مقدمة
في ضوء توالي التحولات الدولية المؤثرة في تراتُبية القوى في النظام الدولي، وعلى المحاور الإقليمية والدولية السائدة، يتفق عديد من كبار المنظِّرين والمراقبين للديناميكيات الجديدة التي تشهدها التفاعلات الدولية، والتحول في قوة الدول ومكانتها وأنماط سياساتها الخارجية، على أن معايير قوة الدول ومكانتها وحركية سياساتها الخارجية لم تعد تُقاس بمقاييس تقليدية بحتة، كما كان الحال في الماضي، وإنما برزت بشكل لافت معايير دولية جديدة تفرض على الدول تحديات مغايرة نتيجة التحول في مفهوم وأدوات القوة بحكم التطورات الدولية، مثل موقع الدولة وميزاتها الجيو-سياسية بالنسبة لخارطة المحاور والممرات التجارية واللوجستية العالمية، لا سيَّما الممرات التي تُحدث تحولًا في الحركة الاقتصادية والتجارة البحرية في العالم، والتأثيرات المحتملة في مكانة وثقل الدول من خلال تَموضُعها في الممرات الإستراتيجية للتجارة.
يدرك قادة دول «مجموعة العشرين» -تضم الاقتصادات الأقوى والأكثر تأثيرًا في هيكل النظام الاقتصادي الدولي- الذين اجتمعوا في نيودلهي خلال 9-10 سبتمبر 2023م تلك التغيرات في معايير قياس قوة الدول، ففي تطور جديد ولافت من شأنه تعزيز مكانة الدول الأطراف، وبينها المملكة العربية السعودية، على خارطة المحاور اللوجستية العالمية وتحقيق المصالح حسب مفهوم الشراكة، أعلن ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، على هامش اجتماعات «مجموعة العشرين»، عن مشروع إنشاء الممر الاقتصادي الضخم العابر للحدود، الذي سيربط الهند بالشرق الأوسط بأوروبا، وسيغير -حال إتمامه- الترابط الدولي بالطرق المتعارف عليها.
تتناول هذه الدراسة مدى تأثير وأهمية الممر التجاري المقترح، الذي من المتوقع أن يشكِّل نقطة تحول إستراتيجية في خارطة الممرات العالمية، إذ يتوقع عديدٌ من المتابعين لشؤون التجارة الدولية أن الممر -حال تنفيذه- سينقل حركة التجارة الدولية إلى مرحلة مفصلية جديدة ذات آثار إيجابية لَربما قريبة مما أحدثته قنوات بحرية مفصلية سابقة في حركة التجارة الدولية، كما تُقدِّم تفسيراتٍ منهجيةً لحجم الفرص والمكاسب والتداعيات والآثار في اقتصادات عديدٍ من الدول، ويفرض ذا الممر عديدًا من المقاربات السياسية لخدمة الاستفادة من هذا المشروع، كما يتوقع أن يؤثر في مواقف الدول المنافسة من الآثار المستقبلية للممر، لا سيَّما أن الدول المشاركة ذات أوزان كبيرة تمتد من آسيا إلى أوروبا، يُصنَّف بعضُها بالمعايير الدولية على أنه من الاقتصادات الناشئة والواعدة والصاعدة، وبعضها من الاقتصادات الصناعية المتقدمة، وتنتهي الدارسة بقياس حجم المكاسب مقارنة بالمعوقات للوقوف على جدوى تبنِّي مثل هذا المشروع العملاق.
أولًا. خصــائص ومســـارات الممـر الاقتصــادي العالمــي
إدراكًا لحجم المكاسب والتداعيات المحتملة على المكانة على خارطة المحاور اللوجستية العالمية، وفي تراتبية القوى في النظام الدولي، والتأثير الهائل في حركة التجارة الدولية، وقَّع عدد من الدول: الهند، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، الأردن، إسرائيل، الاتحاد الأوروبي، بحسب الموقع الرسمي للبيت الأبيض[1] -على هامش اجتماعات قمة «مجموعة العشرين»- مذكرة تفاهم لإنشاء ما يسمى بـ«الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» India – Middle East – Europe Economic Corridor، المعروف اختصارًا بـIMEC، وفيما يلي أبرز سماته وملامحه:
1. الأوزان النسبية للدول المشـاركة
تحظى غالبية الدول الواقعة في نطاق الممر بمقدَّرات اقتصادية (إما اقتصادات ناشئة أو اقتصادات صناعية قوية) وسياسية (تمتلك أدوات تأثير في الساحتين الإقليمية والدولية) وجيو-سياسية (ميزات جيو-سياسية للمواقع الجغرافية) كبيرة للغاية، وبحكم مقدَّراتها الضخمة وثرواتها الهائلة تلعب هذه الدول أدوارًا بارزة للتأثير في مجريات الشؤون الدولية، وتُشكِّل الدول الواقعة على نطاقه ممرًّا طويلًا لآلاف الكيلومترات يربط قارتَي آسيا وأوروبا، وتتسم في المُجمل بالاستقرار.
يتفرع الممر إلى طريقين (الخريطة رقم 1): الأول، شرقي يبدأ بالدولة الهندية الصاعدة اقتصاديًّا، والمعدودة عالميًّا ضمن أوائل زبائن النفط الخليجي، ثم يربطها بمنطقة الخليج العربي، الغنية بالنفط والصاعدة على الخريطة الاقتصادية والسياسية الدولية بحكم مقدراتها الاقتصادية الهائلة مع توافر عنصر الإدراك لقياداتها، والثاني، شمالي يربط منطقة الخليج العربي بالدول الأوروبية المتقدمة صناعيًّا وتكنولوجيًّا واقتصاديًّا، وباتت في حاجة ماسة إلى بدائل تجارية في ظل التداعيات المتصاعدة للتحولات الدولية في مجال الطاقة والموارد الهامة، لا سيَّما تأثيرات الحرب الروسية-الأوكرانية والتحولات الطارئة في إفريقيا.
يبدأ مسار الممر الاقتصادي بحريًّا من الهند، ذات الشريط الساحلي الطويل على المحيط الهندي وبحر العرب، وتحديدًا من مواني مدينة مومباي، مرورًا ببحر العرب إلى ميناء دبي الإماراتي، ثم يبدأ مسار خط السكك الحديدية من منطقة الغويفات الإماراتية، مرورًا بالأراضي السعودية نحو جنوب الأردن، ثم إلى مدينة حيفا الساحلية بإسرائيل، ثم يعود من جديد المسار عبر البحر من حيفا بالبحر المتوسط إلى ميناء بيرايوس اليوناني، ثم يعود مجددًا المسار البري من اليونان إلى داخل أوروبا.
الخريطة رقم (1): خريطة مسارات وطرق ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا
المصدر: https://cutt.us/p2nO5
2. تعـدُّد مسـارات وخطـوط الربط
مقارنة بالممرات الدولية القائمة أو المنفَّذة جزئيًّا أو المطروحة عالميًّا، تتعدد وتتنوع البنية التحتية العابرة للقارات (خطوط الربط) للممر المقترح، إذ تتعدى بنيته التحتية مسألة الخط الواحد، كما هو الحال في عديد من الممرات الدولية المطروحة، إلى خطوط إضافية تخدم أغراضًا متعددة، بإنشاء خط أنابيب لتصدير الهيدروجين النظيف، ومدّ كابل للكهرباء وكابلات للاتصالات الرقمية بجانب السكك الحديدية لتعزيز أمن إمدادات الطاقة العالمي، ما من شأنه إحداث نقلة نوعية في تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين أطرافه، وتسهيل نقل البضائع والأفراد بشكل سريع للغاية، وتوفير فرص عمل وتقليص انبعاثات الغاز لصالح تحسين المُناخ، وهذا يتناغم مع أهداف عديدٍ من الدول الواقعة في نطاق المشروع، ومنها المملكة العربية السعودية، الراغبة في التحول إلى أكبر منتج للهيدروجين الأخضر في العالم بحلول عام 2026م، وذلك بإنتاج يصل إلى نحو 1.2 مليون طن من الأمونيا الخضراء سنويًّا، بما يعادل 600 طن من الهيدروجين الأخضر يوميًّا مع تصديره إلى الأسواق العالمية[2]، لذلك تتماشى تلك المسارات مع أولويات رؤية 2030م السعودية.
3. مستويات طموح الأطراف للتنفيذ
مقارنةً بغيره من الممرات العالمية المقترحة، يحظى الممر المقترح برغبة وطموح عاليين من الأطراف الواقعة في نطاقه كافة لاعتبارات متعددة خاصة بكل دولة، لها علاقة بحساباتها وتطلعاتها الإقليمية والدولية لتعزيز مكانتها، ومؤشرات ذلك عديدة، منها:
جدولة الدول الأطراف خطة عمل واضحة خلال 60 يومًا من تاريخ إعلانه لإعداد خطة عمل (Action Plan) واضحة للبدء في تنفيذ البنية التحتية للممر، ومنها الرغبة الهندية الواضحة للانخراط بشدة ضمن سياسة الممرات العالمية وتحولها إلى مؤثر دولي في خارطة المشاريع اللوجستية العالمية، وذلك ضمن رؤيتها للصعود الاقتصادي (الحلم الهندي)، والدعم الأمريكي الواضح في قمة العشرين لتنفيذ الممر، إذ وصفه الرئيس جو بايدن بـ«التاريخي»، والرغبة السعودية في تنوع خطوط الإمداد وتعدُّد مسارات الممرات ودعم سلاسل الإمداد العالمية، فهذا المشروع يتناغم مع مبادرة سلاسل الإمداد العالمية للمملكة لعام 2022م، والإستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية لعام 2021م، وذلك ضمن إستراتيجية المملكة لتنويع مصادر الاقتصاد على ضوء مستهدفات رؤية 2030م، علاوة على أن المملكة لديها المقدرة على الإيفاء بالتزاماتها، بما تمتلك من بنية تحتية لوجستية ومقدرات مالية، إذ أكد الأمير محمد بن سلمان التزام المملكة دفع مبلغ 20 مليار دولار لهذا الممر ضمن مبادرة «الشراكة العالمية للبنية التحتية والاستثمار»[3]، مدفوعًا بما حققته المملكة من النمو الأعلى بين دول المجموعة خلال عام 2022م، إذ حصدت مراتب متقدمة في معدلات إنتاجية الفرد وأدائه حسب المعايير الدولية، لتقود مسألة استقرار أسواق النفط عالميًّا، ما يعزز حضورها المؤثر في الساحة الاقتصادية الدولية، كذلك نرى الدول الأوروبية المشاركة في الممر تدفعها التطورات الداخلية، ممزوجة بالتحولات الدولية، إلى المشاركة بفاعلية لتنفيذ الممر، ويعكس ذلك موقف الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية، خصوصًا إيطاليا وفرنسا وألمانيا، الداعمة بشدة لتنفيذ الممر.
4. تبنِّي أطـراف الممر النهج التشـاركي لا المركزي
يختلف هذا الممر عن غيره من الممرات المشابهة، من كونه يقوم على النهج التشارُكي (مبدأ الشراكة)، لا النهج المركزي (مركزية دولة معينة تحظى بالنسبة الكبرى من المصالح والمكاسب والعائد بشكل عام)، وهي أهم خصيصة يتميز بها هذا الممر المزمع إنشاؤه، إذ صُمِّم على نحو لا يخدم مصالح دولة بعينها تريد أن تصبح المركز لهذه البنية التحتية والشبكة الدولية العابرة للحدود، وإنما صُمِّم على أساس خلق شراكة دولية حقيقية تعظِّم مصالح أطرافه كافة، وهو أهم دافع وفرصة في نفس الوقت.
تُشكِّل الملامح السابقة، مع الدعم والمساندة الأمريكية لهذا المشروع في إطار تنافسها الإستراتيجي مع الصين، أبرز ملامح الممر، وتميزه من غيره من الممرات المطروحة على خارطة الممرات اللوجستية العالمية، وتُعد في نفس الوقت ضمن سلّة الفرص أو المحفزات، التي ترتبط في أجزاء عديدة منها بالمكاسب الاقتصادية المحتملة المحفزة للمُضي في تنفيذ الممر.
ثانيًا. الأهـداف والـمكاسـب الاقتصـادية المحتـملة
يهدف المشروع الطَّموح إلى تطوير البِنى التحتية واللوجستيات الرابطة بين الشرق والغرب في مجالات حيوية على خارطة الاهتمامات والأولويات العالمية المعاصرة، بما يتوافق مع الاحتياجات المتنامية للتنمية: الطاقة التقليدية والجديدة والمتجددة، والتكنولوجيا والتحول الرقمي «الرقمنة» ونقل البيانات السريعة، وتجارة البضائع، وذلك عبر كابلات نقل الطاقة والبيانات ومدّ خطوط السكك الحديدية لنقل البضائع المختلفة.
عند تنفيذ هذا المشروع الضخم، الممتد لآلاف الكيلومترات، والرابط بين قاراتَي آسيا وأوروبا، لا شك ستتحقق مجموعة من المكاسب الاقتصادية، ليس فقط بالنسبة للدول الواقعة على طول الطريق، بل ستشمل الدول المحيطة، والاقتصاد العالمي كذلك، ونوضح ذلك في النقاط التالية:
1. إرسـاء دعـائم مـرحلة جديـدة فـي تـعزيز حـركة التـجارة الـدولية
أ. يُتوقع أن يُسهم الممر في نقل البضائع بشكل أسرع بنسبة 40%، مقارنة بالوضع الحالي، بين أطراف الممر المزمع إنشاؤه.. وهنا نقول إن الهند ترتبط مع دول الخليج العربي بعَلاقات تجارية مهمة، إذ تُعدُّ الهند ثاني أكبر شريك تجاري للمملكة العربية السعودية (53 مليار دولار بالعام 2022/2023م)، وتأتي في المكانة التجارية بعد الصين مباشرة، كما تعد الهند ثالث أكبر شريك تجاري للإمارات (85 مليارًا في 2022م)، وعلى الطرف الآخر من الممر، وصلت تجارة المملكة مع منطقة اليورو إلى 70 مليار دولار عام 2022م[4].
ب. من شأن تنفيذ الممر خلق ممرات تجارية جديدة، مكمّلة أو منافسة، وليست بديلة للممرات التقليدية، كقناة السويس، التي يمر من خلالها نحو 22% من حجم تجارة الحاويات في العالم، أو حتى ممر «الحزام والطريق» الصيني، الذي يمكن أن يتقاطع بشكل أو بآخر، أو حتى يستخدم نفس الطرق القائمة للممر الهندي الخليجي. فعلى الرغم من ضآلة حجم شحنات النقل البري والحديدي، مقارنة بشحنات الناقلات البحرية العملاقة التي يجري بها نقل قرابة 90% من حركة التجارة العالمية[5]، فإن النقل الحديدي له ميزة النقل السريع، المفيد لطبيعة بعض الشحنات والبضائع مثل المنتجات الطازجة أو بعض الخامات والبضائع، علاوة على إمكانية الاستخدام المرن للممر الجديد في حالات الأزمات الجيو-سياسية.
2. تنامـي تأثـير اقتصـادات الأطــراف المـشـــاركة فـي الاقتصاد العالـمـي
تضم المذكرة الموقَّعة بشأن الممر أطرافًا ذات ثقل اقتصادي وتجاري مُهم في الأسواق العالمية في مجالات التجارة والصادرات والطاقة، علاوة على إسهامها الحيوي في الناتج الاقتصادي العالمي.
ويوضح الجدول التالي مؤشرات اقتصادية خلال عام 2022م:
ونجد فيه أن اقتصاد منطقة اليورو أسهم بنسبة 12% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وبـ25% من إجمالي صادرات السلع والخدمات العالمية، بينما الهند تُسهم وحدها بـ7.3% من الناتج العالمي، وبـ2.5% من إجمالي الصادرات العالمية، مع سوق استهلاكية كبيرة تضم أكثر من 18% من سكان العالم.
وأسهمت المملكة العربية السعودية وحدها بـ1.3% من الناتج العالمي و1.4% من إجمالي الصادرات العالمية، علاوة على تصدير أكثر من 14% من النفط العالمي، بينما تسهم مجموعة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بـ7.6% من الناتج العالمي و6.7% من إجمالي صادرات العالم، مع سوق كبيرة تضم قرابة 11% من سكان العالم[6]، أي إن فُرص التجارة في ما بين هذه الأطراف واعدة ومؤثرة في الاقتصاد الدولي.
جدول رقم (1): مؤشرات متعلقة بنسب إسهام بعض أهم الدول المشاركة في المشروع في الاقتصاد العالمي خلال عام 2022م
البلد | الناتج المحلي الإجمالي | الصادرات | السكان |
منطقة اليورو | 12% | 25% | 4.4% |
الهند | 7.3% | 7.3% | 18.3% |
السعودية | 1.3% | 1.4% (أكثر من 14% من صادرات نفط العالم) | 0.4% |
الشرق الأوسط ووسط آسيا | 7.6% | 6.7% | 10.7% |
المصدر: IMF, World Economic outlook, April 2023
3. تعظيـــم المكاســـب والفـرص الاقتصـاديـة للأطـــراف كافة
أ. يُتوقع تحقيق أقصى استفادة من قدرات دول الخليج عمومًا، والسعودية خصوصًا، في استغلال موارد واحتياطات الطاقة التقليدية من نفط وغاز، عبر ربطها بشبكات أنابيب مباشرة تلبي احتياجات الأسواق المجاورة شديدة التعطش للطاقة، مثل الهند وأوروبا، ما يعني نمو وسرعة تصدير موارد الطاقة التقليدية إلى تلك الأسواق بأقل تكلفة ممكنة وتحقيق أعلى ربح ممكن، وضمان أسواق دائمة لهذه السلعة، ناهيك بتعزيز أمن الطاقة لتلك الأسواق من خلال تنويع خيارات الإمداد بالطاقة.
ب. زيادة ارتباط مواني الهند بدول الخليج العربي وأوروبا، وبالتالي زيادة حركة التجارة في ما بين الجانبين، وسرعة النقل من المواني إلى الأسواق الاستهلاكية عبر السكك الحديدية السريعة، فضلًا عن زيادة تصدير الكهرباء من دول الخليج إلى أوروبا عبر مدّ الكابلات الكهربائية.
ج. خلق فرص عمل، وفتح أسواق استهلاكية جديدة، مع إمكانية إشراك واستفادة دول أخرى في الإقليم، مجاورة للممر، مثل إيران وباقي دول الخليج العربي، عبر المواني على الجانب الآخر من الخليج العربي، أو مصر عبر مواني البحر الأحمر وقناة السويس، حال امتدَّ الممر إلى سواحل البحر الأحمر.
د. دعم خطط التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة والنظيفة، والاستفادة من إمكانات وموارد الجزيرة العربية من تلك الطاقات الوفيرة، مثل طاقة الشمس والرياح والهيدروجين، علاوة على جذب الاستثمارات الأجنبية في هذه المجالات وتنويع صادرات دول المنطقة، بجانب دعم الأهداف الإستراتيجية لأوروبا في هذا الشأن، وتحديدًا بعد أزمات الطاقة التي تعرضت لها إثر الحرب الروسية على أوكرانيا.
4. تعـزيـز مكانـة دول الخليـج العربي علـى خارطـــة سلاســـل الإمــداد العالمـــية
أ. تقوية سلاسل الإمداد العالمية، وتحويل الجزيرة العربية، وتحديدًا المملكة العربية السعودية، إلى مركز حيوي في مجال النقل والخدمات اللوجستية العالمية، لدعم خطة التنويع الاقتصادي ضمن رؤية 2030، وتفعيل المبادرة الوطنية لسلاسل الإمداد العالمية التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عام 2022م، وخصَّص لدعمها قرابة 3 مليارات دولار من الموازنة الحكومية.
ب. تحويل المملكة إلى مركز إقليمي وعالمي (Hup) في مجال الرقمنة والاتصالات فائقة السرعة، ما سيفيد في تسريع تحول حكومات ودول الشرق الأوسط نحو الرقمنة.
5. التخفيف من تداعيات الطـوارئ الدولية المحتملة على التجارة الدولية
وذلك عبر الإسهام في استمرار سيولة وتدفق التجارة الدولية في حالات الطوارئ أو الأزمات الجيو-سياسية التي قد تتعرض لها الممرات البحرية التقليدية الكبرى، التي يعتمد عليها العالم في الوقت الراهن.
6. زيادة الروابط الثقافية بين الدول الواقعة على طول الممر
من شأن تنفيذ الممر تعزيز الروابط الثقافية بين دول الممر وإمكانية تحقيق مكاسب سياحية، مع زيادة الرحلات السياحية بين المواني الرابطة للممر وبين خطوط السكك الحديدية المارَّة بالمدن والعواصم الكبرى على طول الممر الاقتصادي داخل الجزيرة العربية، مثل أبو ظبي والرياض، مع إمكانية الربط مع مشروع قطار الخليج العربي السريع، وتقليل حدَّة التنافس السائدة، والاتجاه إلى تبادل المنافع.
ثالثًا. تـداعـيات ودلالات إعـلان المـمر العـالمـي
يُتوقع أن يرتب الإعلان عن الممر عديدًا من التداعيات بالنسبة للدول الواقعة ضمن نطاقه المقترح، لعل من أبرزها ما يأتي:
1. تأكيد مكانة السعودية والإمارات إقليميًّا ودوليًّا
تشير مشاركة السعودية والإمارات في الممر المقترح، الذي يبدو أن له أولوية كبيرة لدى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، إلى أمرين في غاية الأهمية، الأول النجاح السعودي-الإماراتي في التموضع باعتبارهما لاعبَيْن أساسيَّين في التفاعلات الإقليمية والدولية الجارية، بحيث لا يمكن تجاوزهما، وهذا التموضع جاء في إطار تنويع الشراكات، ولم يأتِ في إطار الاصطفاف والانحياز لأي طرف دولي، فالدوافع الخليجية عمومًا، والسعودية تحديدًا، تُولي التوزان والتهدئة والابتعاد عن المحاور، ودعم الاستقرار الإقليمي الأولوية.. أما الأمر الثاني فهو تغير النهج الأمريكي تجاه دول الخليج العربي، إذ يكشف المقترح عن إجراء إدارة بايدن مراجعة وتغييرات جوهرية لموقفها الفاتر من العَلاقات مع دول الخليج العربي، وقد كان استقبال الرئيس بايدن اللافت لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال قمة العشرين، والتركيز على دور السعودية والإمارات في المشروع، ذا دلالة خاصة بشأن حرص إدارة بايدن على إدماج الرياض وأبو ظبي في أحد المشروعات الدولية العملاقة التي ترعاها الولايات المتحدة، للدلالة على أهميتهما الاقتصادية وتأثيرهما الجيو-سياسي في تأكيد مكانة واشنطن على الساحة الدولية.. وهذا الأمر بدوره قد يُسهم في استعادة الثقة المفقودة وعودة العلاقات إلى طابعها الإستراتيجي الفعَّال[7].
2. الرغبة في مزيدٍ من استقرار الشرق الأوسط
تُولي دول المنطقة، لا سيَّما دول الخليج العربي، أهمية خاصة للجوانب الاقتصادية، إذ توجد لديها رغبة في عملية انتقال إلى مرحلة ما بعد النفط وتنويع مصادر الاقتصاد، والاعتماد على الطاقة النظيفة والانتقال التكنولوجي في ظل طفرة الذكاء الاصطناعي التي يشهدها العالم.. ومن شأن ممر الهند-أوروبا أن يرفع حالة الاعتماد المتبادَل بين هذه الدول ويزيد فرص التعاون، ويحدَّ من حالة التنافس السلبي والصراع، بل وتحقيق التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة التي يقطعها الممر، إذ من المُتوقَّع أن يُسهم الممر في تطوير البِنى التحتية وإعادة تأهيل شبكات النقل والمواصلات، وأن يشمل التعاون ربط المواني وتعزيز حركة التجارة، ونقل الخبرات التكنولوجية، وفوائض الطاقة التي تتوسع فيها دول المنطقة بصورة كبيرة، بالنظر إلى المشاركة الدولية المؤثرة.
فضلا عن المشاركة الإقليمية، فإن الجهود قد تتضافر من أجل تحقيق الاستقرار بين دول المنطقة، ويعزز ذلك أن دول المنطقة تذهب إلى التهدئة وتسوية الخلافات، وأن الأبعاد الاقتصادية -في ظل الأزمات التي يعيشها العالم والمنطقة- تحفز هذا الاتجاه.
وبفضل هذا الممر قد تصبح دول الخليج العربي مركز ربط بين آسيا وأوروبا، ومركزًا اقتصاديًّا مؤثرًا في التجارة العالمية، يعزز مكانة آسيا وينقل مركز القوة إليها في المستقبل[8].
3. دعـم وتعزيز الحضـور الهندي على المسـرح العالمي
تشير بيئة وتوقيت إعلان إنشاء الممر إلى أن المشروع يرتبط بصورة أساسية بتصاعد التنافس الجيو-سياسي المحتدم بين الولايات المتحدة والصين على القيادة الدولية وطبيعة النظام الدولي، الذي تجلَّى بقوة خلال المرحلة الأخيرة في مسارَين أساسيَّين، أولهما بناء وتوسيع التحالفات والتكتلات، والثاني هو التنافس على ممرات الربط الدولي.
في ما يخص مسار بناء وتوسيع التحالفات والتكتلات، فإن ممر الهند-أوروبا عبر الشرق الأوسط يعزز التحالف الأمريكي في قارات العالم القديم، ويُسهم في سياسات واشنطن الرامية إلى تطويق الصين، سواء في محيطها الجغرافي أو على الصعيد الدولي، وربما نجحت الولايات المتحدة من خلال هذا المشروع إلى توجيه رسالة بأن محاولات الصين لبناء تكتلات مناهضة لأمريكا، وتوسيع تكتلات أخرى، لا يمثل تحديًا كبيرًا لمكانتها، فالممر وترحيب الدول المشاركة به، وبعضها من الدول المدعوة للانضمام إلى «بريكس»، يكشف قدرة واشنطن على التأثير ويدلل على أن أوراق اللعبة الدولية الكبرى لا تزال بيدها رغم المحاولات الصينية، حتى وإن قلّلت الصين من أهمية هذا الممر ومن تأثيراته[9].
بالإضافة إلى ذلك، يسهم الممر في تأهيل الهند لتكون قوةَ توازنٍ اقتصاديٍّ منافس للصين، في محيطها الجغرافي ومجالها الحيوي -حال نجاح تنفيذه- إضافة إلى طرحها باعتبارها بديلًا موثوقًا عن الصين في مجال التجارة الدولية، وتقديمها إلى دول الشرق الأوسط وأوروبا بديلًا تجاريًّا للصين، وهذه الخطوة لا شك قد تُسهم في حسم الهند موقفها من التنافس الأمريكي-الصيني، وذلك في ظل تطلُّعات نيودلهي إلى لعب دور عالمي أوسع، ومحاولتها الاستفادة من الواقع الدولي الراهن في نقل الاستثمارات الغربية إلى أراضيها بدلًا من الصين، والاعتماد عليها شريكًا أوثق في التجارة الدولية بدلًا من بكين.
أما في ما يخص التنافس على ممرات الربط الدولي، فإن الممر المقترح يُعدُّ بمثابة مبادرة منافسة لمبادرة «الحزام والطريق» الصينية -وربما بديل لها وفق الرغبة الأمريكية- وهي المبادرة التي تسعى من خلالها الصين إلى تعزيز مكانتها الدولية، فالولايات المتحدة من خلال مكانتها الاقتصادية الرائدة وشراكتها الممتدة عبر القارات الثلاث، فضلًا عن إمكانيات شركائها، تبني شراكة اقتصادية ذات طابع إستراتيجي يمكن أن تؤثر سلبًا في تقدُّم الصين في تنفيذ مشروعها العملاق.
وارتباطًا بما سبق، يمكن أن يؤثر الممر في نفوذ الصين العالمي والإقليمي، بما في ذلك نفوذها في الشرق الأوسط، الذي كان محلَّ تدقيق من إدارة بايدن، التي أكدت أنها لن تترك فراغًا تملؤه الصين وروسيا في المنطقة.. بطبيعة الحال لن تقف الصين مكتوفة الأيدي أمام هكذا مشروع يستهدف طموحها العالمي، إذ إنها قد تُلقي بثقل أكبر خلف مشروعها وتزيد التمويل الذي من شأنه أن يحدَّ من تأثيرات الممر المقترح، وربما إحباطه، فضلًا عن مواصلة مساعيها لتعزيز تحالفاتها وتكتلاتها، مثل تكتُّلَي شنغهاي وبريكس، من جهة أخرى ربما يؤثر هذا المشروع، حال تفسير الصين له على أنه يستهدف طموحها ومكانتها الاقتصادية، في توتر علاقاتها ببعض دول المنطقة، والتأثير في شراكاتها المتنامية مع هذه الدول[10].
هكذا يمكن القول إن المشروع قد يدفع بالتنافس الجيو-سياسي في منطقة شرق آسيا باتجاه غربها بين الصين والولايات المتحدة، وذلك في ظل تقاطع ممرات الربط الدولي والمصالح المتضاربة للدول التي تمر بها هذه المشروعات العملاقة.
4. إمكانية تخفيف المأزق الأوروبي
فرضت الحرب الروسية-الأوكرانية، وقبلها تداعيات أزمة كوفيد-19، تحدياتٍ هائلةً على القارة الأوروبية، جعلتها تعيش مأزقًا غير مسبوق منذ بداية القران الحادي والعشرين، وذلك على خلفية الامتناع الروسي عن تصدير الغاز إلى أوروبا، كورقة ضغط ضد صُنَّاع القرار الأوروبيين لتقديمهم الدعم العسكري لأوكرانيا ضد روسيا، تحسبًا لحجم التداعيات المحتملة حال انتصار روسيا في الحرب ضد أوكرانيا على الأمن والاستقرار الأوروبي، ناهيك بالحاجة الأوروبية إلى الطاقة والتجارة، إذ كشفت التقارير الدولية أن الاتحاد الأوروبي يواجه نقصًا بالمليارات من الأمتار المكعَّبة من الغاز الطبيعي خلال عام 2023م.
يُتوقع أن يُسهم الممر -حال تنفيذه- في التخفيف من وطأة المأزق الأوروبي جراء الحرب في أوكرانيا، إذ وصفته المفوضية الأوروبية بـ«المشروع الإستراتيجي الضخم الرابط بين منطقة المحيطَين الهندي والهادي والمتوسط، ويتناغم مع الأهداف الأوروبية في خلق بدائل تجارية عالمية»، إذ سبق أن قرر الاتحاد الأوروبي تخصيص نحو 300 مليار يورو لأجل استثمارات البنية التحتية في الخارج خلال الفترة من 2021 إلى 2027م[11]، كما تتسابق أوروبا على سحب أوراق الضغط الاقتصادية من يد الروس، فبعد الطاقة -الغاز والنفط- وإن كانت توجد تحديات لا تزال قائمة، يأتي دور التجارة، رغبة من أوروبا في زيادة عُزلة روسيا، كما يعزز الممر الترابط بفواعل عربية وخليجية وآسيوية باتت فاعلة ومؤثرة في خريطة التفاعلات السياسية والاقتصادية الدولية، وبالتالي تفسير موقفها الداعم بشدة لتنفيذ الممر.
كذلك، قد تستفيد أوروبا من مواقف الأطراف المشاركة في الممر، وثيقة الصلة بالروس، في التأثير في الموقف الروسي من الحرب في أوكرانيا، بجانب توفير بديل تجاري مع الهند والسعودية والإمارات دون الحاجة إلى التجارة مع موسكو، لا سيَّما في ظل تعزيز التقارب الخليجي-الأوروبي خلال المرحلة الراهنة، وإمكانية تحقيق أوروبا مكاسب اقتصادية وتجارية تخفف حدة أزماتها، إذ يتيح لها الممر تعظيم صادراتها وتسهيل حركة سلاسل الإمداد بشكل أسرع وبطرق أقصر في الشرق الأوسط والقارة الآسيوية، وفي المقابل يتيح لها سرعة استيراد المنتجات الحيوية المطلوبة أوروبيًّا بشكل أسرع للغاية.
رابعًا. المواقـف وردود الفعل الدولية
تفاوتت ردود الفعل الدولية ما بين دول مُرحِّبة (الأطراف المباشرة صاحبة المصالح من تنفيذ الممر، والأطراف غير المباشرة الداعمة، ولها مصالح من تنفيذ الممر مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي)، ودول مشكّكة في إمكانية تنفيذه أو جدواه أو تداعياته على مستقبل ممراتها (مثل الدول التي تخشى على مصالحها وموقعها على خراطة الممرات العالمية، مثل الصين وإيران وتركيا وباكستان ومصر)، وفيما يلي أبرز مواقف الدول حيال المشروع:
1. الصـين
اعتبرت الصين مبادرة الممر الاقتصادي المقترح مبادرةً مُرحَّبًا بها[12]، كما رحَّبت بكين سابقًا بجميع المبادرات الإقليمية والدولية المماثلة، التي تسهم في مساعدة الدول النامية على تطوير وتعزيز بنيتها التحتية وربطها بالممرات الدولية، ما دام ذلك لا يمثل سلاحًا أو أداة تعزيز للجغرافيا السياسية لدول على حساب دول خارج نطاق الممر، لكن رغم الترحيب الرسمي الصيني بالممر، فإن القلق الجيو-سياسي لديها منه يبدو واضحًا في ما تناولته الأوساط الإعلامية والسياسية الصينية حياله.
ويُفهم القلق الصيني في سياق حدة التنافس الجيو-سياسي الدولي ووقوف الولايات المتحدة، القطب الدولي الأقوى الطامح إلى تطويق الصين عالميًّا والمتمسك بالأحادية القطبية ضد التعددية المنشودة من الصين، بشدّة وراء هذا المقترح، كما يُفهم أيضًا من كون بكين تمضي في تنفيذ ممر تجاري دولي مماثل عابر للحدود (الحزام والطريق)، الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ بنفسه عام 2013م، كخطوة جيو-سياسية استفادت منها بكين بشكل كبير في جوارها المباشر وغير المباشر في الشرق الأوسط وإفريقيا وكذلك في آسيا الوسطى، عبر حشد دعم كثير من الاقتصادات الناشئة، التي يُشار إليها غالبًا باسم (الجنوب العالمي)، وأدى ذلك إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الدول الواقعة في نطاقه، والعلاقات التجارية، والأهم تعزيز العَلاقات السياسية الإيجابية.
ترى بعض الأصوات الصينية أن الممر الهندي المقترح من الممكن أن يعيد تشكيل المناقشة حول المساعدة في مجال التنمية والبنية التحتية العالمية، وبالتالي تقويض الميزة النسبية للصين ومنافستها على الساحة الدولية، عبر خلق بدائل وخِيارات للمشروع الصيني، في المقابل، خالفت بعض الأصوات الأخرى الرأي السابق، واعتبرت أن الممر الجديد سيجلب حتمًا بعض المنافسة وسيكون له تأثير في مبادرة (الحزام والطريق).
لكن بشكل عام، قد يكون الممر الجديد مشروعًا مكمِّلًا للمشروع الصيني، في ظل سعي الجميع إلى إنعاش الاقتصاد العالمي، عبر تسهيل انتقال البضائع والتكنولوجيا والمواد الأساسية للصناعات، وربما فتح المجال أمام إسهام الشركات الصينية في الاستثمار والتعاقد على المشاريع الفرعية بتقديم المنتجات الأولية والخدمات التكميلية للمشاريع القادمة.
2. إيــران
عدَّت إيران الممر المقترح على أنه «ممر إضافي لجملة ممرات عالمية عديدة تحيط موقعها الجغرافي، غير أن عبوره بدول مجاورة دون مشاركتها فيه ما هو إلا استبعاد لإيران من مسارات الممر»[13]، ويعكس ذلك نظرة دولية سلبية لإيران ومؤهلاتها وبنيتها التحتية اللازمة للانضمام إلى الممرات العالمية، رغم امتلاكها موقعًا جيو-سياسيًّا مهمًّا وموارد مماثلين للموقع السعودي، لكن الفارق يظل في القدرة على خلق الميزات التنافسية من المواقع الجيو-سياسية بتأهيلها وإعدادها للربط العالمي وصناعة الدور المؤثر إقليميًّا ودوليًّا.
كذلك، تنظر إيران بتوجس أيضًا إلى تقدم منافسيها في المنطقة نحو تعزيز مواقعهم وتأمين اندماجهم في الاقتصاد العالمي ومسارات التنمية بشكل أسرع، مقابل فِقدانها القدرة على الاستفادة من مزايا موقعها الجغرافي في تأمين مكاسب اقتصادية وتجارية عبر المشاركة في مشاريع الممرات والتنمية الاقتصادية الدولية، ما يشكِّل تحديًا إضافيًّا جديدًا لإيران يُضاف إلى سلة الأزمات الداخلية والخارجية المتفاقمة لديها.
ويكشف استبعاد إيران من الممر المقترح أن النموذج الإيراني في الحكم خلَّف دولة غير مؤهلة للمشاركات الدولية التنموية، كون إيران أضحت دولة شديدة التأزم في الداخل وتعاني تداعيات الحصار الاقتصادي في الخارج، وسيطرة الذهنية الأمنية على قراراتها، لذلك تراجعت المكانة التنافسية لإيران بالنسبة لمشاركتها في الممرات الدولية، لأن أولويات تركيزها تتمثل في سياسات نووية وتوسعية، لا اقتصادية تنموية حضارية معاصرة لبناء المواطن والوطن، وبالتالي أصبحت إيران تفتقر إلى مؤهلات الدور المطلوب لممرات العالم الاقتصادية، ومن ثمَّ لم تحظَ بإعجاب الدول الفاعلة في صناعة الممرات، وتراجعت أولويتها على عديد من المشاريع العالمية السابقة مثل ممر «الشمال-الجنوب» و«الحزام والطريق» وممر «زنغزور»، رغم موقعها الجيو-سياسي ومواردها وفرصها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية الواعدة[14].
وقد يشكل الممر المقترح وغيره من الممرات مدعاةً لإيران للتركيز على الداخل وإعداد بنية تحتية ملائمة وتطوير الاقتصاد بدلًا من دعم المشاريع التوسعية التي لربما لم تكن إلا أحد أسباب تراجع أهميتها على الخريطة اللوجستية العالمية.
3. تركـيا
عبَّرت أنقرة عن موقفها من الممر المقترح بتصريح رسمي للرئيس رجب طيب أردوغان يعارض فيه فكرة الممر، الذي بصيغته الراهنة «يتجاوز تركيا»[15]، واعتبر أردوغان بلاده «الأكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب»، معارضًا مقترح الممر بشكل واضح، بقوله: «لن يكون ذلك الممر دون تركيا، والخط الأكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب هو الخط العابر من تركيا»[16]، وأعاد تأكيد مقترح سابق بإنشاء ممر بديل يربط دول الخليج العربية بأوروبا عبر العراق وتركيا تحت اسم «طريق التنمية»، وهو ما حاول أردوغان شخصيًّا ترويجه خلال جولته الأخيرة في بعض دول الخليج العربية، مثل السعودية والإمارات وقطر.
يُفهم الموقف التركي في سياق الحسابات الجيو-سياسية التركية تجاه الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي، مقارنة بـ«طريق التنمية»، فبما أن الأول تجاوزها، فهي ترجح كفة «طريق التنمية» الذي طرحه العراق في مايو 2023م، فهي دولة مركزية رئيسة على الطريق الذي يبدأ من ميناء «الفاو الكبير» بالبصرة، ويمر بـ10 محافظات عراقية (انظر خريطة رقم 2)، وصولًا إلى تركيا، وفي المستقبل إلى أوروبا، ويضم -حسب المقترح- بجانب العراق (السعودية وتركيا وسوريا والأردن والكويت والبحرين وقطر والإمارات وعُمان وإيران).
مقارنة بالممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي من حيث الدول المشاركة القوية وتوافر معدلات الاستقرار والتمويل والبِنى التحتية المتطورة، يواجه «طريق التنمية» تحدياتٍ متعددةً تتقدمها تلك التي تواجه الدولة المقترحِة للمشروع ذاتها، وهي الدولة العراقية، إذ لا تزال تعاني أزماتٍ سياسية واقتصادية وأمنية، فضلًا مرور المشروع بالمناطق المتنازَع عليها بين حكومة بغداد وإقليم كردستان العراق، وتحديات أمنية على خلفية انتشار السلاح المنفلت، والرفض المتوقع لقبول المليشيات المسلحة تسليم إلقاء السلاح، ما من شأنه يخوِّف بقية الدول الواقعة في نطاق المشروع من إمكانية نجاحه، كذلك توجد تحديات متعلقة بمصادر تمويل المشروع، والمواقف المتباينة المحتملة للدول الواقعة في نطاقه، إذ ستجد لكل دولة موقفًا مختلفًا من المشروع يرتبط بحساباتها الخاصة لمعدل الربح والخسارة من المشروع، فضلًا عن الصراعات والأزمات المعقدة بين كثير من الدول المقترَح مشاركتها في «طريق التنمية»، كما أن البِنى التحتية في بعض هذه الدول متهالكة على خلفية الصراعات السياسية والمذهبية التي مُنيت بها لسنوات ولا تزال.
خريطة رقم (2): طريق التنمية المقترح
المصدر: https://cutt.us/Bg8T3
4. باكسـتان
تنظر باكستان[17] إلى مسألة عدم تضمينها في الممر المقترح بريبة وتوجس لاعتبارات تتعلق بمساعي حكومتها إلى فتح الحدود والتجارة مع الهند بُغية جعل إسلام آباد مركزًا للنقل اللوجستي والتجاري في قلب المشاريع اللوجستية والتجارية العالمية المتعددة، كما تتعلق أيضًا بخشية باكستان من تأثرها سلبًا بالانعكاسات المحتملة على مستقبل المشروع الصيني العابر للحدود «الحزام والطريق»، إذ تُعدُّ باكستان ضمن المشروع الصيني.
وفي سياق تنامي العَلاقات الهندية-الخليجية وتعزيزها بمشاريع ربط اقتصادية طموحة، فهو تقارب لا تحبّذه باكستان ولا تفضّله، خشية التأثير في عَلاقتها الثنائية مع الدول الخليجية الفاعلة، لا سيّما في ظل التنافس التاريخي بين إسلام آباد ونيودلهي في جذب الدول الخليجية إلى طرف على حساب آخر.
5. مصــر
أثار الممر المقترح جدلًا بشأن مدى تأثيره في مستقبل قناة السويس المصرية، التي تربط الشرق بأوروبا، ويمر من خلالها قرابة 13% من التجارة العالمية، وهي نسبة لا يُستهان بها قياسًا بباقي الممرات الدولية، مع مرور نحو 22% من تجارة الحاويات العالمية.
ونظرًا إلى اختلاف طبيعة وتكلفة النقل في ما بين الممرين، نظرًا إلى ضخامة عدد وحجم الحاويات المنقولة بواسطة الناقلات البحرية العملاقة وانخفاض تكلفتها بدرجة كبيرة، مقارنة بالمنقولة برًّا أو بالقطارات، فقد أشار عديدٌ من النقاشات المتداولة في الأوساط الإعلامية المصرية إلى أنه «لا يمكن اعتبار الممر المقترح منافسًا قويًّا لقناة السويس، لكن من الممكن أن يقلص حركة النقل عبرها بشكل بسيط»، فيما لا ترى أنه سيكون بديلًا عنها أو يؤثر فيها سلبيًّا بصورة كبيرة.
خامسًا. تحـديات محتملة لتنـفيذ الـممر
رغم حجم الفرص المتاحة للمضي قُدُمًا في تنفيذ الممر المقترح، فمن المحتمل أن يواجه المشروع تحدياتٍ بأبعاد مختلفة، سياسية واقتصادية وأمنية، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1. تحـديات سياسـية
ينافس الممر المقترح الطريق الصيني، وهو من جهة يتيح لبعض الأطراف، على غرار السعودية، تنويع خياراتها والاستفادة من المشروعَين بما يخدم مصالحها الاقتصادية، سواء كمنتج أو مستهلك أو ترانزيت[18]، ولكن في المقابل ستحدث تجاذبات بين القوى الأخرى المتنافسة، فالأرجحُ خلال السنوات المقبلة سيجري تدشين تحالفات ومنظمات جديدة على خلفية تطورات خريطة الممرات العالمية، وسيترتب عن ذلك تنافس يحاول فيه كل تحالف إضعاف المشاريع المنافسة له بمختلف الأدوات والأساليب، مما قد يحول دون تحقيق المشروع لأهدافه.
كثير من الأطراف العالمية ترى نفسها متضررة من الممر المقترح، حال تنفيذه، مثل الصين وإيران وتركيا وغيرها، وهذه الدول منفردة أو مجتمعة لديها القدرة على خلق أطر تعاون بديلة، كما ستكون للمشروع انعكاسات على التحالفات السياسية القائمة، بحيث تدفع الأطراف المتضررة للبحث عن مصالحها مع قوى أخرى، وفي ظل التنافس مع المشروع الصيني فإن البدائل قد تكون متوفرة ومستعدة لتقديم امتيازات لإفشال الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي.
ومهما حاولت أطراف المشروع حصره في إطار الحسابات الاقتصادية، فإن فصله عن الأبعاد السياسية سيكون في غاية الصعوبة، ويعد غياب الرئيسين الصيني والروسي عن اجتماعات قمة العشرين أحد مؤشرات تأثير السياقات الجيو-سياسية، إذ يُعدُّ المشروع في أحد أبعاده تهديدًا غير مباشر لمصالح الصين وروسيا، كونه يتيح طرقًا جديدة تنافس الطريق الصيني، ومن شأنها تزويد أوروبا بالطاقة، مما يخصم من أهميتها الجيو-سياسية بالنسبة لروسيا وقدرتها على توظيف البُعد الجيو-اقتصادي في تنافسها مع أوروبا، كما حدث عند بداية الحرب مع أوكرانيا، ولا يُستبعد من هذا المنطلق أن تستغل استياء الأطراف المتضررة والدخول معها في تحالفات ترمي من ورائها إلى تقويض فرص نجاح الممر المقترح.
2. تحـديات اقتـصاديـة
عامل التكلفة المالية المرتفعة لمثل هذه الممرات يشكِّل تحديًا مهمًّا أمام تقدمه، خصوصًا في أوقات الكساد الاقتصادي أو تراجع أسعار النفط عالميًّا، ونحن نتحدث هنا عن ضرورة توفير مئات المليارات من الدولارات لجلب أعداد كبيرة من القطارات الحديثة ومدّ خطوط سكك حديدية وتركيب كابلات كهربائية وأنابيب نقل الطاقة وخطوط ألياف رقمية لآلاف الكيلومترات، علاوة على تطوير البِنى التحتية البحرية والبرية على طول الممر، الأمر الذي يحتاج إلى وضع خطط مالية وزمنية محددة وواضحة لضمان التزام تنفيذ هذا المشروع الحيوي.
كذلك، نقل البضائع عبر القطارات، وإنْ كان أسرع ويختصر الوقت، فليس بالضرورة أن يكون أقل تكلفة، بالمقارنة بالنقل البحري للحاويات الذي يمثل 90% من حجم التجارة العالمية، لكون النقل البحري يشحن كميات هائلة من الحاويات في الناقلة الواحدة، مما يقلل من تكلفة نقل الحاوية الواحدة مقارنة بالقطار، إضافة إلى الحاجة إلى التفريغ والشحن مرتين إضافيتين حال تنفيذ الممر المقترح، الأولى في مواني الخليج العربي بعد الوصول من الهند، والثانية في الميناء الإسرائيلي قبل التوجه نحو القارة الأوروبية، والعكس كذلك.
لكن على الجانب الآخر، فإن النقل بالقطارات يوفر مزايا نقل سريع لمنتجات أخرى سريعة التلف أو منتجات خفيفة الوزن ومرتفعة الثمن، علاوة على استفادة دول الخليج العربي منه بدرجة أكبر، خصوصًا السعودية، في تأمين أمنها الغذائي وتقليل تكلفة وارداتها الغذائية من الهند عبر النقل السريع لوارداتها من الهند من مواني التسلُّم الشرقية على الخليج العربي حتى الأسواق الاستهلاكية الكبرى في الرياض وأبو ظبي ودبي، إذ لا حاجة هنا إلى إعادة الشحن والتفريغ البحري مرة أخرى، ناهيك بمزايا عدة للممر جرت الإشارة إليها سابقًا.
3. تحدّيـات أمنـيَّة
طول الممر قد يواجه بعض التحديات الأمنية، فالممر قلبُه منطقة الشرق الأوسط المحمَّلة بأزمات وصراعات، منها صراعات محتدمة بين بعض الدول المشاركة وأطراف إقليمية أو دولية أخرى مثل الصراع بين إسرائيل وإيران وبين إسرائيل والأذرع الإيرانية، وبالتالي قد تكون أجزاء من الممر في مرمَى الأهداف الإيرانية وأذرعها، حال أي مواجهات محتملة، كما تتقاطع حوله مصالح عديدٍ من الفواعل الإقليمية والدولية القابلة للتصعيد في أي وقت لحماية تلك المصالح.
ومن بين التحديات أيضًا أن المواجهة والتنافس بين داعمي الممرات المتنافسة لا تقتصر عليهما بشكل مباشر، إذ يمكن أن تفتح جبهات في مناطق مختلفة يكون الهدف الحقيقي منها هو ضرب أحد الممرات للآخر، خصوصًا أن الهند والصين تتداخلان في بعض مناطق النفوذ في آسيا.
كذلك، حال وجدت إيران نفسها معزولة عن كل هذه المشاريع الاقتصادية وتفاقمت أزماتها السياسية والاجتماعية، فإنها قد تعود إلى المربع الأول، وتُوتِّر عَلاقاتها مع السعودية بشكل خاص لتخريب كل هذه المشاريع.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التطورات التكنولوجية تقلل أهمية البُعد الجغرافي للتأثير في الممر، إذ لا يُستبعد أن توجِّه جماعات ومليشيات مسلحة تابعة لإيران أو غيرها ضرباتٍ للممر عبر الصواريخ والطائرات المسيّرة التي باتت أكثر استعمالًا في الحروب خلال السنوات الأخيرة.
الخاتمة والنتائج
تتزايد أهمية معيار مواقع الدول الجيو-سياسية على خارطة الممرات التجارية واللوجستية العالمية، باعتبارها باتت ضمن سلة المؤشرات الهامة إلى مقاييس قوة الدول، ونجاح نموذجها في الحكم والإدارة، وامتلاكها أدوات تأثير إقليمية ودولية، وزيادة ثقلها في إستراتيجيات كبار اللاعبين الدوليين، باعتبارها رقمًا مهمًّا لا يمكن تجاوزه عند رسم سياسات مستقبل الإقليم والعالم، وفيما يلي أهم النتائج التي تم التوصل إليها:
1. تعاظُـم الحضــور المـؤثـر للسعودية مـن الإقليمـي إلى العالمـي
بنفس القدر الذي كشفت فيه معطيات الدراسة إدراك الأقطاب الدولية أهمية ضم الفواعل العربية والخليجية المؤهلة والمستقرة لممراتها العالمية لضمان فاعليتها، كشفت أيضًا أن المملكة من الدول المستقرة المؤهلة لربطها بالممرات العالمية، بحكم ميزاتها التنافسية الفريدة، التي سعت القيادة إلى تعزيزها وتعظيم تأثيرها في الخريطة العالمية من خلال سياسة رشيدة في الداخل جلبت الأمن والاستقرار، وسياسة متوازنة في الخارج عززت ثقة كبار الشركاء الدوليين، ومن ثمّ باتت الميزات التنافسية التي تمتلكها المملكة العربية السعودية محطَّ أنظار الفواعل الدولية، بما يجعلها دولة مركزية، ليس فقط في رسم مستقبل الشرق الأوسط، بل في تعاظم حضورها المؤثر في الساحة الاقتصادية والسياسية الدولية، بفضل رؤيتها الطموحة وتوافر متغير الإدراك لدى قيادتها لكيفية تحويل ميزاتها التنافسية إلى مؤثرات خارجية تعظّم مكانتها ودورها في مجريات الشؤون الإقليمية والدولية، فقد أعاد الممر المقترَح الضوءَ إلى تموضع الموقع الجيو-سياسي السعودي في ممرات التجارة الدولية.
2. انتقال الفواعل العربية مـن طـَوْر التكيُّف مع السياسات إلى صانع لها
كشفت الدراسة أيضًا عن خطوة مهمة في مسيرة تبديد القواعد التقليدية، المتمثلة في تكيُّف الدول العربية مع السياسات الدولية ذات الصبغة الغربية المنفردة، وإن كانت أوّلية، غير أنها تبعث برسائل أمل للدول العربية بانتقالها من طَوْر التكيُّف مع عالم يصنعه الآخرون إلى طَوْر المشاركة، بل والمبادرة في صناعة عالم لا يمكن أن يصنعه الآخرون بمفردهم، وإنما تشارك فيه بعض الفواعل العربية والخليجية، فلقد انتزعت المملكة العربية السعودية، وهي الدولة العربية الوحيدة في مجموعة العشرين، حقَّ المشاركة في صناعة مستقبل الإقليم والعالم، بعد أن أهَّلتها الرؤية لبناء شراكات إستراتيجية مع اللاعبين الدوليين الكبار المؤثرين في مجريات الشؤون الدولية، مثل الولايات المتحدة والصين والهند والاتحاد الأوروبي، فقد انتقل الدور السعودي في قمة العشرين من طَوْر المشاركة إلى دور الصُّنع والمبادرة.. وبالتبعية فإن مركزية صناعة قرارات مستقبل العالم لم تعد ترتسم فقط في أروقة الأمم المتحدة وأجهزتها، بقيادة أمريكية في مقدمتها مجلس الأمن الدولي، وإنما انتقلت إلى أروقة منظمات وهيئات دولية أخرى، مثل مجموعة العشرين وتجمع بريكس ومجموعة الدول السبع الصناعية.
3. صناعة النماذج والأدوار الخارجية باعتبارها معيارًا لقـوة الدول
من أبرز النتائج التي توصلت إليها الدراسة، إضافة إلى تحولات في مقاييس قوة الدول في ظل التحولات الدولية الكبرى، أن مستقبل العالم لا يمكن أبدًا أن يُصاغ فقط من خلال مقياس حجم القوة العسكرية المتاح للدول، وإنْ كان لا يزال مؤشرًا مهمًّا في أثناء الحروب، وإنما يُصاغ بالقدرة على صناعة أو صياغة الأدوار والنماذج، ليس من خلال سياسات من شأنها تدمير إمكانات الدول وإضعافها لصعود تلك الدولة، وإنما عبر إستراتيجية حضارية وتنموية طموحة تركز على كيفية تحويل مقدرات الدولة إلى مؤثرات خارجية، بداية ببناء الإنسان بالأساس والتطور التكنولوجي والابتكار ومحاربة البطالة والفقر والفساد وتوفير السلع والتجارة الخارجية واحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها، وبذلك تكون المملكة قدَّمت نموذجًا مغايرًا وضربت مثلًا فريدًا للفواعل الإقليمية والدولية في كيفية صناعة الدور والنموذج من خلال الإمكانات والموارد الوطنية المتاحة، لا من خلال العبث بمقدّرات وموارد الدول والشعوب الأخرى.
4. تعـاظُـم فرص تنفـيذ الممـر مقــارنـة بحجم معـوقاتـه
تفيد معطيات الدراسة بأن فرص تنفيذه أكثر بكثير من معوقاته، بالنظر إلى ثقل ومكانة الدول المشاركة في الممر الضخم على الخريطتين الاقتصادية والسياسية عالميًّا، والانسجام النسبي بين الدول المشاركة وحاجتها الإستراتيجية إلى تنفيذ الممر لما له من مكاسب وتداعيات جيو-سياسية عالمية مهمّة، قد تؤدي إلى تعزيز مكانتها على الساحة الدولية.
ومما يدل على ذلك اتفاق الأطراف كافة، قبل مغادرتهم الهند، على ضرورة التوصل إلى «خطة عمل» سريعة للمشروع، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية وقوع تحولات دولية جديدة ومفاجئة قد تؤثر في قرارات الدول نحو تنفيذه والإيفاء بتعهداتها.
5. إمكانية رفع حرارة التنافس الجـيو-سـياسي العالمي
لربما يكون غياب الصين عن اجتماع قمة العشرين -حسب معطيات الدراسة- له عَلاقة بما تعتقده بكين بأن الغرب الأوروبي والأمريكي يعمل على نقل التنافس الجيو-سياسي الدولي إلى الساحة الآسيوية بين القطبين الصيني والهندي، بتعزيز القوة الهندية والدور الهندي في الدائرتين الآسيوية والعالمية، حتى يتحول «الحلم الهندي» إلى أقوى منافس لـ«الحلم الصيني» من واقع ثقلها البشري والتكنولوجي، وهذه النقطة بالتحديد تُحسب للولايات المتحدة وتكشف أنها لا تزال تحتفظ بأوراق قوة، وتأتي استكمالًا -كما ترى الصين- لسياساتها في نسْج توافقات بين القوى الآسيوية الحليفة لأجل حرمانها من ميزة «مصنع العالم»، بالرهان على تعزيز القوة الهندية وقوة الدول الحليفة ضد بكين، وليس مصادفةً أن تكون فيتنام المحطةَ الثانيةَ ضمن محطات زيارة الرئيس جو بايدن بعد نيودلهي، وبالتالي تعزيز حدَّة المنافسة في الاقتصاد العالمي بين محاور وممرات اقتصادية ولوجستية عالمية.
6. تحـدٍّ إضافـيٌّ إلى حزمة التحديات الهائلة المواجهة لإيران
كشفت الدراسة أيضًا عن تحدٍّ خارجيٍّ إضافي لإيران، يتمثل في عدم امتلاكها المؤهلات المطلوبة للانضمام إلى المحاور اللوجستية والتجارية العالمية، رغم موقعها الجيو-سياسي ومواردها الهائلة، وقد يرجع ذلك إلى أولويات نموذج الحكم والإدارة في إيران، فقد خلّف النموذج دولة مثقلة بالأزمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والأمنية في الداخل، مع إيلائه الأولوية لبقاء النظام لا للمواطن، الذي شكَّل أولوية أولى في الرؤية السعودية، كما يظهر ذلك من تداعيات العزلة والحصار المكبّل للاقتصاد الإيراني، لذلك تراجعت مكانتها التنافسية بالنسبة للممرات الاقتصادية واللوجستية العالمية، مثل ممر «الشمال-الجنوب»، وتضاءلت فرص إيران على طريق «الحزام والطريق» الصيني، مع استبعادها من الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي، لأنها ببساطة لم تكن مؤهّلة لا من حيث البنية التحتية ولا المالية ولا استغلال الفرص الاستثمارية.
أخيرًا، فإن إعداد النماذج لصناعة الأدوار الخارجية المؤثرة عالميًّا يحتاج إلى قيادة يتوافر فيها عنصر إدراك المقدَّرات النسبية والميزات التنافسية للدولة، بل ولكيفية تحويلها من كامنة إلى نشطة، شريطة أن تعظّم هذه القيادة مكانة وثقل دولتها في المحيطين الإقليمي والدولي ليدركها الآخرون في الإقليم والعالم -كما هو الحال في المملكة العربية السعودية- التي تبدو قوة صاعدة ومؤثرة بفضل تعاظم أدوات تأثيرها وأوراق ضغطها الإقليمية والدولية، وذلك من خلال رؤية وطنية طموحة تعتمد على اقتصاد ديناميكي ومستقر، وسياسات حكيمة ورشيدة تراعي مصالح الداخل أولًا، وتعزز علاقاتها بالخارج اعتمادًا على مبادئ حُسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الغير، والسعي إلى تحقيق طموحات كبرى لغرض النموذج العالمي.
[1]– The white House, Memorandum of Understanding on the Principles of an India – Middle East – Europe Economic Corridor, (SEP 09, 2023), Accessed on: https://cutt.us/TCfhb
[2] – العربية، إصدار أول رخصة صناعية في أوكساجون لشركة «نيوم للهيدروجين الأخضر»، (01 فبراير 2023م)، تاريخ الاطلاع: 18 سبتمبر 2023م، https://cutt.us/XRCjM
[3]– سكاي نيوز، قمة العشرين: «الممر الاقتصادي» بموازاة «الحزام والطريق»!، (11 سبتمبر 2023م)، تاريخ الاطلاع: https://cutt.us/zoqNo
[4]– IMF, The direction of trade statistics, Exports and imports by areas and countries, Accessed: 15 Sep. 2023. https://cutt.us/cBh2c
[5]– International Chamber of Shipping, Shipping and World Trade: World Seaborne Trade, Accessed 16 Sep. 2023. https://cutt.us/CidJk
[6]– IMF, World Economic outlook: A rocky Recovery, April 2023. P: 120.
[7] -Abdel Aziz Aluwaisheg, The far-reaching implications of the India-Middle East-Europe Economic Corridor, Reuters (September 12, 2023), accessed September 19, 2023, https://arab.news/v3dz5
[8]– Ibid.
[9] – Ahmed Aboudouh, An India–Middle East–Europe corridor is unlikely to boost Saudi–Israel normalization, the guardian , (15 SEPTEMBER 2023), accessed September 19, 2023, https://www.chathamhouse.org/2023/09/india-middle-east-europe-corridor-unlikely-boost-saudi-israel-normalization
[10] -Mihir Sharma, This Silk Road May Actually Lead Somewhere, Bloomberg , (September 14, 2023), accessed September 19, 2023, https://www.bloomberg.com/opinion/articles/2023-09-13/india-middle-east-europe-infrastructure-corridor-is-smart-geopolitics#xj4y7vzkg
[11] – إندبندنت عربي، دعم أمريكي-أوروبي لممر يربط الهند بالشرق الأوسط، (09 سبتمبر 2023م)، تاريخ الاطلاع: 17 سبتمبر 2023م، https://cutt.us/e2fJj
[12]– The Economic Times, China says it welcomes India-Middle East-Europe Economic Corridor so long it doesn’t become a geopolitical tool, 12 Sep 2023, Accessed: 13 Sep 2023. https://bit.ly/3raIXCb
([13]) اقتصاد ۲۴، حذف ایران از مسیر جاده ابریشم و مسئولان سرمست از توافقهای موقت/ محروم ماندن ایران از سه کریدور شمال، غرب و جنوب، 21 شهريور 1402ه.ش. تاريخ الاطلاع: 13 سبتمبر 2023م. https://bit.ly/3rl4gkr.
[14]– د. محمد بن صقر السلمي، السعودية وإيران على خارطة الممرات الاقتصادية العابرة للحدود، مقال، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، (19 سبتمبر 2023م)، تاريخ الاطلاع: 20 سبتمبر 2023م، https://cutt.us/vPtSi
[15] Middle East Monitor, Erdogan says no India-Mideast- EU economic corridor without Turkey, 12 Sep 2023, Accessed: 12 Sep 2023. https://bit.ly/3rmJCAg.
-[16] وكالة أنباء الأناضول، أردوغان: تركيا الأكثر ملاءمة للممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا، (11 سبتمبر 2023م)، تاريخ الاطلاع: 16 سبتمبر 2023م، https://cutt.us/BAA07
[17] India Posts English, Why did Pakistan get upset due to India’s proximity to Saudi Arabia?, 12 Sep 2023, Accessed 13 Sep 2023. https://bit.ly/3LtoCPn.
[18] يشير الكاتب عبد الرحمن الراشد إلى أن السعودية تبيعُ مليونَي برميل نفط للصين، ونحو مليون برميل للهند.. ويمثل البلدان اليوم، وإلى سنوات مقبلة، أكبر سوقين للرياض. فالهندُ ستزيد استيرادها البترولي من 5 إلى 7 ملايين برميل يوميًّا في 2030م، بخلافِ ما يعِد به رئيس الوزراء بتخفيض استيرادِ بلاده إلى النصف.. التقديراتُ تقول العكس: ستزداد وارداتُها بنسبة النصف، وسيزداد تنافس القوى الصاعدة على مصادر البترول الجغرافية، والخليج تحديدًا، فهي ركنٌ أساسيٌّ في خططِ السياسات العليا للدول الكبرى إلى منتصف القرن الحالي.. ينظر: عبد الرحمن الراشد، منطقتنا بين حزام الصين وممر الهند، الشرق الأوسط، 11/09/ 2023، شوهد في (18/09/2023)، على الرابط: https://2u.pw/XyGsUkl