شهِدَت الانتخابات الرئاسية الأمريكية انقسامًا حادًّا بين العرب والمسلمين، بسبب امتعاضهم من خطاب وسياسات دونالد ترامب، لكنَّهم يشعرون في الوقت نفسه بأسى عميق إزاء سياسة إدارة جو بايدن وكامالا هاريس، المتمثِّلة في استمرار تسليح بنيامين نتنياهو، الذي ارتكب المجازر بحقِّ الفلسطينيين مع تجويعهم. وقد حاول المرشَّحان الرئاسيّان سعيًا للفوز بولاية ميشيغان، وهي من ولايات الحسم، استمالة ناخبيها، الذين جُلَّهم عرب ومسلمين، لكن لم يكُن لدى المرشَّحين الكثير ليقدِّموه.
أمّا من ناحية الصين، فإنَّ المعضلة الإسرائيلية الفلسطينية لا تسبِّب انقسامًا شعبيًا، إذ لا يرتبط الشعب الصيني جيوسياسيًا بالقضية الفلسطينية بنفس المستوى، الذي ترتبط به شعوب المنطقة. لكن تتمتَّع الصين بشعبية متنامية بين المجتمعات العربية والإسلامية، فهي لم تُدِن هجوم السابع من أكتوبر، كما دعا وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى وقْف إطلاق النار، وحثَّ الجانبين على السعي إلى «حلّ الدولتين».
وقال وانغ يي خلال مكالمة هاتفية مع نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، إنَّ «تصرُّفات إسرائيل تجاوزت حدود الدفاع عن النفس، وعليها الاستجابة لدعوة المجتمع الدولي والأمين العامّ للأُمم المتحدة، لوقف عقابها الجماعي بحقِّ شعب غزة». وقد حثَّ المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الصينية من تبقَّى من مواطني بلده في إسرائيل والأراضي المحتلَّة على مغادرة البلاد، خوفًا على سلامتهم، بعد مقتل أربعة مواطنين صينيين، وفقْد اثنين وإصابة ستَّة. وقد تصدَّرت تصريحات الممثِّل الدائم للصين في الجمعية العامَّة للأُمم المتحدة فو كونغ عناوين الأخبار في دول جنوب العالم، من خلال حديثه بالنيابة عن «مَن لا صوت لهم»، وإدانة دور أمريكا والمذابح الإسرائيلية في غزة ولبنان، كما تواصل وسائل الإعلام الرسمية في الصين الناطقة باللغات الأجنبية بثّ تصريحات بكين المؤيِّدة لفلسطين.
وعلى الرغم من أنَّ دعْم الصين قيام دولة فلسطينية كان منذ عهد ماو تسي تونغ، فإنَّ موقفها المتوازن والحذِر المناهِض للغرب بشأن هذه القضية، يخدم الطرفين. وما لا تروِّجه وسائل الإعلام الأجنبية والصينية والعربية، هو حجْم التجارة بين تل أبيب وبكين، إذ استثمرت الصين في إسرائيل أكثر ممَّا استثمرت في إيران منذ عام 2010م. فعلى سبيل المثال، كان لهجمة أمريكا التجارية ضدّ الصين تأثير أكبر في «شراكة الابتكار الشاملة» بين الصين وإسرائيل. وتوتَّرت العلاقات (التجارية بين الصين وإسرائيل) بعض الشيء منذ هجوم السابع من أكتوبر وبعد مقتل جنرال إيراني وقادة حزب الله وحركة حماس، لكن ليس تأثُّرًا جسيمًا، إذ لا تزال فُرَص التبادل التجاري مُتاحة. ويمكننا القول إنَّ موقف أيرلندا والنرويج «الجريء» ضدّ الهجمات الإسرائيلية، كان أكثر أهمية للرأي العامّ الإسرائيلي من موقف الصين.
ولا يتردَّد صدى دعْم الصين للفلسطينيين في مجلس الأمن التابع للأُمم المتحدة فحسب، بل طعنت الصين على احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية في محكمة العدل الدولية، وعقدت في غضون عامٍ واحد اجتماعَي مصالحة ضمَّا 14 فصيلاً سياسيًّا فلسطينيًّا، كان أبرزها من جماعات متنافِسة. وشكَّل إعلان بكين الناتج عن هذا الاجتماع اتفاقًا رئيسيًّا لإنهاء الانقسامات بين الفصائل وتعزيز الوحدة الوطنية، في سبيل تحقيق هدف إقامة الدولة الفلسطينية. لكن تبدو المواقف، التي اتّخذتها «حماس» و«فتح» و«الجهاد الإسلامي» متصلِّبة إلى الحدِّ الذي يجعلها غير قادرة عن التخلِّي عنها في اجتماعين، على الرغم من تَعرُّض الشعب الفلسطيني لمزيد من مخاطر الطرد والقتل الجماعي. جدير بالذكر أنَّ بكين تدعم حلّ الدولتين، لكن سياستها تقوِّض واشنطن بدفاع هادئ عن فلسطين.
ولم تسبِّب السياسة الصينية إزعاجًا لإسرائيل بعد، ففي نظر تل أبيب، تقدِّم الصين منصَّة للفلسطينيين للتنفيس عن غضبهم، في حين تتجاهل إعلان بكين بنفس الطريقة التي ترفض بها التوبيخ الذي تتلقَّاه في مجلس الأمن والجمعية العامَّة للأُمم المتحدة.
ولن توفِّر القوَّة الآسيوية الرأسمالية التجارية اللجوء للفلسطينيين النازحين على عكس الغرب، ولن تعرض عليهم الجنسية، ولا تستطيع الصين -لأغراض عملية-أن تحُلّ محلّ كندا والولايات المتحدة وأوروبا، وحتى دول أمريكا الجنوبية، في العقلية الفلسطينية والعربية.
وعلى الرغم من تأثيرها الضئيل على الأرض -على عكس نفوذها الجيوسياسي والاقتصادي الهائل- فإنَّ سياسة الحد الأدنى، التي تنتهجها بكين مقبولة في العالم الإسلامي، بفضل النهج الحزبيّ المَعِيب بشدَّة الذي تتبنّاه الولايات المتحدة تجاه حق إسرائيل في «الدفاع عن النفس». وأدَّى عجْز إدارة بايدن عن التوصُّل إلى إستراتيجية مُستدامة وقابلة للتطبيق بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وغزو روسيا لأوكرانيا، إلى انخفاض سقْف التوقُّعات بحدة تجاه الصين.
وقد أخبر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وزير الخارجية الصيني، خلال اجتماعهما على هامش الجمعية العامَّة للأُمم المتحدة، بأنَّه على الصين لعِب دورٍ في حل الصراع. وتعكس زيارة وانغ للشرق الأوسط، بما في ذلك الرياض والدوحة وبيروت، رغبة بكين في أن تموضع نفسها كقوَّة منافِسة في المنطقة. لكن تواجه بكين مأزقًا صعبًا في ترسيخ نفسها كقوَّة موازِنة ضدّ الولايات المتحدة. وتبقى السياسة الصينية حذِرة إلى حدِّ ما، حين يتعلَّق الأمر بمعالجة مثل هذه الأزمات، على الرغم من قصْف تل أبيب لبنان وسوريا والعراق وإيران والحوثيين في اليمن. ولا تزال بكين تبحث عن موطئ قدم لها في المنطقة، وتتحرَّك بحذر، بسبب الحساسيات والتعقيدات الإقليمية. فهي حريصة من أجل مصالحها الوطنية، على الحفاظ على التوازنات القائمة مع الحلفاء في المنطقة، وقد تعمل الأزمات العالِقة على تغذية منافسة الصين الجيوسياسية ضدّ الولايات المتحدة مع انشغال واشنطن بالشرق الأوسط، وإعادة نشْر القوّات البحرية والعسكرية في المنطقة واستهلاك الموارد، بدلًا من التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ.