تداولت وسائل الإعلام على نطاق واسع، مشهدَ انتظام حركة الملاحة الجوِّية في أجواء المملكة العربية السعودية، في أعقاب التصعيد الإيراني ضدّ إسرائيل. وتحمل الصورة أعلاه، جُملةً من المعاني والدلالات بالغة الدقَّة والتعبير على ملامح الشرق الأوسط الملتهب، على خلفية تصاعُد المواجهات العسكرية الإيرانية-الإسرائيلية المباشرة، حيث تعبِّر الصورة دون أدنى شكّ عن أنَّ الأجواءَ الجوِّية السعودية الآمنة في الشرق الأوسط، قد شكَّلت طوقَ النجاة لشركات الطيران العالمية؛ لتسيير رحلاتها الجوِّية بشكل آمن أثناء الهجمات الإيرانية المسلَّحة ضدّ إسرائيل، والتي اضطرَّت خلالها العديدُ من الدول الواقعة ضمن نطاق المسرح العملياتي للتصعيد بين إيران وإسرائيل إلى إغلاق مجالاتها الجوِّية، مثل العراق وسوريا ولبنان والأردن، وغيرها. لذلك، لجأت خطوط الطيران العالمية إلى الأجواء الجوِّية شمال المملكة؛ لتجنُّب مناطق وبؤر التوتُّر المشتعلة، كما يتّضِح من الصورة أعلاه.
ولعلَّ من المُنصِف أن تتِم مناقشة دلالات لجوء هذا الحشد الكبير من الطائرات إلى أجواء المملكة، وما تمثِّلهُ السعودية من أهمِّية في الميزان الدولي، والتي يمكن إبرازها فيما يلي:
أولًا: نظرة القُوى الدولية للمملكة كواحة للأمان في الشرق الأوسط
بمثل ما أربك التصعيد الإيراني-الإسرائيلي حركةَ الملاحة الجوِّية في منطقة الشرق الأوسط، إلّا أنَّه أعاد التأكيد على أنَّ المملكة العربية السعودية هي دولة ذات تأثير مركزي وسط تقلُّبات الظروف الجيوسياسية الدولية، وأنَّها المعبر الآمن لحركة العالم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بحُكم موقعها الجغرافي الرابط بين الشرق والغرب. كما كشَفَ احتشادُ العدد الكبير من الطائرات التابعة لمختلف شركات الطيران العالمية، عن حنكة القيادة السعودية في قراءة المتغيِّرات والاضطرابات الإقليمية والدولية، وما حملتهُ من ثوابت وروافع قائمة على تقديم مبادئ الدبلوماسية وتعزيز الحوار والتعاون، من خلال تبادُل الآراء والتنسيق والتباحث بين الدول كطريق أمثل لتعزيز السلم والأمن، والابتعاد عن الاستقطابات الدولية الشديدة والتقلُّبات السياسية، والحدّ من حالات التوتُّر العالِقة على المستوى العربي والإقليمي والدولي، والتي خلَّفت في الواقع بيئةً سياسيةً مُقلِقة أثَّرت إنسانيًا وأمنيًا واقتصاديًا، ليس فقط على دول منطقة الشرق الأوسط، بل على العالم أجمع.
ثانيًا: تمكُّن القيادة السعودية من حفْظ الاستقرار في ظل التطوُّرات العالمية المضطرِبة
يقدِّم اختيارُ خطوط الطيران العالمية للأجواء السعودية كقبلة للمرور الآمن، دليلًا دوليًا إضافيًا جديدًا على قُدرة القيادة السعودية على إرساء الأمن والاستقرار، وتحويل المملكة إلى واحة أمان ونموذج تنموي صاعد في الشرق الأوسط؛ ما يعكس قوَّة الدولة السعودية وقوَّة أجهزتها الأمنية في تحقيق الأمن. ولم تكُن حزمة التحدِّيات الأمنية التي واجهت المملكة وتمكَّنت من تحييدها، هيِّنةً أو قليلة، حيث تمكَّنت -نتيجةَ الحُكم الرشيد لقيادتها- من تحييد تداعيات التحدِّيات الأمنية المتصاعِدة في الشرق الأوسط، والقضاء على الإرهاب والفكر المتطرِّف في الداخل، وتحقيق التناغم والانسجام الداخلي بين الملايين من الوافدين المختلفين عِرقيًا ودينيًا وقوميًا، وإدارتها الناجحة في الحشود الضخمة التي تضُمّ ملايين المعتمرين والحُجّاج سنويًا، وغيرها من النجاحات الأمنية، التي تشي بوجود قيادة رشيدة استطاعت أن تنسِجَ من وسط كل التحدِّيات، وضعًا أمنيًا مستقِرًّا، جعلها تحظى بثِقَل الفواعل الإقليمية والدولية في العديد من المجالات.
ثالثًا: سياسة «الحياد الإيجابي» وتأثيرها على نظرة الدول للمملكة كبقعة آمنة في إقليم مضطرِب
كذلك تكشف الصورة عن دور «الحياد الإيجابي»، الذي تتبنَّاهُ المملكة ضمن «رؤية 2030»، في تعزيز الأمن والاستقرار بالمملكة، بل وفي نظرة المجتمع الدولي للمملكة على أنَّها بقعة جغرافية آمنة؛ نظرًا لأهمِّية الأمن والاستقرار، باعتباره يتقدَّم قائمةَ المتطلَّبات الأساسية لتجسيد التطوُّر الاقتصادي المنشود ضمن الرؤية الطموحة. وقد أثبتت في العديد من المحطَّات الحاسمة، أنَّ الحياد الايجابي المتناسق مع المصلحة الوطنية هو خيارٌ إستراتيجي وليس تكتيكيًا للمملكة، وكان الموقف السعودي من الحرب الروسية-الأوكرانية، ثمَّ الاتفاق مع إيران برعاية صينية تجسيدًا عمليًا لهذا النهج، وهو ما أكسبها ثِقة القُوى الدولية والإقليمية.
ضمن سياسة «الحياد الإيجابي»، لعِبَت المملكة منذ البدايات الأولى للحرب في غزة دورًا دبلوماسيًا بارزًا في المحافل الدولية، لموقفها الرافض لتحوُّلها إلى حرب إقليمية يخشاها الجميع، بدعوتها المجتمع الدولي إلى ضرورة تحمُّل مسؤولياته في حل المشكلة من جذورها، عبر منْح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، وفي مقدِّمتها إقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة. ويُعتبَر تغيير خطوط الطيران الدولي لمساراتها نحو المجال الجوِّي السعودي، أثناء الهجمات الإيرانية ضدّ إسرائيل، نموذجًا يعكس مدى نجاعة «الحياد الإيجابي»، الذي تمارسهُ المملكة.
وإذا كان «الحياد الإيجابي» السعودي في السابق ضرورةً داخلية، مرتبطة بأجندة وطنية خاصَّة بالمملكة، فإنَّه في خِضَمّ الانفجار الذي تشهدُه منطقة الشرق الأوسط حاليًا، بات ضرورةً مُلِحَّةً للفواعل الإقليمية والدولية، والتي من مصلحتها بقاء المملكة العربية السعودية بعيدةً عن الحروب، التي تدفع إليها المنطقة؛ نظرًا للأهمِّية الجيوسياسية للمملكة، وقُدراتها في مختلف المجالات، التي تمكِّنها من ترجيح كفَّة الصراعات في حالة الانخراط فيها أو التأثُّر بها، وأيضًا التكلفة التي ستكون كبيرةً للغاية على الاقتصاد الدولي، وذلك ليس بسبب خسارة النفط السعودي فحسب، وإنَّما أيضًا لتضرُّر مختلف أشكال التجارة الدولية، التي يمكن للمملكة أن تقوم بأدوار بديلة فيها بحريًا وجوِّيًا وبرِّيًا.
رابعًا: دور المملكة في صناعة السلام وإدارة الأزمات والمخاطر الدولية
الشواهد على قوَّة المملكة وكفاءتها في التحكُّم وإدارة الأزمات على الساحة الإقليمية والدولية بكُلِّ احترافية كثيرة، فقد واصلت دعمها غير المحدود للفقراء والمتضرِّرين من الحروب والكوارث الطبيعية في مختلف أنحاء العالم. في أبريل 2023م، قامت بجهود ملموسة لمساعدة وإجلاء آلاف المواطنين من مختلف دول العالم، خلال تفجُّر الأزمة السودانية. وقبل ذلك، مثَّلت جائحة «كوفيد-19» أزمةً عالميةً شائكة، وتمكَّنت الدولة السعودية من الاضطلاع بدور ريادي مهم في تقليل تداعيات هذه الأزمة العالمية، والخروج بحلول ذات تأثير فاعل على المستوى المحلِّي والإقليمي والدولي. الحضور المتوازن للنهج السعودي في التعامل مع الحرب الروسية–الأوكرانية وأزمة الطاقة العالمية، بجانب إدارة ملفَّات علاقاتها الخارجية مع إيران واليمن، وصولًا إلى سعيٍ أخويٍ دبلوماسي في تعزيز الاستقرار في العلاقة بالعراق واستهداف استعادة سوريا إلى الفضاء العربي، حتى فيما يتعلَّق بالوضع الدائم المتأزِّم في لبنان، هي أمثلةٌ تُشير إلى صعود القوَّة السعودية ودورها الريادي في إدارة الأزمات والمخاطر الدولية، والمُضي قُدُمًا في تقليل المخاطر والأزمات، التي يمُرّ بها العالم، والمساهمة في بسْط الأمن والاستقرار، ويدُلّ على أنَّ المملكة شريكٌ دوليٌ مهم في شتى المجالات لا يمكن الاستغناء عنه.
خامسًا: نيل المملكة ثقة المجتمع الدولي لتتحوَّل إلى قلب خارطة المحاور اللوجستية
كما حَظِيت المملكة العربية السعودية مع بقية الدول الخليجية، خلال الفترة الأخيرة، بثقة المجتمع الدولي؛ لتتحوَّل إلى قلب المحاور اللوجستية، خاصَّةً في مجالات النقل والترانزيت؛ لكونها تشهدُ استقرارًا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، وتتمتَّع ببنية تحتية متقدِّمة تمكِّنها من لعِب أدوار مؤثِّرة مقارنةً ببقية القُوى الإقليمية. حيث أبدت دولُ آسيا الوسطى خلال قمّتها مع دول الخليج، والتي استضافتها مدينة جدة السعودية في يوليو 2023م، رغبتها بالدخول في شراكة مع دول الخليج العربي لتشييد خط سكة حديد يربط المنطقتين عبر أفغانستان وباكستان، ليكون الطريق الأسرع والأسهل، مقارنةً بالخط الذي يربط عُمان بإيران بدول آسيا الوسطى عبر تركمانستان، والذي تمَّ الاتفاق عليه في 2011م بالعاصمة التركمانية، وذلك بغرض تطوير أقصر طريق تجاري يربط جمهوريات آسيا الوسطى بالموانئ الإيرانية والعُمانية. وفي سبتمبر 2023م، تمَّ الکشف عن مذكرة تفاهُم خلال قمَّة مجموعة العشرين بنيودلهي، من قِبَل عدد من الدول بما فيها السعودية، لإنشاء ممرّ اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
وفي مجال الطيران، يبدو أنَّ السعودية تتَجِهُ للدخول على خط المنافسة مع شركات الطيران الكُبرى في المنطقة والعالم، وذلك ضمن خطَّة طموحة تهدُف لجعل المملكة خامس مركز عالمي لحركة الطيران، عبر تأسيس شركة طيران وطنية جديدة، وتطوير قطاع النقل، وترسيخ مكانة السعودية لتُصبح مركزًا لوجستيًا عالميًا، ومحور ربْط بين 3 قارات، من خلال زيادة استثمارات القطاع الخاص بموانئ المملكة، وإبرام عقود واتفاقيات لإنشاء مناطق لوجستية جديدة. ويمثِّل اختيارُ الأجواء السعودية كمعبر دولي لحركة الطيران الدولي، فُرصةً مواتية للسير قُدُمًا في مشروع تطوير قطاع الطيران بالسعودية؛ ليكون ضمن الأفضل في العالم.
وختامًا، تبقى الرياض بحيادها وقُدراتها ورمزيتها، الطرفَ المناسب للمساهمة في بسْط الأمن والاستقرار، ولعِب أدوار مؤثِّرة في الوساطات، التي تُفضي للتوصُّل إلى تسويات سياسية للعديد من الصراعات الإقليمية والدولية العالِقة، ووجهةً مقبولةً وآمنة لدى جميع الأطراف الدولية؛ نظرًا لحياديتها في التعاطي مع مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية.