التيار الصدري و«أصحاب القضية».. أسباب الخلاف ودلالاته

https://rasanah-iiis.org/?p=31015

في قرار مفاجئ وسريع، أعلن زعيم التيّار الصدري حُجة الإسلام مقتدى الصدر، تجميد نشاط التيار الصدري لعام كامل، وأعلن بتاريخ 14 أبريل 2023م إغلاق حسابه في «تويتر» حتى إشعار آخر. جاءت تلك القرارات المفاجأة والسريعة كردّ فعل على «أصحاب القضية»، الذين تجمهروا في المسجد، الذي كان يعتكف به الصدر، وأرادوا مبايعته على أنَّه الإمام المهدي، فأمر الصدر بتجميد «التيّار»، وإلغاء الاعتكاف في مسجد الكوفة، واعتقلت القوات الأمنية على أثر ذلك أكثر من ستين شخصًا ينتمون إلى «أصحاب القضية»، وقرَّرت محكمة تحقيق الكرخ توقيف 65 متهمًا من «أصحاب القضية»، التي تروِّج لأفكار تسبِّب إثارة الفتن والإخلال بالأمن المجتمعي.  

أولًا: من هُم «أصحاب القضية»؟

هم مجموعة من المُغالين ينتمون إلى التيّار الصدري، يعتقدون أنَّ مقتدى الصدر هو الإمام المهدي، وبعضهم يعتقد أنَّ الإمام المهدي «جندي من جنوده»، وآخرون يعتبرونه أفضل من الأئمة المعصومين. لكن الرأي السائد لديهم، أنَّ مقتدى الصدر هو الإمام المهدي. وليست تلك الحركة حديثة النشأة، بل نشأت بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003م، وقيادة الصدر لحركة مقاومة واسعة ضد القوات الأمريكية وقتئذ.  

و«أصحاب القضية» هم امتداد لتشظِّيات لجماعات مهدوية، تأسست أو ظهرت إلى العلن بعد الغزو الأمريكي للعراق، فهم امتداد لجماعات مثل: «جند السماء»، و«جماعة اليماني»، و«السلوكيين»، الذين اعتقد بعضهم أنَّ الصدر الثاني هو الإمام المهدي المنتظر، وقد اضطرَّ «جيش المهدي» (التابع لمقتدى الصدر حينئذ) إلى مواجهة مسلَّحة مع «السلوكيين»، واستحضر الصدريون خطاب آية الله محمد الصدر ضدّهم، عندما قال عن «السلوكيين»: «أُخاطِب المجتمع المؤمن ذوي العقول الصافية والنفوس البريئة، أن يقاطعوا هؤلاء ويتبرّأوا منهم، ويبتعدوا عنهم بُعد السليم من الأجرب» (رشيد الخيون، الإسلام السياسي بالعراق، 1/ 593). وهو نفس ما ردَّده ابنه مقتدى من تحذير ضدّهم، عندما تضخَّم «السلوكيون» في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ثمّ اعتقد فريق آخر، يبدو أنَّهم «أصحاب القضية»، بمهدوية مقتدى الصدر ابن آية الله محمد الصدر، فانتقدهم مقتدى مبكِّرًا، قائلًا: «إنَّ من يشيِّع مثل هذا الأمر (يقصد مهدويته) فهو كاذب، وفاسق وملعون إلى يوم الدين، ويحقّ لي تقديمه إلى القضاء الحوزوي». ثمّ ما لبِث بعد سنوات أن أعاد الهجوم عليهم، قائلًا: «مثل هؤلاء أعدائي، وأنا لست الإمام المهدي، إنّما أنا إن شاء الله أكون مستحِقًّا لأن أكون ممهِّدًا للإمام المهدي»، وعندما سُئل لماذا لم يُكفِّرهم، قال: «بل هُم كفار».   

ثانيًا: رد فعل الصدر.. الأبعاد والدلالات

على الرغم من وجود هذه الجماعة، ومثيلاتها منذ زمن، إلّا أنَّ رد فعل الصدر كان مفاجئًا هذه المرة، فقد أعلن عن تجميد عمل التيّار الصدري لمدّة سنة، وإنهاء الاعتكاف، لكنّه أكّد أنَّ «التجميد يستثني فعاليات إقامة صلاة الجمعة الموحَّدة وهيئة التراث الخاصة بالتيّار». وقال الصدر: «أن أكون مصلحًا للعراق، ولا أستطيع أن أصلح التيّار الصدري فهذه خطيئة، أن أستمِرّ في قيادة التيّار الصدري وفيه أهل القضية وبعض من الفاسدين وفيه بعض الموبقات، فهذا أمرٌ جلل».

ويرجع رد الفعل السريع والمفاجئ إلى عدّة أسباب، يمكن حصرها فيما هو ديني، وسياسي:

  1. العامل الديني: فيبدو أنَّ الصدر استشعر وجود أيادٍ خفية تستثمر في تلك الحركات المتطرِّفة المُغالية الموجودة في أحشاء التيّار الصدري، أو التي تلتصق به، ومن ثمَّ تريد إحراجه أمام أتباعه، وأمام الحوزة، والجمهور العراقي؛ وبالتالي الخصم من رصيده الديني والسياسي، وزعزعة شرعيته داخل الجماعة الشيعية. ويدرك الصدر أنَّ تضخم مثل هذه المجموعات المُغالية في مفاصل تيّاره يؤدِّي إلى أزمات عميقة داخله، رُبما تخرج عن إمكانية لَمَّها ولملمتها؛ فتضخُّم المجموعات المغالية يحرِف التيّار الصدري عن مساره، ويعرِّضه للخلافات الداخلية المذهبية، وربما يعرِّضه للتفتُّت والانهيار والتشظِّي، على غرار الجماعات الأخرى، إذا ما دبَّت مثل تلك الخلافات في مفاصله، لاسيّما والتيار يعتمد في شرعيته على إرث الشهيدين الصدر الأول والثاني؛ وبالتالي فإنَّ أيّ انحراف عن مسارهما يؤثِّر على شرعية التيّار وسمعته. إضافةً إلى أنَّ سماح التيّار بمثل هكذا حركات داخله يُعرِّضه أيضًا لأزمات خارجية من قِبَل مراجع التقليد الشيعة، الذين يَعدُّون مثل هذه الحركات مُغالية ومتطرِّفة، ولا تحظى بأيّ قبول داخل النجف أو قُم، فمحاربة الصدر لها جزء من شرعيّة مركزيته داخل الجماعة الشيعية والحوزوية، وجزء من ترتيبات موقعه الفاعل في المستقبل القريب، خصوصًا إذا كان يهدف، كما هو الواقع، إلى التصدُّر المرجعي وخلافة والده. وهذه ليست أول مرّة يحاول الصدر كبح «أصحاب القضية» داخل التيّار الصدري، فهو منذ عام 2007م، وهو يشتبك معهم ويحذِّر منهم، كما سبق، إلّا أنَّه كثَّف جهوده ضدّهم في الآونة الأخيرة، وقد نشر في السابع عشر من أكتوبر 2021م بيانًا، جاء فيه: «أنا مقتدى ابن السيد محمد بن السيد محمد بن صادق الصدر، عراقي مسلم اثنا عشري، لست معصومًا، بل طالب علم في الحوزة العلمية الشريفة، وكلّ من يدعي خلاف ذلك فهو كاذب، وأبرأ منه أمام الله ورسوله». وعاقب الصدر مرارًا أشخاصًا داخل تيّاره؛ بسبب انتمائهم إلى «أصحاب القضية»، بما يدُلّ على أنَّ محاربة الصدر لتلك المجموعات هي إستراتيجية، وليست براجماتية أو تكتيكية، إذ يرى أنَّهم يهدِّدون مستقبل مشروعه ومشروع والده، ومكانته وموقع عائلته داخل النجف والمراكز الشيعية، ويرى في نفس الوقت أنَّ ثمّة من يستفيد من تلك المجموعات من خصومه، حين يُظهِرون الصدر كأنّه شارد عن الخط الشيعي، وعن ميراث الاثني عشرية.  
  2. العامل السياسي: ثمّة عامل سياسي لا يقِلَ أهمِّية عن الجانب الديني؛ فأيّ بروز لمثل تلك المجموعات المُغالية يخصم مباشرةً من الرصيد السياسي للتيّار الصدري في الشارع الشيعي خصوصًا، والعراقي عمومًا. الصدر وإن كانت له الجماهيرية الأوسع، إلّا أنَّ تلك الجماهير لا تؤمن بمهدويته، بل تؤمن بزعامته السياسية، والصدر يدرك ذلك جيِّدًا؛ لذا سارع إلى التبرُّؤ من هذه المجموعات، بل اتّهمها في دينها ونواياها. الأمر الآخر أنَّ الصدر يُصدِّر نفسه في المشهد السياسي الشيعي، على أنه احتوائيٌّ توليفي، يؤمن بالتعدُّدية، ويحاور الجميع، ويقفز على المذهبية والطائفية؛ وبالتالي، فإنَّ أيّ سكوت على مثل تلك المجموعات يؤثِّر بلا شكّ على هذا النمط من الخطاب، والمكانة، إضافة إلى أنَّ الصدر يؤمن بالإرث الشيعي الاثني عشري، ويُعِدّ نفسه امتدادًا لمشروع والده آية الله السيد محمد الصدر، ومن ثمَّ فرفضه لهذه المجموعات المغالية هو رفض مبدئي إستراتيجي، بل إنَّ تجميد الصدر للتيّار الصدريّ لمدّة سنة، من شأنه أن يحول دون مشاركة التيّار في العملية السياسية القادمة، بما فيها الانتخابات المحلِّية، في حال استمرار ذلك القرار.

وعلى كلٍّ، فقد أدّت هذه العوامل إلى مسارعة الصدر للتخلُّص من هذه المجموعات المُغالية والتبرُّؤ منها، وتأليب القضاء الرسمي عليها، وليس فقط محاكمتها حوزويًا، كما هدَّد من قبل.

ثالثًا: مستقبل «أصحاب القضية»

لا يمكن القول إنَّ قرار الصدر السريع والمفاجئ سيقضي على تلك المجموعات المُغالية، لكنّه على الأقل سيكبحهم داخل التيّار الصدري إلى حدٍّ كبير. وفي نفس الوقت، فإنَّ تلك المجموعات على اختلاف مسمَّياتها، ستبقى على هامش المشهد الديني الشيعي العراقي والإيراني؛ نظرًا لوجود حوزات ومرجعيات تضبط عمل الجماعة الشيعية، وتحول دون تضخم تلك المجموعات، التي نُرجِّح أنَّها ستبقى على هامش الحياة الدينية وهامش المذهب الشيعي، لاسيّما مع مواجهتها للجميع وتشكيكها في المرجعية، وتحريفها لمعالم المذهب وضرورياته.

وممّا يرجِّح بقاء تلك الجماعات على الهامش، أنَّ خلافها ليس فقط مع التيّار الصدري، بل مع كافة المراجع المعتبرين في العراق وإيران، وقد انتقدهم «الإصلاحيون» و«التقليديون» على حدٍّ سواء. وللمرجعية العليا بيان نقدي للجماعة السلوكية من قبل، فمشكلة تلك المجموعات إذن، أنَّها تغرِّد خارج المألوف الشيعي، وعادت جميع الفاعلين الحوزويين. على المستوى السياسي أيضًا، فإنّ الدولة تتدخَّل عبر المؤسسات الأمنية والقضائية كل فترة، لكبح مثل هذه المجموعات؛ حتى لا تتضخم في الشارع العراقي، لأنَّها إذا كانت خطرًا على الحوزة والخطاب التقليدي الشيعي، فهي خطر كذلك على الأمن القومي للدولة، ويهدِّد استقرارها ونسيجها المجتمعي.  

خاتمة تبرَّأ الصدر من «أصحاب القضية»، وجمَّد التيّار لمدّة عام، واتّخذ إجراءات سريعة ومفاجئة ضدّهم، موازاةً مع إجراءات قانونية من القضاء العراقي ضد العشرات منهم. وقد ظنَّ «أصحاب القضية» أنَّ بإمكانهم التوغُّل والتأثير داخل التيّار الصدري، عبر الزعم بمهدوية مقتدى الصدر، والتأثير على العوام داخل التيّار باعتباره التيّار الشيعي الأكبر في البلاد، لكن مقتدى الذي يحمل مشروع والده الديني والسياسي، تبرَّأ منهم، كما تبرَّأ منهم والده آية الله محمد الصدر من قبل، وأغلق الباب أمام أيّةِ محاولات لتشويه سمعة التيّار، أو تصديرهم على أنَّهم جزء منه. وتأتي إجراءات الصدر السريعة والمفاجأة، بما يدل على امتعاضه من استمرارية تلك المجموعات المغالية في الالتصاق ببيت الصدر والتيّار الصدري، وخشيته من تأثيرهم في جماهيرية التيّار، أو استغلالهم من بعض خصومه، أو ضرب علاقته بالمرجعية العليا، أو حلفائه السياسيين. وفي نفس الوقت، أظهر حرصه على التمسُّك بإرث التقليد الشيعي، وخط الحوزة. من ناحية أخرى؛ فإنَّ حدّة الموقف، الذي اتّخذه زعيم التيّار الصدري، وخشيته من تصدُّعٍ ومغالاة في أفكار بعض منتسبي التيّار، قد تضعِف قُدرة الصدريين من الفعالية في الشأن السياسي والديني في العراق.  

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير