بعد هدوءٍ دام ما يقارب 5 سنوات، تعود سوريا إلى الواجهة مجدَّدًا، بأحداث أمنية وتصعيد عسكري متسارع، تشهده مناطق الشمال السوري منذ 27 من نوفمبر 2024م، على إثر قيام فصائل عسكرية سورية بهجوم مفاجئ على مواقع قوّات النظام السوري، والميليشيات الإيرانية المتواجدة في بلدات ريف حلب الغربي وقُراه، ومناطق شرق إدلب. وحقَّقت تلك الفصائل -حتى تاريخ إصدار التقرير- تقدُّمًا سريعًا ملحوظًا في تلك المناطق، وعلى وقع استمرار الاشتباك وتواصُل المواجهات، راجت تكهُّنات وتفسيرات كثيرة لما جرى، وتعدَّدت الآراء في توصيفه ومسارات المواجهة المُحتمَلة، وهو أمرٌ مفهوم؛ ذلك أنَّ الفوضى التي غرقت بها الدولة السورية على مدى السنوات الماضية، وتعدُّد الفاعلين وتضارُب المصالح بين دولٍ تتقاسم الميدان السوري، تجعل من الصعوبة فهم واقع المواجهة ومساراته.
ومن هنا، يقدم هذا التقرير قراءة أولية لسياقات العملية التي أُطلق عليها مسمى «ردع العدوان»، وأبرز أهداف الفصائل العسكرية المتبنية لهذه العملية، وكذلك يقدم تحليلاً مختصرًا لدوافع القوى الإقليمية ومواقفها من العملية العسكرية في الشمال السوري، كما تضمن ختام التقرير أبرز التصورات حول المسارات المحتملة لهذه العملية ومحدداتها.
أولًا: سياقات العملية وأهدافها
تُعَدُّ العملية العسكرية، التي تشنّها الفصائل العسكرية تحت مسمَّى »ردع العدوان»، أول تطوُّر كبير في الخرائط العسكرية ومناطق النفوذ في شمال غربي سوريا، وحرّكت حدود التماس بين جهات سورية محلِّية متصارِعة، وقوّات إقليمية ودولية منتشرة في تلك البقعة الجغرافية، بعد سنوات من الهدوء النسبي وتكريس خفض التصعيد، الذي فرضه «اتفاق سوتشي« في موسكو 2020م بين الحكومة السورية وروسيا وتركيا على الطرف الآخر. ويشارك في العملية مختلف المكوِّنات من الفصائل العسكرية في سوريا، مثل »هيئة تحرير الشام «وفصائل أخرى كـ »جيش إدلب الحُرّ«، وغيرهما من الفصائل، التي تنشط في ريف حلب الغربي، وأرياف حماة واللاذقية وإدلب وتقودها »هيئة تحرير الشام«. فيما كانت القوّات الحكومية السورية الجهة الأبرز في الطرف المقابل، إلى جانب ما سمّاه بيان الجيش السوري بـ »القوّات الصديقة«، في إشارة إلى القوّات الروسية والإيرانية.
خريطة السيطرة العسكرية شمال غربي سوريا ( 29 نوفمبر 2024م)
المصدر: آخر تطورات عملية “ردع العدوان”، شبكة بلدي الإعلامية، (01 ديسمبر 2024م)، https://bit.ly/3D2jSP4
وحمَلَ إعلان الفصائل العسكرية بعد بدء عملياتها ضدّ قوّات الحكومة السورية والميليشيات الإيرانية، هدفًا مُعلَنًا بأنَّ الحملة العسكرية جاءت ردًّا على التحرُّك السوري ضدّها في إدلب، على مدار شهر أكتوبر 2024م، لكن تحرُّك الفصائل شمَلَ محاولات لمدِّ النفوذ والسيطرة فعليًا نحو حلب انطلاقًا من إدلب، وتمكَّنت الفصائل -حتى تاريخ التقرير- من السيطرة على محور ريف حلب الغربي، بعد السيطرة على «الفوج 46»، أكبر مواقع الحكومة السورية في غرب مدينة حلب، الذي يُعدُّ مُنطلَقًا لقوّات الأسد في هجماتها على مناطق المعارضة السورية؛ لتصِل وسط حلب، وكذلك شرق إدلب، بالسيطرة على مدينة سراقب الإستراتيجية، التي تُعدُّ عُقدة وصل بين طريقي دمشق-حلب (M5)، وحلب-اللاذقية (M4)، إلى جانب الإعلان عن وصول الفصائل إلى أطراف حماة، وتمكُّنها من السيطرة على عدَّة قُرى وبلدات تابعة لحماة، قبل الإعلان عن انسحابها، بعد وصول تعزيزات عسكرية ونشر نقاط أمنية جديدة من قِبَل الحكومة السورية.
ثانيًا: تحليل الدوافع ومواقف القُوى من العملية العسكرية شمال سوريا
تأتي هذه العملية العسكرية في ظروف ميدانية وإقليمية ودولية متغيِّرة، قادت رُبَّما نحو هذا الحراك السوري على الجبهة الشمالية لها. وفيما يلي قراءة لأبرز الدوافع المُحتمَلة:
- دوافع ميدانية متعدِّدة: أشار بيان الفصائل العسكرية بعد إطلاق العملية، إلى أنَّ هجومها جاء للردِّ
على قصف قوّات النظام والميليشيات الإيرانية لإدلب بعُنف خلال الأشهر الأخيرة، كان آخره استهدافه مناطق مدنية تابعة للمعارضة بشمال سوريا، في أكتوبر 2024م. فيما اعتبرت آراء أخرى، أنَّ العملية كانت تطوُّرًا مُتوقَّعًا ينتظره ويعوِّل عليه الملايين من السوريين، في ظل الانسداد السياسي المزمن في المشهد السوري، ومناورة الأسد للبقاء على كرسي الحُكم، وكانت لهذه الاعتبارات ترجمتها الفعلية بتوحيد صفوف قُوى المعارضة السورية تحت قيادة واحدة، وإعلان بدء هذه العملية على هذا النحو المفاجئ.
2. دوافع إقليمية ودولية: تجري تحرُّكات الفصائل العسكرية السورية وسط متغيِّرات إقليمية متلاحِقة، كانت من بينها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، والضغط الذي يتعرَّض له النظام وحلفاؤه الإيرانيون في سياق هذه الحرب، التي كانت آخرها تطوُّرات المشهد في لبنان، وقبول حزب الله بالقرار 1701. وبالتالي، تُعَدُّ العملية تطوُّرًا طبيعيًّا للأحداث الإقليمية، وفُرصة للفصائل لإعادة رسم خطوط التماس في المدينة، وامتلاك أوراق ضغط بينها وبين قوّات الحكومة السورية.
كذلك تجري هذه التحرُّكات في اتجاه يبدو مناسبًا لتركيا، التي تُعَدُّ فاعلًا رئيسًا في الشمال السوري، إذ سعت إلى إرسال إشارات متناقِضة؛ فتارةً تُعلن الرغبة بالمصالحة مع حكومة الأسد، وتؤكِّد أنَّها لا تريد تغييره أو اقتطاع جزء من أراضيه، وتارةً أخرى تهاجم الأسد بُغية دفعه إلى طاولة المفاوضات تحت النار، بعد دعوات دبلوماسية متكرِّرة لأكثر من سنة لعملية تطبيع للعلاقات، التي كرَّرها مسؤولوها، بمن فيهم الرئيس رجب طيِّب أردوغان.
فيما ذهبت قراءة مراقبين آخرين إلى القول، إنَّ أنقرة تدفع بهذه العملية كردِّ فعلٍ استباقي لتسلُّم الرئيس الأمريكي المُنتخَب دونالد ترامب الرئاسة، وتقول هذه القراءة إنَّ إردوغان يعزِّز موقعه التفاوضي، من خلال السعي لإضعاف الدور الكردي في شمال سوريا، الذي تدعمه واشنطن، يستند أصحاب هذه القراءة إلى أنَّ ترامب قد لا يعود إلى خيار سحب القوات الأمريكية من قواعدها الرئيسة في المناطق الكردية، وهذا يتطلَّب من أنقرة وموسكو، كلٌّ لهدفها، التهيُّؤ لمرحلة الرئيس الأمريكي الجديد.
وممّا لا شكَّ فيه أيضًا، أنَّ روسيا هي أيضًا معنية بما يدور على رقعة الشمال السوري، سواءً لموقفها والتكهُّنات التي انطلقت بعد ساعات من إنطلاق العملية، والتساؤلات حول غياب روسيا وسلاحها الجوِّي في الأيام الأولى من العملية، بشأن الدفاع عن قوّات سوريا في تلك المناطق، ومنع الفصائل العسكرية من السيطرة على العديد من المُدُن والقُرى السورية فيها، على عكس ما انتهجته خلال تدخُّلها في سوريا عام 2015م. وقد يكون سبب تأخُّر المبادرة الروسية عن المشاركة الفعلية، يعود إمّا بسبب تراجُع القُدرات الروسية، وأنَّها لم تعُد كما كانت إبان السنوات الأولى من تدخُّلها في سوريا 2015م، من جرّاء الحرب الروسية في أوكرانيا، أو رُبَّما هي لرغبة روسية في الضغط على الأسد، وإضعافه وإجباره على مزيد من الانصياع لموسكو، استعدادًا لمرحلة جديدة مع إدارة ترامب الجديدة، أو القبول بالتقارب مع تركيا.
ثالثًا: نتائج العملية ومساراتها المُحتمَلة
بلا شك أنَّ الهدف الذي تعمل عليه الفصائل العسكرية، يبدو مُتوقَّعًا، في ظل الأوضاع السورية الداخلية، وحالة التقلُّب الإقليمي وتبدُّل الأوضاع فيها، كما أنَّ هذه العملية من المتوقَّع أن تضع الحكومة السورية تحت الضغط العسكري، بعد سنوات من حالة الاستقرار النسبي لحدود النفوذ والسيطرة بين الفاعلين المحلِّيين في شمال غربي سوريا، كما أنَّ العملية ستضع الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى تحت مجهر الاختبار والضغط، بشأن اتّخاذ قرارات صعبة في مرحلة حرِجة إقليميًا.
ومع استمرار الاشتباكات وتقدُّم الفصائل العسكرية، تبقى السيناريوهات المُحتمَلة وحدود العملية ونتائجها مفتوحة، ومرتبِطة بشكلٍ كبير بعدد من العوامل والمحدِّدات الميدانية والسياسية، التي قد تحدِّد مسار هذه العملية.
1. احتمالية استمرار التصعيد من قِبَل الفصائل العسكرية: وهو مسارٌ مطروح، في حال استمرار زخم الهجوم والتقدُّم الميداني لمطلقي العملية، وقُدرة قادتها على تحقيق مكاسب إضافية على الأرض، كالسيطرة على مواقع إستراتيجية جديدة وتلقِّي دعم خارجي أكبر، قد تعزِّز من قُدراتها على مواجهة قوّات الأسد، مقابل عدم تدخُّل روسي لاستعادة سيطرة حكومة الأسد على المُدُن والقُرى التي سيطرت عليها الفصائل. ويقود هذا المسار، في حال حدوثه، إلى انتهاء وقف التصعيد وآليات المراقبة المنبثقة عن «أستانا»، ودخول سوريا في دائرة صراع جديدة، إمّا قد تنتُج عنها ولادة تفاهُمات تركية-روسية جديدة على وقع تغيُّر خارطة السيطرة في الميدان، وإمَّا تفتح الباب أمام موجة صراع جديدة طويلة الأمد، لا يزال من المبكِّر التكهُّن بطبيعتها وسيرها ونتائجها.
2. مفاوضات أو تهدئة مؤقَّتة: تمثِّل العملية والنتائج الأولية، التي حقَّقتها الفصائل العسكرية، فُرصةً لإعادة طرح ملف الشمال السوري، ومطالب ساكنيه أمام حكومة الأسد وأمام الموقف الدولي ككُلّ، لكنّها في الوقت ذاته تضعها أمام تحدِّيات كُبرى، فمثل هذه العمليات غالبًا ما تواجه صعوبة في الحفاظ على الزخم العسكري، إذا لم تكُن مدعومة بقُوى خارجية، وبالتالي قد تجِد الفصائل العسكرية نفسها أمام ضرورة الدخول في هذا المسار خلال الأيام القادمة. يرجِّح هذا المسار الموقف التركي، وعلى الرغم ممّا يمثِّله هذا الحدث من فُرصة لاستغلال ضعف حكومة الأسد لتحقيق مكاسب ميدانية جديدة، لكنَّها أيضًا لا ترغب في استفزاز روسيا إلى حدٍّ التصعيد، أي مواجهة مفتوحة قد تكلِّفها كثيرًا، كما أنَّ إيران لا تملك في هذه المرحلة حرِّية التحرُّك، التي كانت تملكها قبل عشر سنوات سابقة؛ فهي باتت تحت ضغوط وتصعيد عسكري تجاه حُلفائها وميليشياتها في الجغرافيا السورية وفي الساحات الأخرى، لذا يُستبعَد أن تقود تصعيدًا ظاهريًا في هذه العملية، وإنَّما قد تلجأ إلى خيار التهدئة؛ لتجنُّب المزيد من الخسائر الميدانية والسياسية لميليشياتها ونفوذها في سوريا.
إلى جانب ذلك، قد يقود النزوح الكبير للسُّكّان نتيجةً للعملية، إلى زيادة الضغط على المجتمع الدولي والمنظَّمات الإنسانية؛ ما قد يدفع الأطراف المتصارِعة إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، لإيجاد حلول دبلوماسية أو تهدئة الوضع؛ لذا قد تتوصَّل الأطراف المتصارِعة إلى توافُقات ترتكِز على حدود اتفاق خفض التصعيد، الذي تمَّ توقيعه في 2019م.
3. انحسار العملية واستعادة الأسد السيطرة: وهو أحد السيناريوهات الأكثر احتمالية، إذ قد يقود نقص الموارد والدعم الدولي إلى تراجُع الفصائل العسكرية عن بعض مكاسبها، خاصَّةً إذا تصاعدت الهجمات المضادَّة من الأسد لاستعادة المناطق الإستراتيجية، التي فقدها خصوصًا في محيط حلب، وعلى الرغم من أن التدخُّل الروسي حتى اللحظة، وإن كان يبدو محدودًا للغاية، إلّا أنَّه لا ينبغي تجاهُل أنَّ الموقف الروسي، على الرغم من انشغال الروس الكبير في أوكرانيا، فإنَّه يُنظَر إلى وجودهم في سوريا من منظور إستراتيجي يتجاوز النظام السوري إلى رسم محدِّدات دورها في النظام الدولي، ولن يسمحوا بالتالي بتغيير خرائط السيطرة وانتزاع مناطق أخرى من حكومة الأسد ومن إيران، قد تؤثِّر على الدور الروسي في سوريا. وبالتالي، سيحاول الروس إنشاء معادلة يتعيَّن بسببها على الفصائل العسكرية وتركيا إيقاف العملية أو توسيعها.
في الختام، يمكن القول إنَّ عملية »ردع العدوان «شمال غربي سوريا تمثِّل تحوُّلًا لافتًا في المشهد الميداني والسياسي السوري، حيث حرَّكت خطوط التماس، بعد سنوات من الجمود النسبي، ومع استمرار هذه العملية، تبقى نتائجها مرهونة بشكلٍ كبير، ليس فقط على القُدرات العسكرية للفصائل على الأرض، بل على العوامل الخارجية والدعم الدولي، والردود المُحتمَلة من قِبَل النظام وحُلفائه، خصوصًا الموقفين التركي والروسي، ومدى رغبتهما في اختبار توازُن القُوى على الأرض، ومدى استعداد الأطراف الفاعِلة للتصعيد أو التوجُّه نحو تسويات سياسية؛ ما يجعل من شمال سوريا ساحةً مفتوحة على كل السيناريوهات المستقبلية، التي ينبغي مراقبتها وتتبُّع تداعياتها، التي قد تتجاوز حدود الجغرافيا السورية.