في خطوةٍ تاريخية، استقبلَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الرئيسَ السوري أحمد الشرع، في قصر الإليزيه في 07 مايو 2025م. يعُد هذا اللقاء الأعلى مستوى في التواصل الدبلوماسي بين البلدين منذ أكثر من عقد. هذه الزيارة ليست مجرد إعلان عن عودة العلاقات بين باريس ودمشق، بل تكشف عن طموح ماكرون لإعادة تأكيد النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط، واضعًا العقوبات الاقتصادية والاستقرار الإقليمي على رأس جدول أعماله.
يُعد هذا الاجتماع أول زيارة للشرع إلى أوروبا منذ الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر 2024م، ويمثل خطوةً بالغة الأهمية تُظهر طموح فرنسا لقيادة العلاقات الغربية مع الحكومة الانتقالية السورية، وإعادة تقييم العلاقات الفرنسية-السورية، وتعزيز نفوذها في بلاد الشام. دفع تواصل ماكرون مع الشرع -وطلبه رفع العقوبات عنها الذي صحبه دعم الحلفاء العرب- ترامب لإعادة النظر في العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا. وفي خطابه في منتدى الاستثمار السعودي-الأمريكي 2025م، أعلن ترامب عزمهُ رفع العقوبات عن سوريا وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع رئيسها الجديد، وصرح أنَّ «هذه الخطوة أتت بطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان».
وتعكسُ دعوة ماكرون للشرع مناورةً محسوبةً لجعل فرنسا لاعبًا رئيسيًا في مستقبل سوريا ما بعد الأسد. ويمثل هذا اللقاء نقطة تحولٍ في العلاقات الفرنسية-السورية، التي تدهورت خلال حكم الأسد بسبب دعم فرنسا لجماعات المعارضة ودورها في التحالفات ضد «داعش». وقد كانت فرنسا من أوائل الدول الأوروبية التي أعادت علاقتها مع دمشق، حيث رفعت علمها الجديد على مبنى سفارتها المغلقة منذ عام 2012م، وذلك بعد سقوط نظام الأسد بفترة وجيزة. ومن خلال تواصله مع الشرع، يسعى ماكرون إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية، ودعم الحكومة الانتقالية السورية، وتمكين الشركات الفرنسية من المُشاركة في إعادة إعمار سوريا، لا سيما أنَّ وجودها الدبلوماسي المبكر في دمشق ودعوتها لتخفيف العقوبات، يمنحها أفضليةَ المبادرة على نظرائها من القوى الغربية.
ومع كل هذا التقدم، يواجهُ النفوذ الفرنسي في سوريا عراقيل تتمثَّل في روسيا وإيران. فرغم تراجع نفوذهما بعد سقوط الأسد، لا تزالان تحتفظان بنفوذ عسكري واقتصادي. إضافةً إلى ذلك، تتمتع تركيا، الداعم الرئيسي لــــ «هيئة تحرير الشام»، بنفوذ كبير على حكومة الشرع. لذا يتعين على فرنسا التعامُل مع هذه القوى المتنافسة مع معالجة المخاوف الداخلية بشأن شرعية الشرع. في هذا السياق، ستُشكل قدرة ماكرون على تخفيف العقوبات على مستوى الاتحاد الأوروبي، مقياسًا حاسمًا للنفوذ الدبلوماسي الفرنسي.
ويُؤكد تعيين جان باتيست فيفر، السفير السابق لدى قطر، رئيسًا للسفارة الفرنسية في دمشق، نهج باريس الاستباقي في التعامل مع الملف السوري. وقد أكد ماكرون التزامه بدعم رفع العقوبات الأوروبية، شريطة أن تُظهر حكومة الشرع التزامًا حقيقيًا باستقرار سوريا. كما أعرب عن أمله في أن تحذو الولايات المتحدة حذو بلاده، مُشيرًا إلى أن رفع العقوبات سيُسهّل عودة ملايين اللاجئين السوريين، وهي قضية مُلحة لأوروبا والمنطقة. وقد حفَّز إعلان الولايات المتحدة في الرياض بشأن رفع عقوباتها القوى الأوروبية على إعادة النظر في العقوبات المفروضة على سوريا خلال النظام السابق.
ويبقى نهج ماكرون مُعتمدًا على أفعال الشرع. فقد قال ماكرون، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع الشرع: «إذا استمر الشرع على نهجه، فسنفعل الشيء نفسه»، مؤكدًا أن التقدم في الإصلاحات، والاستقرار الإقليمي -لا سيما في لبنان- وجهود مكافحة الإرهاب أمورٌ غير قابلة للتفاوض. وقد اتخذ الرئيس الفرنسي موقفًا براغماتيًا، إذ حكم على الشرع بأفعاله الحالية لا بماضيه وقيادته لـ «هيئة تحرير الشام»، وهي جماعة كانت تربطها علاقات بتنظيم «القاعدة». تجلّت هذه البراغماتية في لقاء الشرع مع الناشط السوري فريد المذهان، المعروف باسم «قيصر»، والذي كشف عن فظائع السجون في عهد الأسد. ويُشير هذا اللقاء، الذي حضره وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، إلى استعداد الشرع لمُعالجة مخاوف حقوق الإنسان، وهو مطلبٌ فرنسيٌ رئيسي.
وتتوافق استراتيجية ماكرون مع الدور التاريخي لفرنسا كجسر دبلوماسي في الشرق الأوسط. ومن خلال بدء الحوار مع الشرع في هذه المرحلة المبكرة، تهدف باريس إلى ضمان موطئ قدم لها في إعادة إعمار سوريا، والتي قدر البنك الدولي تكلفتها بما يتراوح بين 300 و500 مليار دولار. كما يُشير تقدير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن التكلفة الاقتصادية والمالية للحرب السورية بلغت حوالي 923 مليار دولار أمريكي حتى نهاية عام 2024م. تعكس مبادرة فرنسا لتخفيف العقوبات عن سوريا على مستوى الاتحاد الأوروبي في يونيو 2025م، هدفًا أوسع نطاقًا: تعزيز الانتعاش الاقتصادي في سوريا من أجل تعزيز الاستقرار الإقليمي، والحد من تدفقات اللاجئين، ومنع عودة إيران إلى سوريا وسط تصاعد العنف الطائفي. ومن الجانب السوري، وصف الشرع، العقوبات الحالية بأنها «عقبة» رئيسية أمام تعافي البلاد، مؤكدًا أنّه «لا يوجد مُبرر لاستمرار تطبيقها»، ومُشددًا على أن هذه الإجراءات فُرضَت على بشار الأسد، ولا ينبغي أن تتحمل الحكومة الحالية عبئها.
تُعد النقطة المهمة هنا هي: ما إذا كان تعليق ماكرون وترامب للعقوبات الاقتصادية، التي فُرضت في عهد الأسد سيؤثر تأثيرًا كبيرًا على الأوضاع الاقتصادية الداخلية في سوريا. في هذا الصدد، يرى ماكرون أن رفع العقوبات «يصُب في مصلحة الجميع، بمن فيهم الأمريكيون»، لأنه سيُمكن من إعادة اللاجئين إلى أوطانهم وتحقيق الاستقرار الإقليمي. ويكمن نفوذ ماكرون في قُدرته على ربط تخفيف العقوبات بتخفيف عبء اللاجئين على أوروبا؛ وهي مسألة سَبق أن ربطها ترامب بمصالح الولايات المتحدة. ويمكن لفرنسا أيضًا حشد الحلفاء الأوروبيين لتشكيل جبهة موحدة للمُضي قُدمًا في هذا المسعى. تجدر الإشارة، إلى أن أهداف فرنسا في سوريا تتوافق عمومًا مع أهداف شركائها العرب، على رأسهم المملكة العربية السعودية، لا سيما فيما يتعلَّق بالأولويتين الرئيسيتين في سوريا ما بعد الأسد: إعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب. وجاء هذا التوافق في أعقاب المؤتمر السوري الذي عُقد في باريس في فبراير 2025م. ومنذ ذلك الحين، كثفت دول مجلس التعاون الخليجي وفرنسا تنسيقها لدعم جهود تحقيق الاستقرار في سوريا، وضمان أن تُجسد المرحلة الانتقالية بعد الصراع المصالح الإقليمية والأعراف الدولية.
وأكدَّ البيان الختامي على ضرورة انتقال سياسي يشمل «جميع قطاعات المجتمع السوري، بالإضافة إلى أبناء الجالية السورية في الخارج». وأعلن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، أن المانحين الدوليين اتفقوا على تشكيل مجموعة عمل تحت رعاية الأمم المتحدة لتنسيق جهود الإغاثة في سوريا، وتعهدت فرنسا بتقديم 50 مليون يورو مساعدات لعام 2025م. وعلى الصعيد الأمني، وصف ماكرون الغارات الجوية الإسرائيلية في سوريا بأنها «مُمارسة سيئة»، مُضيفًا أنها «لن تضمن أمن إسرائيل على المدى الطويل». وخاطب إسرائيل قائلًا: «لن تضمن أمن بلدك بانتهاك سلامة أراضي جيرانك». وأخيرًا، بعلاقاته مع الشرع، يضع الرئيس الفرنسي بلاده في موقع قيادي لرسم مسار سوريا ما بعد الأسد. على المدى القصير، تُعزز الدبلوماسية الفرنسية الاستباقية مكانتها الإقليمية وتُقدّم نموذجًا لإعادة العلاقات الأوروبية مع سوريا. أما على المدى البعيد، فسيعتمد النفوذ الفرنسي على استقرار سوريا وقدرتها على الموازنة بين المثالية والبراغماتية في بيئة جيوسياسية شديدة التعقيد. وفي المرحلة الحالية، تُعد مُناورة ماكرون خُطوةً جريئةً نحو إعادة تأكيد دور فرنسا في الشرق الأوسط، لكن نتائجها لا تزال غير مؤكدة في ظلّ التحديات الداخلية التي تواجه السلطات السورية الجديدة.