتفاق، تُعلي المملكة من فرص الدولة الوطنية والفاعلين من الدول على حساب الفاعلين من غير الدول، إضافةً إلى أنَّ التهدئة تضمن بيئةً إيجابية لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية التنموية 2030م.
  3. دول ساحات النفوذ: الدول مثل اليمن وسوريا ولبنان والعراق، يُحتمَل أن تحقِّق عدّة مكاسب، أولها تعزيز فرص الدولة الوطنية على حساب الفاعلين من غير الدول ذوي المصالح المذهبية الضيِّقة في الداخل والخارج، ويعيدها لدورها المعهود في احتكار السلاح، والإمساك بزمام الأمور، وإصدار القرارات الإستراتيجية، بعيدًا عن هيمنة الفاعلين من غير الدول لتحقيق مصالح الدولة ومواطنيها جميعًا لا لصالح طائفة أو أقلِّية بعينها. وهناك مكسبٌ ثانٍ يتعلَّق بتراجع فرص الصراعات المذهبية (السُنِّي-الشيعي)، وإنهاء حالات الاستقطاب السياسي الحاد (سواءً داخل القوى السياسية الشيعية وبعضها البعض أو بين القوى الشيعية والسُنِّية)، ما من شأنه تعزيز فرص عودة الأمن والاستقرار في هذه الدول، بما يسهم في معالجة العديد من الأزمات العالقة، التي يتغذَّى عليها الفاعلون من غير الدول، ويعزِّز من فرصة تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين؛ تمهيدًا لانتقال هذه الدول إلى دول مستقرَّة. أمّا المكسب الثالث، فيتمحور حول تعزيز فرص مبدأ التوازن في العلاقات الخارجية والشراكة والمصالح المتبادلة واحترام سيادة الدول واستقلاليتها، كما أنَّ الاتفاق يبعث برسالة للأطراف القريبة من إيران، بأنَّه بات عليها أن تدرك أن مصالح الدول تتقدَّم على الولاءات المذهبية، وأنَّ الدولة الراعية قد تُجبَر على تغيير نهجها المذهبي إلى نهجٍ أكثر برجماتية.
  4. إيران: يحقِّق الاتفاق لإيران عدّة مكاسب إستراتيجية، تتمثِّل في فتح الباب واسعًا لإنهاء حالة العُزلة الإقليمية، وإنهاء الحشد الإقليمي والدولي للمملكة ضدها لتعديل سلوك نظامها، وإسقاط الرهان الإسرائيلي على دور المملكة كرأس حربة في مواجهة إيران ونفوذها الإقليمي، بينما يفقدها مبدأ الحرب الشاملة وبعضًا من مكتسباتها العسكرية والاقتصادية في ساحات النفوذ، ويُجبرها على تغيير أدواتها الصلبة.

يشكِّل الاتفاق أول اختبار حقيقي لإيران، على مدى إمساكها بزمام الأمور وسيطرتها على الميليشيات المسلَّحة الموالية لها في ساحات النفوذ، لاسيّما مدى سيطرتها على الحوثيين؛ لكون إحراز أيّ تقدُّم في الملف اليمني يعني بداية مرحلة جديدة بقدرٍ أكبر من الثقة بين الطرفين لإحراز تقدُّم في بقية الملفات الإقليمية، واختبار جديد للمملكة على سياسة تنويع الشركاء والبدائل في علاقاتها الخارجية، وأول اختبار حقيقي لصعود الصين وأدوات تأثيرها ومنافستها الدولية للولايات المتحدة على التأثير في الشرق الأوسط.

وفي الختام، ينبغي عدم تجاهُل مسألة مركزية الأيديولوجيا الحاكمة بالنظام الإيراني، في مرحلة ما بعد عودة العلاقات الدبلوماسية، حيث تُجيد إيران سياسة النَفَس الطويل؛ وبالتالي إمكانية لجوئها إلى تغيير أدوات مدّ نطاق نفوذها الإقليمي بواسطة أدوات وسياسات جديدة تتماشى وظروف المرحلة، حيث يمكنها استبدال التركيز على الأدوات العسكرية بأدوات براجماتية تخفي من خلالها بصماتها في التمدُّد؛ ما يجب التنبُّه له لمجابهته بأدوات جديدة وأنماط مغايرة في مسارات العلاقات البينية، لتحييد السياسات الإيرانية المُحتمَلة للإخلال بتعهُّداتها. فالطريق طويل ومعبَّد بالتحدِّيات، عند تفكيك الملفات الشائكة لتسويتها، ولا يزال الخاسرون قادرون على عرقلة الاتفاق، لكن تظل قيمة الاستقرار والسلام والتهدئة تستحقّ الاستثمار؛ لتعزيز فرص السلام المُربِح، وإنهاء الأزمات المُنهِكة.


[1]– البوابة الإخبارية اليمنية، صنعاء تستبق لقاء بن فرحان وعبد اللهيان برسالة جديدة، (27 مارس 2023م)، تاريخ الاطلاع: 27 مارس 2023م، https://bit.ly/42Q3KZD

[2]Jacob Lees Weiss, Iran’s Resistance Axis Rattled by Divisions: Asaib Ahl al-Haq’s Leader Rejects the Ceasefire in Iraq, (Feb 12, 2021), Accessed: Mar 15, 2023, https://bit.ly/3Blko4t.

[3]– בכיר ישראלי על הסכם איראן-סעודיה: “נבע מחולשת ממשלת ביידן והממשלה הקודמת”، (10 مارس 2023م)، تاريخ الاطلاع: 17 مارس 2023م، https://bit.ly/40pOaT1

[4] USIP, U.S. on Iran-Saudi Rapprochement & China, (March 15, 2023), Accessed: Mar 15, 2023, https://bit.ly/3ZxglOq

[5] – الجريدة، إيران تعتقل خلية خططت لعرقلة التقارب مع السعودية، (30 مارس 2030م)، تاريخ الاطلاع: 30 مارس 2023م، https://bit.ly/3G2PZgv

[6]أ. د. خالد عليوي العرداوي، هل اقتربت الحرب مع إسرائيل بعد الاتفاق السعودي – الإيراني؟، (15 مارس 2023م)، تاريخ الاطلاع: 22 مارس 2023م، https://bit.ly/40Nrtrv

*  مثل اندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وفيتنام والفلبين وبروناي وتايلاند الأعضاء في منظمة «الآسيان»، وكوريا الجنوبية واليابان والهند ثم أستراليا.

[7]Michael R. Gordon, U.S. to Send Aging Attack Planes to Mideast and Shift Newer Jets to Asia, Europe, wsj, ( March 23, 2023), Accessed: Mar 15, 2023, https://on.wsj.com/42Sl6Vx

[8] – دويتشه فيله، بقيمة تصل لـ37 مليارا.. صفقة طائرات ضخمة بين السعودية وشركة بوينغ، (14 مارس 2023م)، تاريخ الاطلاع: 25 مارس 2023م، https://bit.ly/40MjjQd 

[9] – International Monetary Fund,  World Economic Outlook, Countering the Cost-of-Living Crisis, Full Report, October 2022, p 103. 

د. عبدالرؤوف مصطفى الغنيمي
د. عبدالرؤوف مصطفى الغنيمي
باحث سياسي بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية