الحرب في أوكرانيا ومصير العولمة

https://rasanah-iiis.org/?p=31285

على الرغم من أنَّ العولمة كمفهوم تعني سيولة وحرِّية التبادل التجاري والثقافي بين الحضارات والدول، ستبقى موجودة كمصالح مشتركة ذات نفع، وكحاجة بشرية وإنسانية منذ فجر التاريخ بين مناطق العالم، إلّا أنَّ العولمة الليبرالية بالصيغة الغربية، التي فُرِضت على العالم تقريبًا منذ نهاية الحرب الباردة، هي ما تستلزم دراستها والبحث حولها. يمكن القول إنَّ تداعيات الحرب الأوكرانية كانت واضحةَ التأثير على بِنية العولمة، وعلى كثير من الارتباطات والشراكات بين الدول. ففي ظل العقوبات المفروضة على روسيا -المحاصرة من قِبَل أمريكا وحلفائها الغرب- وجدت موسكو نفسها شبهَ معزولة عن العولمة، وقرَّر الاتحاد الأوروبي تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة عن روسيا، وأظهرت بعض الدول الحيادية عن الانضمام للغرب وإدانة روسيا، وبدا وكأنَّ كثيرًا من الدول تعود إلى خيار الاكتفاء الذاتي، وتحتمي بقواعدها الوطنية أو الإقليمية؛ خوفًا من تفكُّك نظام العولمة القائم. فهل نُوصَف بمتسرِّعين، لو قُلنا إنَّ الحرب في أوكرانيا قد دشَّنت نهايةَ ظاهرة العولمة الليبرالية بوجهها الغربي؟

أولًا: النظام الليبرالي تتراجع جاذبيته بحثًا عن بديل

عادةً ما تحمل الحروب الكبرى مراجعات لأنظمة الحُكم والنُظُم الاقتصادية، وحتى للهويات والثقافات الوطنية. حرب أوكرانيا يمكن وصفها بأنَّها حرب بين نظامين ليبرالي رأسمالي تقوده أمريكا ومعها حلفاؤها الأوروبيون، ونظام روسي مزيج بين البيروقراطية الاشتراكية والديموقراطية الغربية. حتى وقت قريب، وبسبب ثروة أمريكا وقوة الدول الأوروبية المتقدِّمة، كان النظام اللليبرالي الغربي يحتلّ الصدارة إلى حدٍ كبير. ولأنَّها كانت القوة المهيمنة الوحيدة منذ سبعين عامًا، فرضت الولايات المتحدة المؤسسات الدولية، كمؤسسات بريتون وودز ومنظَّمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي وغيرها، وصمَّمت القواعد الاقتصادية العالمية. لم يكُن الاتحاد السوفيتي سابقًا قادرًا على مجاراتها، أو فرض نموذجه الاقتصادي الاشتراكي، على الرغم من ظهوره كقطب عسكري قوي. وعندما سقط الستار الحديدي في عام 1989م، وغاب الاتحاد السوفيتي كمنافس، دخل النظام الدولي في مرحلة هيمنة القطب الواحد، الذي عولَم العالم اقتصاديًا وإلى حدٍ كبير ثقافيًا، وسعى إلى فرض نموذجه الليبرالي. تأمَّل العالمُ أنَّه بنهاية الحرب الباردة، وغياب الصراع بين المعسكرين السوفيتي والغربي، قد ينعم بمرحلة يسودها القانون الدولي، ويكفل المكاسب الاقتصادية والحماية المتبادلة، وتقرير مصير الشعوب، وحل النزاعات بالوسائل السلمية، ونشر قِيَم السلام والتعايش، واعتقدنا أنَّ العنف سيتِم احتواؤه، وستتراجع الحروب بين الدول، ولن يعُد واردًا غزو دولة من قِبَل أخرى.

لكن، لم تمُر عشر سنوات بعد نهاية الحرب الباردة، حتى قامت الولايات المتحدة باحتلال أفغانستان، ثمّ غزو العراق، حتى دون تفويض من الأمم المتحدة؛ كي تؤكد هيمنتها الفعلية على العالم، ليس فقط اقتصاديًا وثقافيًا، وإنّما أيضًا عسكريًا. مع ذلك، فالولايات المتحدة لم تنجح في هذا المسعى، وأقرَّت بفشلها في بناء الدولة الحديثة وترسيخ أُسس الديمقراطية في كلٍّ من أفغانستان والعراق؛ ما كان مدعاةً للدخول في مرحلة استنزاف وإعياء إستراتيجي، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط. أمام هذا السلوك الأمريكي المتخبِّط، بدأت أوروبا في إطلاق مبادرات من أجل ما سمَّته بـ«الاستقلال الإستراتيجي»، ولاحظنا الصعود السريع للصين ونجاحها اقتصاديًا في تضييق الفجوة مع القوة العظمى الأمريكية المهيمنة، ولمست روسيا بأَّنها أمام فرصة ملء فراغ التراجع الأمريكي، فقامت بتوسيع نفوذها العسكري في جورجيا والقرم، وبتنفيذ حملة إستراتيجية في سوريا لإنقاذ حليفها النظام السوري، ثمّ فاجأت العالم بغزو أوكرانيا، كأكبر هجوم عسكري تقليدي منذ مطلع الألفية الثالثة.

كل الحقائق السابقة تحمل معها تحدِّيات كبيرة للنظام الليبرالي، الذي يحكم العلاقات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وينذر بعودة النزعات القومية مجدَّدًا. نذكِّر بأنَّ الغزو الروسي لأوكرانيا، كان أحد دوافعه الحفاظ على القومية الروسية واحتواء أوكرانيا من مغبّة الدوران في الفلك الغربي ثقافيًا واقتصاديًا وأمنيًا. وفيما تعمل الولايات المتحدة على إطالة لحظة انفرادها بصدارة النظام الدولي الأُحادي القطب، فإنَّ الصين وروسيا والتكتُّلات الدولية الأخرى، مثل منظَّمة شنغهاي للتعاون SCO)) ومجموعة بريكس ومجلس التعاون الخليجي، تسعى لإقامة نظام دولي يقوم على تعدُّد الأقطاب، بما يسمح بحرِّية المناورة، وتحقيق مكاسب وطنية للدول الأعضاء في هذه التكتُّلات. لقد تعزَّزت العلاقات بين روسيا والصين ودول عربية وأفريقية وآسيوية في السنوات الأخيرة، وزاد التقارب بينهما، بما يشير إلى أنَّ هناك تعاونًا إستراتيجيًا واسع النطاق قادم وبعيد المدى، يسير باتجاه انحسار الليبرالية الغربية وانكفائها عن أن تكون بوصلة وحيدة للعالم.

بالطبع، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ بمكانتها الرائدة في العالم، بفضل حقيقة أنَّ الكوكب قد أُعيدت صياغته في صورتها التفرُّدية، التي رسمتها بعد نهاية الحرب الباردة، والتي وفقها قد نجحت، إلى حدٍ كبير، في ترويض العالم وتحويله إلى مكان ملائم لتنفيذ مشروعات وأيديولوجيا أمريكية. فهي بلا منازع، تحتكر مركز التفاعلات الكونية، وعلى الرغم من الانتكاسات، التي اعترضت طريق الولايات المتحدة الأمريكية في عصر ما بعد الحرب الباردة، فإنَّه علينا الاعتراف بأنَّها لا تزال صاحبة أكبر اقتصاد على مستوى العالم (مع أنَّ بعض المعايير الأمريكية تشير إلى أنَّ الصين قريبة منها أو تجاوزتها بالفعل)، وذلك وفقًا لقيمة الناتج المحلِّي الإجمالي. وإلى جانب الهيمنة العسكرية المفرطة، تتمتَّع الأفكار السياسية والاقتصادية الأمريكية بجاذبية عالمية واسعة بفضل نظام العولمة، الذي صِيغت مضامينه في الأروقة الأمريكية.[1] مع ذلك، فإنَّ «الأمركة» متنكِّرة في زي العولمة؛ أي أنَّ التفكيك الظاهري للافتراضات والأيديولوجيات القومية أدّى في الواقع إلى امتداد السطوة الأمريكية بقوة؛ ما جعل العالم يفقد ثقته في أن تكون العولمة الليبرالية النموذج الوحيد المرضي لتحقيق تطلُّعاته، وأن يعظِّم من مكاسبه ومنافعه المختلفة. 

في الحقيقة، أنَّ الديمقراطيات الليبرالية اليوم بدأت تفقد بعضًا من نفوذها وجاذبيتها، حيث أصبحت دولًا غير ديمقراطية ناجحة اقتصاديًا بشكل متزايد. فمثلًا الصين، التي لها نظامٌ سياسي لا يمكن أن نطلق عليه أنَّه ديمقراطي، وفقًا للوصفة الغربية، مع ذلك نجحت في النفوذ عالميًا؛ دبلوماسيًا واقتصاديًا، ودخلت على خط المنافسة مع واشنطن؛ ماجعل الأخيرة غير قادرة اليوم على ممارسة إرادتها بحرِّية. تعمل بكين بذكاء مع النظام الدولي القائم، فهي لا تريد تفكيكه كموسكو، بل إلى اختراقه، والتأثير عليه من الداخل؛ كي يعمل لمصلحتها. فمثلًا، نراها تدعم المؤسسات والاتفاقيات الدولية المتوافقة مع أهدافها، مثل البنك الدولي واتفاقيات باريس للمناخ، لكن عندما تختلف مصالح بكين عن الأعراف الدولية الراسخة، خاصةً حقوق الإنسان أو حوكمة الإنترنت، فإنَّها تهدُف إلى إفساد تلك القيم والدفع بالمعايير، التي تتماشى مع مصالحها. من الجدير بالذكر أنَّ المسؤولين الصينيين يقودون أربعًا من وكالات الأمم المتحدة المتخصِّصة، البالغ عددها 15 وكالة[2]. بمعنى أنَّها معولمة عندما يتعلَّق الأمر بتجارتها الخارجية، ولها خصوصياتها وهويتها الذاتية واكتفاءها الداخلي، عندما يتعلَّق الأمر بشؤونها الداخلية.

يمكن ملاحظة أنَّ الصين اليوم باتت تشكِّل جناحًا اقتصاديًا للنظام التعدُّدي الأقطاب، بينما تُعتبَر روسيا جناحه العسكري. بالتالي، انصبَّت الإستراتيجية الأمريكية الجديدة على احتواء الصين، من خلال اعتبار آسيا مركز الثقل الأمريكي الجديد؛ لوقف التمدُّد الصيني، فارضةً ضدها عقوبات تجارية وإجراءات حمائية، معزِّزةً سياساتها الدفاعية لحماية تايوان ضد أيّ محاولات صينية لضمّها بالقوة العسكرية. تبرز الصين كإحدى الدول غير الغربية، التي شرعت في تقديم نموذجها؛ «عولمة بديلة»، تعمل من خلاله على تحدِّي السيطرة العالمية للتأثير الغربي والحد من سطوته.

تنهض الصين بشكل سريع على المسرح العالمي، مقدِّمةً للعالم أو لمناطق واسعة منه، عددًا من السياسات والممارسات البديلة عمّا هو سائد في المنظومة الغربية، لاسيّما في مجال تقديم النماذج التنموية، دون التدخُّل في سياسات الدول وشؤونها الداخلية. تسعى الصين لتوظيف تاريخها الطويل وثقافتها، لتأسيس قِيَم بديلة عن ممارسات وسياسات الليبرالية الغربية. يتصاعد اليوم قبول النموذج الصيني كبديل للنموذج الغربي، خاصةً في أفريقيا وبعض دول آسيا، بما يعكس قوة نفوذ وتأثير الصين في سحب البساط عن النموذج الغربي. وقد ساهم استخدام الصين المرِن لأدوات السياسة الخارجية المتعدِّدة؛ من السياسة إلى الاقتصاد والثقافة، في ترسيخ البصمة الصينية أمام النفوذ الغربي المتراجع. تشارك، اعتبارًا من عام 2017م، في مبادرة الحزام والطريق أكثر من 68 دولة، إذ تضُم 65% من سُكّان الكرة الأرضية، يمثِّلون حوالي 40% من الناتج الوطني الإجمالي العالمي. وقد بلغ عدد الدول، التي وقَّعت مذكرات تفاهم «الحزام والطريق» 138 دولة حتى مارس 2020م[3]، إذ تفضِّل العديد من الدول حول العالم مشاركتها للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، كمنافس للبنك وصندوق النقد الدوليين.

أما ما يتعلَّق بروسيا ذات المرتبة الثانية عالميًا في القوة العسكرية، فلا يمكن للإدارة الأمريكية، وهي تريد التفرُّد بالقوة العسكرية الأولى عالميًا، أن تدع الكرملين يواصل مساره التصاعدي في تطوير وتوظيف قوته العسكرية؛ لتحقيق حلم العودة من جديد كقطب دولي منافس. لهذا؛ شكَّل الغزو الروسي لأوكرانيا فرصةً إستراتيجية ثمينة لواشنطن لتحجيم قوة موسكو العسكرية وإضعافها، أو هزيمتها، بتكلفة قليلة، دون أن تدخل كطرفٍ مباشر في الحرب الدائرة. فبينما تدرك أمريكا أنَّ الصين قوة صاعدة مهدِّدة للعولمة الأمريكية، على المدى المتوسِّط والطويل، فإنَّها متيقِّنة بأنَّ روسيا مهدِّد عسكري عاجل، يجب التعامل معه بكل الأدوات الاقتصادية والعسكرية؛ سعيًا لكبح تمدُّده الجيوسياسي في أوكرانيا، وإنهاء طموحاته في أن يكون قطبًا دوليًا في نظام عالمي متعدِّد الأقطاب يهدِّد نظام القطب الأوحد، وإبقاء موسكو  في وضعها الطبيعي كقوة إقليمية متوسِّطة الحجم والقوة، وفي ذات الوقت إبعادها من أن تكون شريكًا اقتصاديًا فاعلًا للاتحاد الأوروبي ومتكاملًا معه، بما قد ينعكس في المستقبل على القطبية الأمريكية ويضعف مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية في القاره الأوروبية ويحدّ من نفوذها.

مع ذلك، لا يجب أن يفوتنا أيضًا، أنَّ النموذج الصيني والروسي، وإن كان لا يستند إلى قواعد الحياة الليبرالية الغربية، إلا أنَّه يروِّج لدور الدولة المركزية القاهرة وتعزيز آليات الضبط الحكومي، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، مقدِّمًا صورةً مختلفةً للعولمة تستمدّ قوتها، أحيانًا، من ماضٍ استبدادي، يحاول الإفادة من التكنولوجيا ومواقع التواصل، ومن الثروات المتراكمة، وانفتاح الأسواق وتبادُل السلع؛ لفرض نمطه السياسي، وتمويل مشروعات توسيع الهيمنة والنفوذ[4]. وهذا ما ينبغي على باقي دول العالم الانتباه له والتركيز على معادلة التكلفة والعائد، عند الدخول في شراكات مع الدول الكبرى، كالصين، مع الأخذ في الاعتبار المحافظة على سيادتها الوطنية ومصالحها القومية وأن تكون تعاملاتها وفقًا لقوانينها وأنظمتها الداخلية، وليس وفقًا لنظام دولي يجري الترويج له.

ثانيًا: الحنين لعودة عالم متعدِّد الحضارات والثقافات

الأصل في العالم هو تعدُّد الحضارات، التي قد كوَّنته، وهي الصينية، اليابانية، الهندية، الإسلامية، الغربية، الأفريقية، وأمريكا اللاتينية. وغالبًا ما كان الصراع يشتدّ؛ من أجل أن تتسيَّد حضارة ما باقي الحضارات. ومن هُنا، نشأ صراع الحضارات، الذي لا يزال مستمرًا حتى اليوم، وسيستمرّ (كما روَّج لذلك عالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنجتون في كتابه «صدام الحضارات»). وغالبًا ما تلعب الحروب بين الدول أو الحضارات، الدور الأكبر في سيطرة الحضارة المنتصرة على الحضارة المهزومة، وتحل بديلًا لها، لكن دون إلغائها تمامًا؛ ما يجعل دوافع إحيائها ونهوضها مرةً أخرى ممكنًا. فمثلًا، على هامش الحرب الأوكرانية، ظهر خطابٌ ثقافيٌ روسي يندِّد بالقِيَم الغربية الليبرالية، وأنَّها لا علاقة لها بالثقافة الروسية، ولا بالثقافات الشرقية، وأنَّ الأصل هو تعدُّد الحضارات، وليس هيمنة حضارة على أخرى.

قدَّم الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين أطروحات تدعو للعودة للماضي، وكما يقول، «نحو القِيَم الأصلية». فالقِيَم الغربية الليبرالية، كما يذكر، «لا علاقة لها بالثقافة الروسية، ولا بالثقافة الكونفوشيوسية الصينية أو الإسلامية». يُقِرّ دوغين بتعدُّد الحضارات والثقافات، التي ترغب في التعايش والتجاور والتبادل الحضاري، بعيدًا عن إملاءات الغرب ومسارهم الفكري الليبرالي المعولم، الذي بدأ العالم يلفظ تعميمه ويعاديه كفكر أُحادي؛ لأنَّ روح الإنسانية مفعمة بالحرِّية والرغبة في التحرُّر من العبودية والاستعباد. لا يمكن أن يكون الغرب، كما يناقش دوغين، من دعاة العولمة ونهاية التاريخ، مقرِّرين بديلًا عن الثقافات الضاربة جذورها في التاريخ. يذكر دوغين أنَّ روسيا والصين والإسلام يمثِّلون الموقف المضاد، ويجب أن يشكِّلوا نوعًا من الموازنة في القطبية الدولية، بما ينتج عنه إعادة رسم العالم، وفق الخرائط السياسية والاقتصادية والثقافية التعدُّدية[5].

يبدو أنَّ العداء الروسي، الذي طالما ردَّد كبار سياسيها ومثقفيها بأنَّ لبلادهم حضارة شرقية وليست غربية، ليس وليد الحرب الأوكرانية، بل قبل ذلك. ففي عام 2019م، وفي مقابلة حصرية مع صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، صرَّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنَّ القيم الليبرالية الغربية استنفدت غرضها ولم تعُد صالحةً لهذا العصر، وأصبحت المعارضة الشعبية للهجرة وفتح الحدود والتعدُّد الثقافي والتسامح الاجتماعي واسعةً للغاية. وقال بوتين -مردِّدًا ما يروِّج له الشعبويون القوميون مثل الإيطالي ماتيو سالفيني والفرنسية مارين لوبان والمجري فيكتور أوربان- إنَّ الحكومات الليبرالية لم تعمل على الحفاظ على التقاليد والقِيَم الأُسرية التقليدية لملايين الأشخاص، الذين يشكِّلون غالبية السُكّان، وبدلًا من ذلك اتّبعت تعدُّد الثقافات الطائش، الذي يتبنَّى -بين أمور أخرى- الشذوذ الجنسي[6]

في الحقيقة، أمام تطرُّف العولمة وسيادة الليبرالية الغربية، التي بدت في لحظةٍ ما وكأنَّها تتفوَّق على الدول القومية، بدأنا نلمس هُنا وهناك نشأة حركات قومية قوية تصرّ على السيادة الوطنية واستعادة الكبرياء الوطني، وتنتقد العولمة والإيقاع الموحَّد للقِيَم الغربية، حتى في الدول الغربية ذاتها، كألمانيا وفرنسا على سبيل المثال. نلمس في عدد من دول العالم شكوى من الطريقة، التي يحاول بها الغربيون فرض قِيَمهم على الجميع، خاصةً ما يخترق منها الفطرة البشرية السليمة، كالمثلية وحرية اختيار نوع الجنس وغيرها. فمعظم الناس لديهم ولاء قوي لجغرافيتهم الثقافية، ولأمّتهم، ولتاريخهم. لكن على مدى العقود القليلة الماضية، شعر كثير من الناس بأنَّ خصوصياتهم الثقافية وما نشأوا عليه قد تم تجاهلها، وأنَّ شرفهم القومي مهدَّد، وأن ارتباطهم بانتماءاتهم الثقافية وقِيَمهم الخاصة بدأ يتراجع، ويتعرَّض للانتهاك تحت وطأة العولمة. يبدو أنَّ العديد من دول العالم لم تعُد تجِد جاذبيةً في الليبرالية وهيمنة القِيَم والثقافة الغربية، وبدأت تحنّ إلى عالم تسوده التعدُّدية الثقافية، بما يخدم التنوُّع والثراء الثقافي، بعيدًا عن هيمنة الثقافة الواحدة[7].

حتى في أوروبا كذلك، نشهد علامات تدهور النظام الدولي وعدم الثقة في الولايات المتحدة، حتى أنَّ مصطلح «تعدُّد الأقطاب» أصبح في الواقع جزءًا من خطاب السياسة الخارجية، الذي يُعيد إنتاجه الدبلوماسيون والسياسيون في القارة العجوز. هناك أصواتٌ عديدة في الداخل الأوربي، ارتفعت بالتساؤل عن المدى، الذي يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تساند به القارة العجوز، حال تعرُّضها لأزمة مصيرية حقيقية، أو مواجهة عسكرية شرسة مع الروس، خصوصًا في ظل التغيُّرات المثيرة جدًّا في الداخل الأمريكي، تلك التي تبدأ من عند الارتدادات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية، والعقوبات الاقتصادية الأمريكية على روسيا، وصولًا إلى الحالة المجتمعية الداخلية، والصراعات القائمة في النسيج الوطني الأمريكي. صرَّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بأنَّ «كونك حليفًا للولايات المتحدة، لا يعني أن تكون تابعًا»، وأضاف في مؤتمر صحافي بأمستردام: «ليس لأنَّنا حلفاء لم يعُد لدينا الحق في التفكير بأنفسنا»[8]. يرى المُنظِّر الأمريكي للسياسات الخارجية، ريتشارد هاس، أنَّ أوروبا تحوَّلت إلى شيء مختلف تمامًا، ولم تعُد مبادئ الديمقراطية والازدهار والسلام راسخةً بقوة فيها، كما بدا قبل ذلك، خاصةً في ظل تصاعُد المد اليميني والقومي والشوفيني[9].

لم يقتصر نقد الليبرالية الغربية على الجانب الروسي والصيني والأوروبي، بل اتّضح جليًا في مفردات الخطاب الثقافي والسياسي العربي والإسلامي. ففي كلمه لولي العهد السعودي، خلال ترأُسه، نيابةً عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، «قمّة جدة للأمن والتنمية»، بحضور قادة ورؤساء وفود دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والولايات المتحدة والأردن ومصر والعراق، صرَّح بأنَّنا «نقدِّم للعالم رسالتنا وقِيَمنا النبيلة، التي لن نتخلَّى عنها، ونفتخر بها، ونتمنّى من العالم احترامها، كما نحترم القِيَم الأخرى، بما يعزِّز شراكاتنا، ويخدم منطقتنا والعالم»[10].

ولا ننسى أنَّ الإسلام فرض عولمته في مرحلةٍ من مراحل التاريخ واستطاع أن يستوعب كلَّ الملل والنحل والثقافات، وتفاعل معها مؤثِّرًا ومتأثِّرًا. فالعولمة الحضارية هي السِمة الغالبة على حضارة الإسلام منذ نشأته الأولى، على الرغم من نشأته في شبه الجزيرة العربية، حمله العرب شرقًا إلى فارس، وشمالًا إلى بلاد الشام، وغربًا إلى المغرب العربي؛ فقد حوَّل الإسلام العرب إلى قوةٍ تاريخية صاعدة بين إمبراطوريتي الفرس والروم. وعلى الرغم من أنَّ الإسلام نشأ في شبه الجزيرة العربية كدين وطني لها، ولسانه العربية، إلّا أنَّ عقيدته الأولى؛ التوحيد، لا حدود لها، انتشرت خارج الوطن واللغة بلا حدود، في ربوع الشام، وفي سهول آسيا الوسطى، وجبال المغرب العربي. كما انتشر عبر المحيطات إلى جنوب شرقي آسيا، وعبر مضيق جبل طارق إلى أوروبا، وفيما بعد إلى أفريقيا جنوب الصحراء، عبر وادي النيل أو السواحل الشرقية والغربية والجنوبية. يعتبر التوحيد في الإسلام هو محور العولمة، والبشر جميعًا بلا حدود يتساوون جميعًا أمام الإله الواحد، ويتمثَّلون قِيَمًا إنسانية واحدة. ولا شكَّ بأنَّ هذا الطرح العولمي للإسلام موجود في أُسُسه النظرية، وفي ممارسته العملية، ولقرونٍ طويلة، حينما كان الغرب في عصور الظلمات والانحلال في القرون الوسطى، ويقدِّم نفسه على أنَّه قد يكون بديلًا للعولمة الليبرالية، على الرغم من أنَّه عمليًا لم يِجد الأرضية الملائمة للانتشار؛ بسبب الحرب الغربية ضد الإسلام، وضد ما يمُت بصِلة للحضارة الإسلامية والإرث الإسلامي. إلّا أنه لا يُستبعَد أن يستفيق من جديد، ويُعيد بناء عولمة إسلامية جاذبة بديلة للعولمة الليبرالية الغربية، وقد يكون موازيًا لثقافة العولمة، التي تريد الصين أيضًا فرضها على العالم، من خلال مبادرة الحزام والطريق.

وبالتالي، قد نشهد في المستقبل الثقافة الإسلامية والصينية تُزحزح العولمة الليبرالية الحالية (يتّفق مع طرح هنتنجتون)؛ لأنَّ الشعوب تطمح إلى التركيز على رفاهية المجتمع ككل وإسعاده، وليس دعم الأثرياء فقط، الذي وفَّرته العولمة بصورتها الحالية. تُريد هذه الشعوب أن يصبح الاقتصاد موجَّهًا لخدمة المواطنين، عبر التركيز على أهمِّية العمل وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية، وتطوير خدمات الصحة والتعليم والإسكان والأمن المالي للمواطنين، والعدالة وتكافؤ الفرص، وتعزيز دور مؤسسات الدولة، وتنمية الاقتصاد الوطني.

من كل هذا، نستنتج بأنَّ العولمة الحالية ستُواجه في الأعوام المقبلة تحدِّيات وجودية، في ظل تراجُع الجاذبية الثقافية والسياسية للغرب، ونمو الاقتصادات الوطنية، وتزايُد الاقتراض وأزمات الديون، وانتشار عدم المساواة، وهيمنة الشركات دولية النشاط، والتضخم في أدوار البنوك المركزية، التي أصبحت أقوى من الحكومات، وتتابُع الأزمات العالمية، وهو ما أدّى لتحفيز توجُّهات يمينية وشعبوية تدعم اتّجاهات مناهضة للعولمة. وهكذا نشأت كل أنواع الحركات المناهضة للعولمة؛ مثل صعود دول كبرى وتكتُّلات تجارية جديدة، وحركات مؤيِّدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والقوميين المعادين للأجانب، والشعبويين، والقوميات لمناهضة للعولمة، وعودة المبادئ المحافظة، التي زاد انتقادها للسلوكيات غير الأخلاقية المرتبطة بالليبرالية. ولا شكَّ أنَّ الغزو الروسي على أوكرانيا قد سلَّط الضوء، وفتح الباب على هذه الاتّجاهات، وجعل النقاش الأكاديمي والإعلامي يحتدم حولها.

ثالثًا: تراجُع حركة العولمة الاقتصادية 

اعتمدت العولمة على فكرة الاندماج الاقتصادي والاعتماد المُتبادَل بين الدول، واحترام القواعد المتعلِّقة بالتجارة وحركة السِلَع والخدمات، وعدم تسييس العلاقات الاقتصادية. في ظل العولمة، كان للتدفُّقات المالية حسناتها وعيوبها، إذ تمكَّن -على سبيل المثال- عديدٌ من بلدان الأسواق الناشئة، من استغلال فوائض الأموال، التي جُنيت من التجارة في استثمارها في سندات حكومية صادرة عن الولايات المتحدة وغيرها من بلدان الاقتصادات المتقدِّمة. ولذلك، ففي حال أدارَ المستثمرون الأجانب ظهورَهم لدولةِ سوقٍ ناشئة، فسيظل ذلك البلد قادرًا على سداد قيمة وارداته بالعملات الصعبة وحماية قيمة عملته. وهذا ما ساهم في نشوء علاقة تكافلية بين بلدان الأسواق المتقدِّمة وبلدان الأسواق الناشئة، وجعل الطرفان يستفيدان من تدفُّقات تجارية ومالية غير مقيَّدة نسبيًا. كما استفادت بلدان الأسواق الناشئة من العولمة من نواحٍ كثيرة، منها أنَّها كانت قادرةً على توسيع نطاق الأسواق لمنتجاتها خارج حدودها الوطنية؛ ما مكَّنها من إيجاد قطاعات تصنيع قوية، وخلق طبقات وسطى متينة[11].

يُضاف إلى ذلك، أنَّ علاقات بلدان الأسواق الناشئة بالاقتصادات المتقدِّمة وشركاتها الصلبة سهَّلت عمليات نقل التكنولوجيا، وكذلك أحدث عمليات التصنيع والممارسات الإدارية؛ ما حوَّل عديدًا من الشركات في بلدان الأسواق الناشئة إلى شركات كبيرة وحديثة، بدرجةٍ مكَّنتها من الوقوف والمنافسة مع نظيراتها في الاقتصاد المتقدِّم، وخلق مزيدٍ من التنافس والابتكار والمزايا للمستهلكين في جميع أنحاء العالم. وأصبح يُنظَر إلى تطوير الأسواق المالية المحلِّية، على أنَّه «ميزة جانبية» كبرى للعولمة؛ لأنَّه لم يمكِّن بلدان الأسواق الناشئة من توجيه الأموال الأجنبية فحسب -بل حتى المدّخرات المحلِّية- إلى استثماراتٍ أكثر إنتاجية. فعلى سبيل المثال، استفادت المملكة العربية السعودية في بدايات انطلاق «رؤية 2030م»، من الشركات الاستشارية الكبرى مثل BCG وMcKinsey، لكن بعد ذلك أسَّست المملكة شركاتها الاستشارية الوطنية، التي أصبحت قادرةً على المنافسة مع الشركات الخارجية، والإحلال مكانها في إدارة برامج الرؤية.

مع ذلك، فعلى الرغم من استفادة بعض الاقتصادات الناشئة من الأسواق الأجنبية، إلّا أنَّها تضرَّرت لاحقًا من التقلُّبات، التي صاحبت تدفُّق الأموال والاستثمارات الدولية، المتزامنة مع الظروف، التي نزلت بالعالم، مثل الأزمة المالية العالمية 2008-2009م، وأزمة جائحة «كوفيد 19»، التي أوقفت سلاسل التوريد بجميع أنحاء العالم، وغيرها من الاضطرابات الجيوسياسية، مثل التوتُّرات الأمريكية-الصينية المتزايدة، ثم أتت حرب روسيا، التي لم يقتصر تأثيرها على الاقتصاد الأوكراني فقط، وإنَّما كانت العواقب الاقتصادية عالمية. كل هذا، جعل التجارة العالمية والتدفُّقات المالية تتراجع كثيرًا عن مستوياتها. ويُضاف إلى ذلك بعض السياسات الصناعية، التي أضعفت التجارة العالمية والتكامل المالي، منها سياسة «التداول المزدوج» الصينية، ومبادرة «صُنع في الهند»، التي أقرّتها الحكومة الهندية. وحاليًا، ففي ظل انسحاب الدول من طاولة العولمة وجلوس كل دولة على طاولتها الخاصة، من الممكن أن يجرّ ذلك آثارًا واسعة النطاق على الاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي على حدٍ سواء، ولن تطول هذه الآثار جميعَ الدول بالتساوي، إذ ستتحمَّل الدول منخفضة ومتوسِّطة الدخل اللذعةَ الأكبر[12].

كما أنَّ الدول والشركات في العالم غيَّرت من مسارها، وتتّجِه الآن إلى تحريك تدفُّقاتها التجارية والمالية؛ لتكون متماشيةً مع التزاماتها الجيوسياسية. وتشمل هذه الإجراءات الجديدة تدابير تجارية (فرض تعريفات وقيود على الاستيراد والتصدير)، إلى جانب سياسات صناعية ترمي إلى تعزيز التقنيات المحلِّية، ونقل المعرفة، وكلّها سياسات معناها وضع حواجز أمام التجارة والاستثمار الخارجي، إلّا في مجالات محدودة ونوعية جدًّا. هذا سيُجبر الشركات الكبيرة في العالم على مسار التراجع عن العولمة أيضًا، بعد أن جعلت الدول من إعادة توطين الصناعات والتجارة مع الأصدقاء أولوليتها[13].

أمّا اقتصادات الأسواق الناشئة غير المتماشية سياسيًا مع الاقتصادات المتقدِّمة، فخفض التدفُّقات التجارية والمالية يعني انخفاضًا في نقل التكنولوجيا والمعرفة؛ وبالتالي إعاقة طريقها نحو التنمية. وبعد أن تتراجع عديدٌ من البلدان عن التكامل العالمي، قد يصبح الوصول إلى أسواق التصدير أكثر تقييدًا بمرور الوقت، وقد لا يكون هذا الأمر ذو أهمية كبيرة لبلدان مثل الصين والهند والبرازيل، التي حقَّقت درجات أعلى من الاكتفاء الذاتي، وأصبحت أكثر ثراءً من عديد من اقتصادات الأسواق الناشئة الأخرى، إلّا أنَّ ذلك سيخنق البلدان الصغرى، التي لا تزال تنميتها الاقتصادية في مراحلها الأولى.

على الرغم من كل المحاولات لأمريكا وحلفائها في إبقاء العولمة الليبرالية الاقتصادية متسيدةً للنظام الدولي، إلّا أنَّنا نلحظ أنَّها بدأت تتآكل، حتى قبل الحرب الأوكرانية؛ نتيجةً لأسباب تدهوُر واسعة وعميقة، نذكر منها:

1- الأزمة المالية العالمية وتزعزُع الثقة في القيادة الأمريكية للاقتصاد العالمي: ذكرت مجلة «إيكونوميست» (Economist) البريطانية، أنَّه بين عامي 2008 و2019م، انخفضت التجارة العالمية بالنسبة إلى الناتج المحلِّي الإجمالي العالمي بنحو 5%. كان هناك عدد كبير من التعريفات الجديدة وغيرها من الحواجز أمام التجارة، وتباطأت تدفُّقات الهجرة، وانخفضت التدفُّقات العالمية للاستثمار طويل الأجل بمقدار النصف بين عامي 2016 و2019م[14]. أدّت الأزمة المالية عام 2008م إلى نزع الشرعية عن الرأسمالية العالمية، بالنسبة لكثير من دول العالم. وكانت تدفُّقات الاستثمار الأجنبي المباشر بين الصين وأميركا نحو 30 مليار دولار سنويًا عام 2018م، وبنهاية 2022م، انخفضت إلى 5 مليارات فقط[15]. يبدو أنَّ الاقتصاد العالمي، بدأ ينفصل تدريجيًا إلى منطقة غربية ومنطقة صينية.

2- الأزمة الأوكرانية وعرقلة سلاسل الإمداد واشتعال التضخم: وبسبب الأزمة الأوكرانية، واجهت العديد من البلدان أعلى معدل تضخم منذ عقود، مع انكماش في معدلات النمو الاقتصادي العالمي؛ الأمر الذي يمكن أن يؤدِّي إلى مرحلة من الركود التضخمي، إضافةً إلى تكاليف طاقة ضخمة. ووفقًا للدراسة التي نشرها المعهد الاقتصادي الألماني (IW)، كلَّفت  الحرب الروسية-الأوكرانية الجارية الاقتصاد العالمي 1.3 ترليون دولار في عام 2022م. وبالنسبة لعام 2023م، يتوقَّع «IW» خسارة قيمة مضافة عالمية إضافية بقيمة 1 ترليون دولار .تأثَّرت الاقتصادات الغربية بشكل خاص، حيث فقدت ثُلثي إنتاجها العالمي. في ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، دفعت أسعار الطاقة المرتفعة التضخم مؤقَّتًا إلى ما فوق 10% في عام 2022م، وتآكلت القوة الشرائية للأُسر؛ ما قلَّل من استهلاكها[16].

ومن التحوُّلات الأخرى الهامة أيضًا، على صعيد الاقتصاد العالمي نتيجةً لحرب أوكرانيا، زيادة الإنفاقات سواءً للمساعدات الإنسانية والعسكرية أو لتعزيز القدرات الدفاعية، أو حتى لتحمُّل تبِعات ومساعدة اللاجئين من هذه الحرب. ومثل هذه التكاليف من شأنها زيادة مديونية الدول المعنية في أوروبا، التي هي مرتفعة أصلًا[17]. وهذه التحولات الاقتصادية الهامة، لا شكَّ في أنَّها سوف تخلق واقعًا عالميًا جديدًا.

3– استخدام فزّاعة العقوبات الاقتصادية الغربية مع المختلفين سياسيًا : شكَّلت العقوبات الاقتصادية القاسية، التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وحلفاؤهما على روسيا، فى إطار الأزمة الأوكرانية، تراجعًا كبيرًا فى ظاهرة العولمة الاقتصادية، خاصةً العقوبات، التي استهدفت البنوك الروسية؛ بهدف تجميد الأصول المُحتفَظ بها في المؤسسات المالية الأمريكية وإعاقة قُدرتها على العمل داخل النظام المالي العالمي، وتشجيع الشركات الغربية على المغادرة، وإغلاق المجال الجوي الأوروبي للطائرات الروسية، وحظر وسائل الإعلام الروسية من الفضاء الإعلامي التقليدي والإلكتروني. كل هذه العقوبات أسهمت في المزيد من تراجع ظاهرة العولمة، وظهرت أصوات تنادي بالحاجة إلى قواعد جديدة للنظام الاقتصادي الدولي[18].

خلاصة

يتّضِح ممّا سبق، بروز مظاهر تراجُع العولمة الاقتصادية ذات المعايير الغربية، حيثأجبرت العقوبات الغربية روسيا على التطلُّع إلى الصين بحثًا عن فرص استثمارية في السنوات الأخيرة، وساعدت البنوك الحكومية الصينية روسيا في تمويل كل شيء من البنية التحتية إلى مشاريع النفط والغاز. تُعَدُّ روسيا إلى حدٍ بعيد أكبر متلقٍّ لتمويل قطاع الدولة في بكين، حيث حصلت على 107 قروض وائتمانات تصدير بقيمة 125 مليار دولار أمريكي من مؤسسات الدولة الصينية، بين عامي 2000 و2017م. بدأت الصين وروسيا في استخدام عملتيهما لتسوية التجارة الثنائية منذ عام 2010م، وافتتحتا أول خط لمبادلة العملات في عام 2014م، والذي جدَّدتاه في عام 2020م، مقابل 150 مليار يوان على مدى ثلاث سنوات. شكَّلت تسويات اليوان الصيني 28% من الصادرات الصينية إلى روسيا في النصف الأول من عام 2021م، مقارنةً بـ 2% فقط في عام 2013م، حيث يسعى كلا البلدين إلى تخفيف الاعتماد على الدولار أثناء تطوير أنظمة الدفع الخاصة بهما عبر الحدود. شكَّلت العملة الصينية 13.1% من احتياطيات العملات الأجنبية للبنك المركزي الروسي في يونيو 2021م، مقارنةً بـ 0.1% فقط في يونيو 2017م، مع انخفاض حيازات موسكو من الدولار الأمريكي إلى 16.4% من 46.3% في نفس الفترة. لا تحتفظ روسيا الآن باحتياطيات بالدولار في صندوق ثروتها السيادية، ومع ذلك تمتلك أكبر احتياطيات من الذهب في العالم. أصبح من المهم بشكل متزايد، أنَّ الدولار الأمريكي فقد 80% من قيمته مقابل الذهب على مدى السنوات العشرين الماضية؛ نظرًا لأنَّ الصين وروسيا تتطلعان إلى مزيد من خفض الدولار، فقد تتعرَّض العملة الأمريكية لضغوط متزايدة خلال السنوات المقبلة[19].

ولعلَّ اتفاق كلٍ من الصين والبرازيل وروسيا في أبريل 2023م على التجارة فيما بينهم بالعملات المحلِّية بدلًا من الدولار، من الدلائل القوية على تزعزُع الثقة في الليبرالية الغربية، ورُبما سرعة التحوُّل عنها مستقبلًا، في مقابل الانضمام لنظام اقتصادي وتجاري دولي أكثر شمولًا، بعد تشكُّله ونضوج أركانه وأدواته البديلة للنظام الاقتصادي الحالي بمعاييره الأمريكية-الأوروبية. خاصةً أنَّ تجارة كلًا من الصين والبرازيل متنامية، وتتخطَّى 150 مليار دولار في العام، كما أنَّ اقتصادات كلًا من الصين وروسيا والبرازيل تشكِّل معًا 24% من الناتج المحلِّي الإجمالي للعالم، وفق تعادل القوى الشرائية (حتى أبريل 2023م – صندوق النقد الدولي). كما أنَّها اقتصادات سريعة النمو الاقتصادي، وتشكِّل معًا أهمّ اقتصادات اتحاد بريكس الآخذ في النمو والتوسُّع عامًا بعد عام، ما قد يشكِّل تهديدًا لقوة الدولار في التجارة الدولية، على الرغم من أنَّ 60% من دول العالم تستخدم الدولار كاحتياطي أجنبي في الوقت الراهن.

ومن أبرز التحوُّلات كذلك، أنه بعد الارتفاعات التي حصلت لأسعار الطاقة والحبوب بسبب الحرب في أوكرانيا، أنَّ الدول بدأت تضع ضمن أولوياتها فى السنوات المقبلة، استقلالية الطاقة والغذاء، من خلال زيادة الإنتاج المحلِّي وبرامج الطاقة البديلة. وتعتبر أزمة الغاز الروسي أكثر ما يؤثِّر على الاقتصاد الأوروبي، مع عدم وجود خطط سريعة للاستغناء عنه؛ ما يجعل أمر الاستقرار الاقتصادي صعبًا للغاية. وعلى الرغم من أنَّ الاتحاد الأوروبي يواصل زيادة التزامه بخفض استهلاك الطاقة، وزيادة استقلاليته عن الإمداد الروسي من خلال مصادر الطاقة المتجدِّدة، إلّا أنَّ هذا لن يتِم قبل عام 2027م. ولا شكَّ أنَّ مقاطعة أمريكا وأوروبا لروسيا اقتصاديًا، سوف تؤدِّي إلى تأسيس علاقات اقتصادية وتجارية جديدة، حيث إنَّ عزل روسيا عن منظَّمات دولية، مثل منظَّمة التجارة العالمية أو بنك التسويات الدولية أو نظام المدفوعات العالمي، من شأنه أن يزيد من الهوّة، التي بدأت تتّسِع أصلًا بين أهمّ الدول والكتل الاقتصادية الكبرى؛ ما سيضعف بالتبعية من نظام العولمة، الذي عرفهُ العالم خلال الفترة الماضية .[20]

أمّا ما يتعلَّق بدولة أوكرانيا، فبعد عام من الحرب تحوَّلت من دولة ذات مؤشِّرات مالية مستقرَّة وواعدة، إلى دولة توجِّه جميع الموارد إلى مخصَّصات للدفاع العسكري. تمَّ تخصيص حوالي 50% من ميزانية الدولة للأمن القومي والدفاع؛ ما نتجت عنه عواقب اقتصادية وخيمة: 30% تراجُع اقتصادي، تضخم حوالي 28%، ما يصل إلى 8 ملايين لاجئ، بطالة تبلغ حوالي 30%، ومئات الأعمال والصناعات المدمَّرة أو المتضرِّرة. في عام 2023م، سيصل عجز ميزانية الدولة في أوكرانيا إلى 38 مليار دولار. تعني الهجمات الصاروخية المستمرَّة والواسعة في جميع أنحاء أوكرانيا، أنَّ فاتورة إعادة الإعمار والخسائر الاقتصادية ستستمرّ في النمو في عام 2023م[21].

ويمكن القول إنَّ الحرب التجارية والاستقطاب المتزايد بين الصين والولايات المتحدة، قد ينتج عن استمراريتهما تصدُّعًا في المؤسسات الاقتصادية الدولية، وتفكُّكَ النظام التجاري العالمي، والعودة إلى إصلاح الاقتصادات الوطنية تفاديًا للمخاطر التي يمر بها النظام الاقتصادي العالمي، وزيادة في التجارة الثنائية بين الدول بعيدًا عن الغرب. فخلال الحرب الأوكرانية زاد التبادل التجاري بين روسيا من جانب والصين والهند من جانب آخر إلى أرقام قياسية، بينما تراجع هذا التبادل بين هذه الدول والدول الغربية، بما فيها أمريكا. صحيحٌ أنَّ العولمة الاقتصادية لم تنتهِ بعد، لكنّها تواجه منعطفًا يأخذها إلى الانحدار في جميع المجالات الجيوسياسية؛ ما قد يجرّ إلى عواقب اقتصادية وخيمة.


[1] موقع الجزيرة، الولايات المتحدة الأمريكية ومتاهة الإستراتيجية الكبرى، نوح فسيفس، 13 فبراير 2017م، تاريخ الاطلاع: 1 مايو 2023م، https://bit.ly/429WgQ3

[2] Time, BY CHARLIE CAMPBELL,  How Russia’s Invasion of Ukraine Could Change the Global Order Forever, 24 February 2022, Accessed: 20 December 2022,  https://bit.ly/3VeK3pj    

[3] منتدى التعاون الصيني-العربي، نهضة الصين ودورها في النظام العالمي الجديد، 13 أغسطس 2021م، تاريخ الاطلاع: 1 مايو 2023م، https://bit.ly/41YMbG4

[4] جريدة الشرق الأوسط، أكرم البني، عن العولمة والحرب في أوكرانيا، 1 إبريل 2022م، تاريخ الاطلاع: 26 فبراير، 2023م، https://bit.ly/3xUC07L

[5]ميدل ايست أون لاين MEO، ألكسندر دوغين فيلسوف روسيا، أحمد شحيمط، 15 مارس 2022م، تاريخ الاطلاع: 8 ديسمبر 2022م، https://bit.ly/3UPdEWk

[6]Financial times, Vladimir Putin says liberalism has ‘become obsolete’ 28 JUNE  2019, Accessed: 12 December 2022,   https://on.ft.com/2ISuvpm

[7]  موقع المنهل، كتاب قضايا معاصرة في العولمة (كتاب إلكتروني)، بدر جراح، طبعة 2013م، تاريخ الاطلاع: 16 مارس 2023م، https://platform.almanhal.com/Files/1/15770

[8] LE MONDE, Des dirigeants européens critiquent l’expression « malheureuse » d’Emmanuel Macron sur les Etats-Unis,13 April 2023, Accessed :1 May 2023, https://bit.ly/3LlKRWD

[9] الغد، فتحي خطاب، «عالم متعدِّد الأقطاب».. تحوُّل راديكالي في النظام العالمي، 19 يونيو 2022م، تاريخ الاطلاع: 12 ديسمبر 2022م،  https://bit.ly/3uIi5aH

[10]  الاقتصادية، ولي العهد: لن نتخلَّى عن قِيَمنا النبيلة.. نفتخر بها ونتمنى من العالم احترامها، 17 يوليو 2022م، تاريخ الاطلاع: 12 ديسمبر2022م،  https://www.aleqt.com/2022/07/17/article_2355186.html

[11] FP, Eswar Prasad, The World Will Regret Its Retreat from Globalization,24 march 2023, Accessed:10 April 2023, https://bit.ly/3GwJ2nU

[12] الغد، فتحي خطاب، «عالم متعدِّد الأقطاب».. مرجع سابق

[13] المرجع السابق

[14] Economist, Globalization and autocracy are locked together. For how much longer? , 19 mars 2022, Accede: 7 December 2022, https://econ.st/3Y2v9oC

[15] الجزيرة، مقال في «نيويورك تايمز» يعلن نهاية العولمة وبداية حروب الثقافة العالمية، 11 ابريل 2022م، تاريخ الاطلاع: 7 ديسمبر 2022م،  https://bit.ly/3iNKvNy

[16]  العربية، بعد عام على حرب روسيا وأوكرانيا.. هذه خسائر الاقتصاد العالمي، 23 فبراير 2023م، تاريخ الاطلاع: 1 مارس 2023م، https://bit.ly/3MDuA1c

[17]  الغد، فتحي خطاب، «عالم متعدِّد الأقطاب»، مرجع سابق 

[18] العربية، بعد عام على حرب روسيا وأوكرانيا.. هذه خسائر الاقتصاد العالمي، مرجع سابق

[19] Silk Road Breifing, Understanding The China-Russia Trade, Investment & Economic Relationship In The Context Of The Ukraine Conflict,10 may 2022,  Accessed: 16 April 2023, https://bit.ly/43OLQqP

[20] الغد، فتحي خطاب، «عالم متعدِّد الأقطاب»، مرجع سابق

[21] TIME, SERGII MARCHENKO, What Russia’s War Is Costing the World, 12 January 2023, Accessed: 1 February 2023, https://bit.ly/3XTO5Wp

د. أحمد بن ضيف الله القرني
د. أحمد بن ضيف الله القرني
نائب رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية