شرَعَ وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في أكتوبر 2024م، في جولةٍ دبلوماسية هامَّة إلى الشرق الأوسط، تضمَّنت عدَّة محطّات بارزة، شمِلَت لبنان والمملكة العربية السعودية وقطر والعراق وعُمان والأردن. تأتي هذه الجولة في خِضَمّ التوتُّرات الإقليمية المتصاعِدة، لا سيّما الصراع المستمِرّ بين إسرائيل والجماعات المدعومة من إيران، مثل حزب الله وحركة حماس. جدير بالذكر أنَّ إيران بذلت في هذه الفترة جهودًا دبلوماسية لتهدئة التوتُّرات المتصاعدة، في أعقاب الضربات الإسرائيلية دقيقة التوجيه في 26 أكتوبر 2024م، التي استهدفت البنية التحتية العسكرية الإيرانية. ولا شكَّ أنَّ هذه الهجمات الأخيرة تصعِّد سِجِلّ الأعمال العدائية، التي امتدَّت على مدار عام كامل شهِدَ تبادلًا للصواريخ والضربات الإسرائيلية على الأُصول الإيرانية في سوريا ولبنان. وركَّزت إيران في حراكها الدبلوماسي على مناشدة الهيئات الدولية، وحشْد الدعم حلفائها الإقليميين، للحيلولة دون توسُّع الصراع، واحتواء العمليات العسكرية الإسرائيلية المُحتمَلة على أراضيها.
سعَتَ إيران لحصْر تحرُّكاتها ضمن إطار الدفاع عن النفس، بخاصَّة في أعقاب ضرباتها الصاروخية على إسرائيل، في وقتٍ سابق من شهر أكتوبر. ودعت حلفاءها (روسيا والصين) إلى المساهمة في كبْح جماح إسرائيل، كما دعت الولايات المتحدة والأُمم المتحدة إلى خفْض التصعيد، ما يعكس المخاوف من أن تجُرّ دائرة العنف والانتقام هذه مزيدًا من الفواعِل الإقليمية إلى مواجهات مباشرة. ومع كل هذه المناشدات، تظلّ الحلول الدبلوماسية خيارًا هشًّا، بسبب تعقيد الصراع، إذ تؤكِّد كُلٌّ من إيران وإسرائيل أنَّها غير مستعِدّة للتراجع عمّا يصفونه بأنَّه احتياجات أمنية وجودية، وبالتالي فإنَّ نجاح النشاط الدبلوماسي الإيراني غير مؤكَّد، مع استمرار الولايات المتحدة في دعْم ردود إسرائيل الأمنية، فيما تتمسَّك إيران بتحالفاتها مع الجماعات الفاعِلة في سوريا وفلسطين واليمن ولبنان، التي تجابه القوّات الإسرائيلية.
يتمثَّل الهدف الأول للدبلوماسية الإيرانية في لوم إسرائيل، بأنَّها السبب وراء التوتُّرات العسكرية في المنطقة، مع العمل على منْع أيّ دعْم إقليمي لإسرائيل في شنِّها ضربات جوِّية مستقبلًا تستهدف البنية التحتية العسكرية الإيرانية، وتسعى أيضًا إستراتيجية من إيران لدفْع جيرانها للعب دور دبلوماسي نشِط، يهدُف إلى كبْح جماح أهداف إسرائيل العسكرية، ومنعها من استهداف البنية التحتية للطاقة، فضلًا عن البنية التحتية النووية الإيرانية في الضربات المستقبلية. وقد أسفرت الجهود المبذولة لحشد الدعم الإقليمي ضدّ إسرائيل عن نتائجٍ متباينة حتى الآن. فمن ناحية، لم تستخدم إسرائيل المجال الجوِّي للدول الإقليمية في عمليتها العسكرية، باستثناء المجال الجوِّي للعراق، وبعد الحصول على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، لم يحقِّق هدف إيران المتمثِّل في حشْد الدعم السياسي الإقليمي لموقفها بشأن فلسطين نجاحًا تامًّا، بسبب تبايُن وجهات النظر بين طهران وجيرانها حول تحديد أفضل سبيل دبلوماسي للتوصُّل إلى حلٍّ سياسي للشعب الفلسطيني على المدى الطويل.
علاوةً على ذلك، هدَفَت إيران إلى فتْح قنوات دبلوماسية لمنع مزيد من التصعيد، ويبدو أنَّ إيران، على الرغم من موقفها الحازم ضدّ إسرائيل، حسمت أمرها بشأن عدم رغبتها في الانخراط في حربٍ شاملة، وقد بدا ذلك جليًّا، من خلال إعرابها عن رغبتها في خفْض التصعيد في نقاشاتها مع دول الجوار، مثل السعودية وعُمان والكويت والبحرين وقطر. وتهدُف إيران أيضًا، من خلال تعزيز علاقاتها مع دول الخليج واللاعبين الإقليميين الآخرين، إلى الحدِّ من النفوذ الأمريكي في المنطقة، لكن هذه المحاولة الإيرانية لكسر عُزلتها الدبلوماسية محدودة، نظرًا إلى موطئ قدم الجيش الأمريكي القوي في المنطقة.
جدير بالذكر أنَّ وزير الخارجية الإيراني واجه تحدِّيات في كسْب الدعم الكامل لموقف إيران ضدّ إسرائيل خلال جولته، إذ أكَّدت دول مجلس التعاون الخليجي سياسة تركِّز على خفْض التصعيد الإقليمي، وتجنُّب الانخراط المباشر في الصراع العسكري بين إيران وإسرائيل، وهي السياسة التي تعكس الاستقرار الإقليمي والمصالح الاقتصادية، التي تشكِّل أولويات لعديد من دول الخليج. كما شهِدَت الجولة الدبلوماسية تعليق المحادثات غير المباشرة بشأن الملفّ النووي بين إيران والولايات المتحدة عبر عُمان، ما يعكس مدى تفاقُم الأزمة الإقليمية وبما يزيد تعقيد الجهود الدبلوماسية بين طهران وواشنطن. لكن حِفاظ سويسرا على قناة اتصال أخرى بين إيران والولايات المتحدة، خفَّف وطأة تعليق المحادثات غير المباشرة بشأن الملف النووي، كما رمت الدبلوماسية الإيرانية إلى تعزيز علاقات إيران مع حلفائها من غير الدول في لبنان، ومع السُّلطات الرسمية في سوريا، وسط تراجُعٍ كبير في شبكة نفوذها العسكري في هذه الدول. كما أكَّدت إيران تحالفاتها مع لبنان وسوريا، إذ التقى عراقجي قادة البلدين في بيروت ودمشق. جدير بالذكر أنَّ هاتين الدولتين عضوان رئيسيان في التحالف الإقليمي الإيراني، الذي يتصدَّى للعمليات العسكرية الإسرائيلية، ويدعم جماعاتٍ مثل حزب الله.
وفي حين نجحت جولة إيران في تعزيز العلاقات مع أقرب حلفائها من غير الدول ضمن شبكة نفوذها، فإنَّ هدفها الأوسع المتمثِّل في حشْد دعْمٍ إقليمي ضدّ إسرائيل واجه قيودًا كبيرة، بخاصَّة بالنظر إلى مواقف الدول الإقليمية صاحبة النفوذ، التي هي إمّا محايدة وإما حذِرة. وفي 27 أكتوبر تَطرَّق المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إلى هجوم إسرائيل، قائلاً إنَّه «لا ينبغي لـ”الجمهورية الإسلامية” المبالغة أو التقليل من شأن العملية الإسرائيلية»، فقد اسفرت عن مقتل أربعة أو خمسة أفراد من الجيش الإيراني. وأشارت صحيفة «كيهان»، إلى أنَّ هجوم إسرائيل الأخير سيدفع إيران إلى ردِّ فعلٍ عسكريّ «مدمِّر».
وأوضح عراقجي في مقابلة أُجرِيَت في 26 أكتوبر 2024م، أنَّه أبلغ الدول في المنطقة خلال زياراته، «أنَّ “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” تحارب [أعداءها]، ومسالِمة مع جيرانها»، مضيفًا: «لا نسعى إلى تصعيد التوتُّرات، ولا نشكِّل أيّ تهديد لجيراننا في الخليج وخارجه. […] ولا حدود لإيران حين يتعلَّق الأمر بالدفاع عن سلامة أراضيها، وقد شهِدْنا أمثلة على ذلك، في عمليتَي “الوعد الحق 1 و2″، وقد أظهرت هذه العمليات قوَّة “جمهورية إيران الإسلامية” الكاملة، من حيث الدفاع عن النفس، التي أعتقدُ أنَّها القوَّة الدافعة وراء سياستنا الخارجية». وكان هذا البيان المتناقِض بمثابة رسالة إلى المنطقة، مفادها أنَّ الردّ العسكري الإيراني الفوري على الهجوم الإسرائيلي، لم يكُن أولوية النظام الإيراني، لا سيّما بعد الهجمات التي أثَّرت في دفاعاتها الجوِّية، وأصبح على وكلائه الإقليميين تنفيذ إستراتيجية جديدة لمواجهة العمليات العسكرية الإسرائيلية. مع ذلك، تُفيد تصريحات الانتقام الصادرة من أكثر الفصائل محافظةً في «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، بأنَّ هناك دعْمًا داخليًّا لردّ عسكري في المستقبل، على أهمّ هجوم عسكري استهدف الأراضي الإيرانية منذ «الحرب الإيرانية-العراقية 1980م-1988م».