سوريا ما بعد الأسد في الدوائر الحدودية للأمن القومي الإسرائيلي

https://rasanah-iiis.org/?p=38019

بواسطةد.يحيى بوزيدي

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو %D8%AA%D8%AD%D9%85%D9%8A%D9%84-%D9%88%D8%AA%D8%B5%D9%81%D8%AD-.jpg

مقدمة:

رست العلاقات السورية-الإسرائيلية على معادلة أمنية تشكلت منذ اتفاق فض الاشتباك في 1974، وظلّت هذه الجبهة بموجبه هادئة، ودون أي تهديدات أو مخاطر إلى غاية اندلاع الثورة في 2011، التي نجم عنها تطوّرات عديدة استوجبت التكيف الإسرائيلي معها بما يحافظ على استقرار الحدود الشمالية الشرقية لإسرائيل. استطاعت إسرائيل طيلة السنوات الأربع عشرة من الحرب إدارة التوازنات بين القوى المتصارعة الداخلية والخارجية، وتمكنت من تحييد معظم المخاطر الأمنية الجديدة عبر عمليات متنوعة عسكرية وسياسية. هزّ هجوم السابع من أكتوبر 2023 أركان الأمن القومي الإسرائيلي، مما دفع إسرائيل إلى شن حرب على قطاع غزة دفعت بالقوى المنضوية ضمن ما يسمى بـ”محور المقاومة” إلى تفعيل “وحدة الساحات” بالانخراط في المواجهات العسكرية، التي كان من آثارها توجيه ضربات قوية إلى إيران وحزب الله اللبناني، مما حدّ من قدرات الطرفين في سوريا وساهم في السقوط السريع لنظام الأسد بعدما تخلت عنه روسيا بسبب انشغالها هي الأخرى بالحرب في أوكرانيا.

مع سقوط نظام الأسد انهارت المعادلة الأمنية السابقة، وقامت إسرائيل بعديد من الخطوات السريعة للحفاظ على أمنها القومي وفق خطوات تحركها هواجس هجوم أكتوبر. تمثَّل أبرز إرهاصات تحوُّل قواعد الاشتباك بين مرحلة الأسد وما بعده في استهداف السلطة الجديدة، والتوسع والسيطرة على مزيد من الأراضي، وتجاوز دور الأمم المتحدة في ترتيبات الأمن مع سوريا، ومحاولة التدخّل في صياغة نظام الحكم الجديد بما ينسجم مع المصالح الأمنية الإسرائيلية. في ظل المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا، وحجم التعقيدات التي تحيط بكل القضايا الإشكالية، التي يبدو أن العامل الإسرائيلي سيكون محددًا أساسيًّا فيها، فإنّ هذه الدراسة ستعمل على بحث الإستراتيجية الإسرائيلية في سوريا من منظور جغرافي يقسمها إلى ثلاث دوائر أمنية، تتمثل في: الدائرة السيادية، والدائرة الأمنية المباشرة، والدائرة الأمنية غير المباشرة، عبر تحديد هذه الدوائر، وإبراز أهداف إسرائيل في كل دائرة من هذه الدوائر، والأدوات التي اعتمدت عليها في تحقيق تلك الأهداف، كما يعرض التحديات التي تواجهها فيها.

أولًا: سوريا في المنظور الأمني الإسرائيلي بعد عملية 7 أكتوبر 2023

تُعَدّ الحدود بين سوريا وإسرائيل الأقصَر مقارنة بباقي جيرانها، إذ لا تتجاوز ثمانين كيلومترًا، ولكنها الأكثر تعقيدًا بحكم الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان وما ترتَّب عليه من تبعات سياسية وعسكرية تتأثر بالتطوّرات التي يشهدها البلدان والمنطقة. كما أن التركيبة الديمغرافية على طرفَي الحدود، التي تتمركز فيها الأقلية الدرزية، تزيد حجم التعقيدات. يضاف إلى ذلك موقع العاصمة دمشق الذي لا يبعد سوى 70 كلم عن الحدود، مما يجعل أي ترتيبات عسكرية ذات أبعاد سيادية تدفع نحو ترجيح المعادلة الصفرية في إدارة الأزمات بين الطرفين السوري والإسرائيلي.

يمكن تقسيم سوريا وفق مقتضيات الأمن القومي الإسرائيلي إلى ثلاث دوائر أمنية مباشرة وغير مباشرة. يشكل الجولان في شقيه السوري والإسرائيلي المحتل الدائرتين الأمنيتين الأولى والثانية. وتتمثل الدائرة الأمنية الأولى تحديدًا في المنطقة الحدودية السيادية داخل إسرائيل، التي تقطنها الأقلية الدرزية إضافة إلى المستوطنين، تقابلها في الجهة المناظرة الدائرة الأمنية المباشرة التي تضم منطقة فض الاشتباك إضافة إلى محافظة القنيطرة. أما الدائرة الأمنية غير المباشرة فتتمثل في ما تبقَّى من سوريا باعتبارها دولة مجاورة لإسرائيل، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن موقع العاصمة دمشق القريب جدًّا من الحدود الإسرائيلية، حيث لا تتجاوز المسافة الفاصلة بين أقرب نقطتين 50 كلم، يجعل العاصمة ضمن الدائرة الأمنية المباشرة لإسرائيل، والأمر نفسه بالنسبة إلى الدوائر الأمنية من المنظور السوري، حيث موقع العاصمة جزء من الدائرة الأمنية السيادية، وهي المعضلة الدفاعية التي تواجهها العواصم الواقعة على الأطراف، على عكس عواصم مراكز الدول التي تتمتع بعمق دفاعي يعزز الأمن القومي.

تجلَّى خلال سنوات الثورة السورية الأربع عشرة تعامل إسرائيل مع تهديدات أمنها القومي وفق التقسيم أعلاه، خصوصًا في الدائرة الأمنية المباشرة وغير المباشرة، حيث اتبعت إستراتيجيات متباينة مع تباين المخاطر الأمنية، فعلى مستوى الدائرة الأمنية المباشرة عملت إسرائيل على منع أي تمركز قوي وكبير للجماعات المسلحة في المنطقة الحدودية، سواء من المعارضة أو الميليشيات التابعة لإيران وحزب الله، وكثيرًا ما استهدفت أي محاولات للتمركز في تلك المنطقة مع متابعتها الدقيقة للمعارك في المجال الممتد بين ريف دمشق وريف القنيطرة، وقد ساعدها في ذلك إلى حدٍّ ما وجود بعض البلدات الدرزية في المنطقة، الذي لم يوفر حواضن اجتماعية للقوى المتصارعة، مما سهل عودة النظام إلى تمركزاته في المحافظة عقب تسويات عام 2018، الذي واصل التزام بنود اتفاق فض الاشتباك. أما في الدائرة الأمنية غير المباشرة فلم تتدخل في المواجهات بين القوى المتصارعة التي كانت تتمركز في المحافظات البعيدة عنها في شمال وشرق وغرب سوريا، وإنما تركز هجماتها على أهداف تشكل خطرًا على إسرائيل فقط، فقد شن الطيران الإسرائيلي مئات الغارات الجوية التي ضربت شحنات الصواريخ النوعية الموجهة لحزب الله، ونفذ اغتيالات لقيادات من الحزب والحرس الثوري([1]).

فوجئت إسرائيل بأحداث السابع من أكتوبر 2023، فقد أبرزت مكامن خلل كبيرة جدًّا في مقاربتها لأمنها القومي التي كانت تتمحور حول الردع باعتباره جوهر العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى إحداث مراجعة جذرية لمختلف أركان تلك العقيدة، ومن حينها تتحرك إسرائيل عسكريًّا بطريقة مختلفة أسقطت بموجبها كل قواعد الاشتباك مع خصومها إلى درجة الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، وتوجيه ضربات استباقية قوية جدًّا إلى حزب الله، مما ساعد -إضافة إلى عوامل أخرى- على إحداث التغيير في سوريا. وقد انعكست صدمة السابع من أكتوبر بشكل واضح على سلوكها عقب سقوط نظام الأسد، إذ هيمنت هواجس تكرار هجوم غزة على الحدود السورية، خصوصًا مع تكرار عنصر المفاجأة بعدم التنبؤ بانهيار نظام الأسد خلال أيام، لذلك تصرفت بدافع إحداث الصدمة على غرار ما حصل في غزة بعد 7 أكتوبر 2023([2]).

فعّل الاحتلال الإسرائيلي النزعة الهجومية في الحالة السورية، فشنَّ هجمات كبيرة ومتنوعة وسريعة دون وجود أي خطر مباشر، كإجراء وقائي خشية تعرضه لهجمات مشابهة على المدى القريب أو المتوسط، وهو ما أوصت به “لجنة نيغل” في تقريرها النهائي لجيش الدفاع الإسرائيلي، إذ طالبت القيادة العسكرية إلى جانب الحفاظ على القدرات الدفاعية وحتى توسيعها بتبنّي مفهوم العمليات الهجومية والوقائية، بطريقة تستخدم قوة الجيش الإسرائيلي، ليس فقط للدفاع ضد التهديدات ولكن من أجل إزالة التهديدات في أثناء تشكيلها أو قبل ذلك. يرى كثيرون أنه لم يعُد كافيًا بعد السابع من أكتوبر الاستناد إلى مفهوم الردع، بل صار ضروريًّا اللجوء إلى الضربات الوقائية([3]). تعبِّر تلك الهجمات من ناحية أخرى بشكل أو بآخر عن الحسم السريع، كونها حققت أهدافها في وقت قصير جدًّا دون أي رد فعل من “العدوّ”. كما أعلنت إسرائيل عن جملة من الأهداف التي ستعمل على تحقيقها في كل الدوائر الأمنية، تضمنت مختلف أبعاد العقيدة العسكرية الإسرائيلية التقليدية (الردع – الإنذار المبكر – الحسم) التي تسعى لإعادة ترميمها في مختلف الجبهات، مُستغِلّة النجاحات التي حققتها ضد خصومها، وهو ما سيناقشه المحور التالي.

ثانيًا: الأهداف الإسرائيلية في الدوائر الأمنية السورية بعد سقوط نظام الأسد

حقق سقوط نظام الأسد ووصول المعارضة إلى السلطة بعض المصالح لإسرائيل، في مقدمتها إنهاء الوجود الإيراني في سوريا وما يترتب عليه من تداعيات على نفوذ إيران في المنطقة، وتحديدًا قطع طرق الإمداد البرية من إيران إلى لبنان عبر العراق. ولكن في المقابل انهارت المعادلة الأمنية السابقة، لذلك يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى تحقيق كثير من الأهداف لاستعادة جوهر الوضع الذي كان قائمًا خلال حكم نظام الأسد، وتحقيق مكاسب إضافية اغتنامًا للفرص التي تتيحها خصوصيات المرحلة الانتقالية التي دخلت فيها سوريا لمنع تكرار وضع مشابه لما حصل في أكتوبر 2023 بقطاع غزة. ويمكن حصر أهم الأهداف الإسرائيلية والأدوات التي وظفتها لتجسيدها في دوائرها الأمنية الثلاث في النقاط التالية:

1. الأهداف والأدوات في الدائرة الأمنية السيادية:

تركزت هجمات أكتوبر 2023 على المستوطنات والمواقع العسكرية على الحدود مع قطاع غزة، كما كانت المستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية الأكثر تضررًا من المواجهات بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله في إطار ما اصطلح عليه الحزب بمعركة الإسناد، وهو ما اضطر المستوطنين إلى هجرة المنطقة، إذ إنّ معظم التفاعلات الأمنية من محاولات تسلل وإطلاق نار وقعت في نطاق التَّماس الحدودية بين الأردن وإسرائيل، لذلك شدد الجيش الإسرائيلي الرقابة الأمنية عبر بناء جدار. تبقى المناطق الحدودية الإسرائيلية من هذا المنطلق الأكثر عرضة للتهديدات الأمنية القادمة من سوريا، وعلى هذا الأساس فإنَّ تأمين المستوطنات في الجولان المحتل يأتي ضمن أولويات إسرائيل، وبحكم خضوع المنطقة لسلطتها، التي كانت تعيش وضعًا مستقرًّا لعدم وجود تهديدات نابعة من البيئة المحلية، وأيضًا لوجود القوات الأممية على الطرف الثاني من الحدود، فإنَّ الترتيبات الأمنية بقيت ضمن السياق التقليدي السابق، غير أنه فور سقوط نظام الأسد عزز الجيش الإسرائيلي حضوره العسكري أكثر من خلال تشكيل وحدة تدخُّل سريع، خصوصًا في مرتفعات الجولان السوري المحتل، تتركز مهماتها في حالة اقتضت الضرورة على منع أي هجوم على إسرائيل شبيه بهجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، حيث تكون جاهزة على مدار 24 ساعة في اليوم، لمدة سبعة أيام في الأسبوع، بغضّ النظر عن الأحداث. وتتألف هذه الوحدة من مقاتلين جرى انتقاؤهم من وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي والمخابرات العسكرية([4]). كما بدأ النظام الأمني ​​العمل على إنشاء حاجز برّي كبير على الحدود مع سوريا، سيتضمن سياجًا مزدوجًا وحاجزًا من التراب والخنادق، وتعزيزه -بالإضافة إلى السياج الموجود حاليًّا- بوسائل تكنولوجية وجمع معلومات استخباراتية إضافية، وسيكون طول السياج الحدودي بين إسرائيل وسوريا 92 كيلومترًا. فكرة الجدار الجديد تأتي ضمن “استخلاص” الدروس أيضًا من الجدار الذي اخترقته كتائب القسام خلال هجوم السابع من أكتوبر([5]). وأُجريت أيضًا مناورة عسكرية واسعة النطاق تحاكي تدهور الأوضاع الأمنية في منطقة هضبة الجولان([6]).

2. الأهداف والأدوات في الدائرة الأمنية المباشرة:

تبرز أهداف الإنذار المبكر في الدائرة الأمنية المباشرة التي تتيح للجيش الإسرائيلي قدرة أكبر على الدفاع عن الدائرة الأمنية السيادية بالدرجة الأولى وأمن إسرائيل عمومًا، لذلك عمد جيش الاحتلال إلى تعديل قواعد الاشتباك بطريقةٍ تمنحه مرونة في تنفيذ ضربات استباقية ضد أهداف عسكرية داخل سوريا، دون الحاجة إلى عمليات برية واسعة النطاق. ويُنظر إلى هذا النهج على أنه جزء من إستراتيجية الردع الإسرائيلي التي تهدف إلى تقليل المخاطر الأمنية على المدى الطويل([7]). على هذا الأساس وسّع الاحتلال الإسرائيلي المنطقة العازلة داخل سوريا ليمنح نفسه مجالًا أوسع للدفاع تفاديًا لأي هجوم على المستوطنات داخل الجولان المحتل، إذ باشر الجيش الإسرائيلي هذه العملية قبل سقوط نظام الأسد ببضعة أسابيع فقط، حيث فتَح في 22 سبتمبر 2024 ممرات على طول الحدود، في المنطقة العازلة الخاضعة لسيطرة قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب سوريا، “أوندوف”، وأزال الألغام الأرضية. وبعد أيام قليلة، تقدَّم لواء من الجيش الإسرائيلي مدعومًا بالدبابات والآليات الثقيلة مسافة 300 متر داخل الأراضي السورية. وشملت الأعمال تعبيد طريق جديد وحفر خنادق وإنشاء تحصينات ونقاط مراقبة جديدة بالقرب من الحدود. وبرَّرت تلك الخطوة حينها بتسهيل النشاط البري الإسرائيلي المستقبلي في الأراضي السورية على طول الحدود إذا لزم الأمر، ولمواجهة خطط الجماعات المسلحة الموالية لإيران المتمركزة في سوريا لغزو بري على غرار 7 أكتوبر في الجهة التي تسيطر عليها إسرائيل من الجولان([8]). ولكن مع سقوط نظام الأسد سارع الجيش الإسرائيلي إلى السيطرة على المنطقة العازلة التي كانت تتمركز بها قوات مراقبة فض الاشتباك التابعة للأمم المتحدة (أوندوف)، والبالغة مساحتها 145 ميلًا مربعًا. كذلك أقام الجيش الإسرائيلي مواقع جديدة داخل سوريا، وشق طرقًا للوصول إليها، وحفر خنادق، ونشر مئات الجنود هناك([9]).

تُعتبر السيطرة على قمة “جبل الشيخ” الذي انسحبت منه إسرائيل قبل خمسين سنة بموجب اتفاقية فض الاشتباك من أهم الخطوات الإسرائيلية في هذه المقاربة نظرًا إلى موقعه الإستراتيجي المشرف على العاصمة دمشق، وبسبب ارتفاعه الشاهق يُعَدّ نقطة مراقبة طبيعية تسمح بمراقبة التحركات العسكرية والمدنية في الدول المحيطة، ويمكن تركيب رادارات متطوّرة ومحطات إنذار مبكر على قممه، مما يمنح تفوقًا استخباراتيًّا وقدرة على التحذير من الهجمات الجوية أو البرية، وهو ما ستستفيد منه إسرائيل بطبيعة الحال، وسيعطيها القدرة على السيطرة لاحقًا في حال بقيت هناك([10]). ومع كل هذه المزايا طالَب نتنياهو الحكومة السورية بنزع سلاح جميع أراضيها، جنوب دمشق وحتى دمشق([11])، وهو الأمر الذي يصعب القبول به كونه يتعارض مع أبسط المقومات السيادية لأي دولة. وقد تضاربت التصريحات الإسرائيلية بين السيطرة المؤقتة إلى حين الحصول على ضمانات أمنية أو البقاء الدائم، كما قال مسؤولون إسرائيليون إنّ تل أبيب تحتاج إلى الاحتفاظ بمنطقة سيطرة عازلة بعمق 15 كيلومترًا داخل الأراضي السورية، بهدف التأكد من أن حلفاء النظام الجديد والموالين له لن يتمكنوا من إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل، كما تحتاج إلى مجال نفوذ يمتدّ إلى مسافة 60 كيلومترًا داخل سوريا، يسمح بسيطرة استخباراتية، بهدف مراقبة ومنع ظهور تهديدات أمنية محتملة([12]).

وضَع الاحتلال الإسرائيلي خارج المنطقة العازلة التي احتلّها شروطًا على طبيعة الوجود العسكري والأمني للسلطة الجديدة في هذه المنطقة، فإضافة إلى تدمير والاستيلاء على الأسلحة الثقيلة، يمنع أي تمركزات عسكرية على الحدود، وسمحت القوات الإسرائيلية للجيش السوري بالعمل كشرطة في البلدات الواقعة في شمال الجولان السوري على بعد 30 كيلومترًا من الحدود، لكنها أكدت أيضًا أن القوات الإسرائيلية تتنقل بحرّية عبر تلك البلدات في طريقها إلى 9 بؤر استيطانية جديدة شيّدها جيش الاحتلال داخل الأراضي السورية، التي يعتبرها الآن منطقة آمنة، حسب تقديره([13]). كما استغلّ الاحتلال الإسرائيلي تبنّي حماية الأقلية الدرزية، ومطالب حكمت الهجري في السويداء بالحصول على وضعية سياسية إدارية خاصة، وبذلك يعمل على تحقيق عديد من الأهداف، منها تحقيق حكومة نتنياهو هدفًا خاصًّا بها يتمثل في كسب الأقلية الدرزية داخل إسرائيل لصالحها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، إذ يأمل ائتلاف نتنياهو أن يؤدي توفير الحماية للدروز في سوريا إلى استمالة أفراد من الطائفة الدرزية الإسرائيلية([14]).

وظَّف الاحتلال الإسرائيلي الأدوات الناعمة لاستمالة الدروز السوريين بأشكال مختلفة على غرار تنظيم رحلات إلى داخل إسرائيل في مارس وأبريل 2025([15])، وتقديم بعض الخدمات الإنسانية، مستغِلًّا الأوضاع الاقتصادية التي تمرّ بها سوريا والحالة المعيشية الصعبة([16]). كما تحركت إسرائيل خلال أحداث “صحنايا” التي وقعت في أواخر شهر أبريل 2025 لتثبت أنها جادة في سياساتها الداعمة للدروز عبر توظيف الأدوات الصلبة، إذ لم تكتفِ بالمراقبة أو الضغط السياسي، بل نفّذت ضربات جوية استهدفت محيط أشرفية صحنايا ومواقع أخرى، وأعلنت رسميًّا أن الضربات كانت “تحذيرية”، كما شملت الغارات ضربة صاروخية قرب القصر الجمهوري في دمشق، بعد أقل من 24 ساعة على توقيع اتفاق تهدئة بين الحكومة وممثلي الطائفة الدرزية. في رسالة سياسية رمزية، مفادها أن إسرائيل لا تعترف بالشرعية الكاملة للحكومة الانتقالية، وأنّ أيّ مسار تسوية لا يمرّ عبر مصالحها، أو لا يأخذ أمن حدودها بعين الاعتبار، سيبقى عرضة للخرق([17]). ولتأكيد هذا الهدف وجعله حقيقة واقعية، كرَّرَت السلوك نفسه في أحداث السويداء خلال يوليو 2025، حيث نفّذ سلاح الجو الإسرائيلي غارات استهدفت قوات سورية حكومية في السويداء، ومواقع عسكرية في طريق الثعلة والشقراوية بريف السويداء، ومحيط اللواء 52 في الحراك بريف درعا، ثم صعدت أكثر بضرب مبنى قيادة الأركان ووزارة الدفاع ومحيط القصر الرئاسي مرة أخرى. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس: “إسرائيل أنهت مرحلة التحذيرات”، وتوعَّد بما وصفها بـ”ضربات موجعة” ضد مواقع تابعة لـ”النظام السوري، إذا لم تستجِب دمشق للمطالب الإسرائيلية”([18]). ولم تغفل أيضًا الأبعاد الناعمة خلال هذه الأزمة، إذ أعلنت السلطات الإسرائيلية إرسال مساعدات بقيمة مليونَي شيكل إلى أبناء الطائفة الدرزية في السويداء تتضمن حزم غذائية، وتجهيزات طبية، وأطقم إسعافات أولية، وأدوية([19]).

التوسع الإسرائيلي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو %D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%B3%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7-%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-1024x718.jpg

المصدر وكالة الأناضول: https://www.aa.com.tr/ar/info/%C4%B0nfografik/42665

3. الأهداف والأدوات في الدائرة الأمنية غير المباشرة

تندرج الترتيبات الأمنية الإسرائيلية الجزئية المشار إليها في الدوائر السابقة ضمن رؤية شاملة تتمثل في سوريا بوصفها دولة مجاورة من حيث مختلف مقومات قوتها الجغرافية السياسية، وموقعها في المعادلات الإقليمية والدولية، وما قد ينجر عنها من تأثيرات في الأمن القومي الإسرائيلي. انطلاقًا من هذا التصور فإنَّ أبرز الأهداف الإسرائيلية تجاه الدولة السورية يتمثل في ما يلي:

أ. دولة ضعيفة على حافة الفشل:

تتخوف إسرائيل من تحوُّل سوريا إلى قوة كبيرة بالقدر نفسه الذي تتخوف منه من تحولها إلى دولة فاشلة، لذلك تهدف إلى بقائها ضمن دائرة الدولة الضعيفة الأقرب إلى الفاشلة من الدولة القوية، لأن تحوّل سوريا إلى دولة فاشلة تعمّ فيها الفوضى يُعتبر أيضًا خطرًا على إسرائيل لعدم وجود قوة مسيطرة ومهيمنة على الأرض. ورغم تأكيد السلطة السورية الجديدة أنها لن تكون مصدر تهديد لأي دولة، بما في ذلك إسرائيل، فإنه في المنظور الأمني الإسرائيلي ستبقى سوريا مصدر مخاطر أمنية، سواء على المدى المتوسط أو البعيد، ويتعزز هذا التصور أكثر بعد الخداع الإستراتيجي الذي وقعت فيه من طرف حركة حماس قبل أحداث أكتوبر 2023، لذلك سيكون هدفها بقاء سوريا ضمن مجال لا يسمح لها بامتلاك عناصر القوة العسكرية التي يمكن أن تشكل خطرًا على إسرائيل.

ب. دعم مستويات من استقلال حكم الأقليات:

تُعَدّ ورقة الأقليات من أهم الأدوات التي يمكن من خلالها إضعاف الدولة المركزية السورية، وذلك عبر منح أشكال مختلفة من استقلالية الحكم للأقليات التي ينتشر أغلبها على أطراف الدولة، بما يحُول دون هيمنة المكون السنّي الذي يمثل أغلبية المجتمع السوري، فإضافة إلى دعم الدروز الذي سبقت الإشارة إليه، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مارس 2025 عن خطط لإنشاء مناطق نفوذ من خلال عقد تحالفات مع الأقليات داخل سوريا([20]). لذلك ستعمل إسرائيل على المستوى الثنائي عبر التنسيق المباشر مع الأقليات أو من خلال الضغط على الحلفاء لإعاقة جهود الحكومة السورية لتسوية الخلافات مع الأقليات، خصوصًا الكردية والدرزية، كما ستدعم الجماعات الانفصالية وأنشطتها العسكرية للوصول إلى هذا الهدف أو على الأقل زعزعة أمن واستقرار الدولة.

ج. تفكيك الترسانة العسكرية والحدّ من برامج التسلح السورية:

يستطيع النظام الجديد باعتباره فاعلًا دوليًّا يتمتع بكل الحقوق السيادية للدولة أن يدخل في تحالفات إقليمية، ويعقد صفقات تمكّنه من الحصول على مختلف أنواع الأسلحة الحديثة والمتطوّرة حسب قدراته المالية وتحالفاته. مِن هُنا فإنّ امتلاك النظام الجديد لترسانة أسلحة نوعية يُعتبر من المخاطر التي تهدف إسرائيل إلى منعها بمختلف الوسائل، لذلك شنَّت عند سقوط نظام الأسد عشرات الهجمات الجوية التي دمّرت أغلب الترسانة العسكرية السورية من طائرات ومستودعات صواريخ. ولاحقًا استمرَّت في القيام بعمليات مشابهة، مُستهدِفةً قواعد عسكرية عديدة، أبرزها قاعدتا T4([21]). وعلى الأرجح ستعمل على منع إعادة تسليح الجيش السوري عبر اشتراطات سياسية على القوى الإقليمية والدولية وربط ذلك بالعقوبات، أو القيام بهجمات جوية في حال فشلت في أهدفها بالأدوات السياسية. ولعل الغارات الجوية العنيفة التي شنّها الطيران الإسرائيلي على مستودعات أسلحة باللاذقية في نهاية شهر مايو 2025 مؤشر على هذا التوجه، كونها جاءت بعد أسابيع من لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع والقرارات التي اتخذها لدعم حكومته.

د. منع سوريا من التحول إلى قاعدة لشن الهجمات:

يصعب على الميليشيات التابعة لإيران معاودة النشاط داخل سوريا فضلًا عن القيام بأنشطة عسكرية ضد إسرائيل بحكم العداء المستحكم بينها وبين السوريين مجتمعًا ودولة، لذلك فإنَّ هذا موقف سوري ليس له علاقة بالجانب الإسرائيلي، كما أن جنوب لبنان تتوفر فيه المزايا التي تتيح لهذه الجماعات النشاط فيها. أما الجماعات الفلسطينية فرغم التحفظ السوري عن بعضها بنِسَب متفاوتة فإنّ إمكانية نشاطها الرسمي وغير الرسمي تبقى واردة لاعتبارات سياسية واجتماعية، منها وجود المكون الفلسطيني ضِمن مكونات المجتمع السوري (مخيمات اللاجئين)، واستمرار فكرة المقاومة بينهم، وموقف الشعب السوري المتعاطف مع الفلسطينيين الذي يتيح المجال لوجود حاضنة اجتماعية للمؤيدين للفصائل الفلسطينية. وقد ينحصر الدعم والنشاط في الجانب المالي والسياسي على الأقل، سواء بدعم حكومي علني أو دعم مجتمعي تغضّ السلطة الطرف عنه أو حتى ممنوع ولكن يجد مؤيدين في المجتمع. لذلك سيعمل الاحتلال الإسرائيلي على منع نشاط هذه الفصائل ولا يستبعد القيام بعمليات خاصة أو شن هجمات عسكرية تستهدف الفصائل الفلسطينية أو السوريين الداعمين لها.

ثالثًا: التحديات التي تواجه إسرائيل في سوريا

يواجه الاحتلال الإسرائيلي عديدًا من التحديات التي تحُول دون تحقيق أهدافه بالشكل الذي يريده، تتباين هذه التحديات من دائرة أمنية إلى أخرى، خصوصًا على المدى المتوسط والبعيد، ويمكن إجمالها في النقاط التالية:

1.التحديات في الدائرة الأمنية السيادية:

تمنح سيادة إسرائيل على هذه الدائرة كل الإمكانات لتحقيق أهدافها في المحافظة على الأمن والاستقرار، ولكن ذلك لا يمنع من بعض التحديات، لعل أهمها:

أ. احتجاجات واضطرابات درزية نتيجة الصراع في سوريا:

الروابط الطائفية التي تجمع بين دروز سوريا وإسرائيل تؤدي إلى حركة تأثير وتأثر في الاتجاهين، ولذلك فإنّ الصراعات الأهلية في سوريا قد تكون لها امتدادات يعبّر عنها بأشكال مختلفة داخل إسرائيل، وقد عكست مواجهات السويداء في يوليو 2025 هذا النوع من التحديات، إذ تسلل عشرات الدروز من إسرائيل إلى سوريا، واتهم الجيش الدروز باستخدام العنف ضد الجنود. وقال إنّ السلطات «تنظر ببالغ الخطورة إلى أي مظهر من مظاهر العنف تجاه قوات الأمن»، مؤكدًا أن التسلل إلى سوريا يُعَدُّ جريمةً جنائيةً خطيرةً، وسيُتعامَل معها وَفْقَ القانون. واتهمت وسائل إعلام إسرائيلية الجيش بالتقاعس عن ردع الدروز المتسللين([22])، كما نظمت وقفات احتجاجية ومظاهرات تندد بعدم تدخل الجيش الإسرائيلي لحماية “إخوتهم” السوريين بعد رفض قوات العشائر الاستجابة لوقف إطلاق النار الذي أعلنت عنه الحكومة السورية صباح يوم السبت 19 يوليو. رغم القدرة الكبيرة للسلطات الإسرائيلية على مواجهة هذا النوع من التحديات، لكنها تبقى مطروحة.

ب. انتقال التهديدات الأمنية إلى داخل إسرائيل عبر الدروز:

اتخذت إسرائيل عديدًا من الخطوات لاستمالة دروز سوريا باتجاهها، ومن بين تلك الخطوات منح الدروز السوريين تصاريح للعمل داخل إسرائيل، إذ أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس في سياق الحديث عن دعم الدروز وحمايتهم عن نية تل أبيب استقدام عشرات العمال الدروز من سوريا للعمل في قطاعَي الزراعة والبناء بإسرائيل. لكن الحكومة الإسرائيلية سرعان ما تراجعت عن القرار لأسباب أمنية على الأرجح، إذ برز تخوُّف من إمكانية استغلال بعض القوى المعادية لها هذه التصاريح لاختراق الداخل الإسرائيلي وتنفيذ هجمات انتقامية، خصوصًا مع ظهور بوادر مقاومة للوجود الإسرائيلي في ريف درعا([23]). وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى العلاقة المضطربة بين الدروز في الجولان المحتل والسلطات الإسرائيلية نتيجة المعاملة العنصرية لهم والامتيازات الكبيرة لصالح المستوطنين، ولا يستبعد كأحد الاحتمالات (وان كان غير مرجح) أن يؤدي تنامي تفاعلهم مع “أبناء جلدتهم” في سوريا إلى تشكل جماعات وخلايا من داخل الطائفة الدرزية لمواجهة الاحتلال، خصوصًا إذا حصلت تطوّرات إقليمية تسمح بذلك([24]).

2. التحديات في الدائرة الأمنية المباشرة:

يتمثل أهم التحديات على مستوى الدائرة الأمنية المباشرة في ما يلي:

أ. بروز مقاومة في درعا بوصفها منطقة حدودية:

تقع محافظة درعا التي تسكنها أغلبية سنّية بين محافظتَي القنيطرة والسويداء اللتين تقطنهما أغلبية درزية، لم يواجه الجيش الإسرائيلي خلال توغله في جنوب سوريا أي مقاومة باستثناء تصدي مجموعات مسلحة محلية من درعا لتوغلاته في بداية شهر أبريل 2025، كما تبنَّت جماعة مسلحة تحت اسم “كتائب أحمد الضيف” إطلاق صاروخين على الجولان المحتل في 04 يونيو 2025. لا يُستبعد أن يتكرر هذا النوع من المواجهات وحتى يتوسع في حالة ما إذا قررت إسرائيل التمدد في المنطقة للسيطرة عليها أو دعم الدروز، أو عقد اتفاق مع الحكومة السورية، وغيرها من الاحتمالات، والبنية الديمغرافية للمحافظة تجعلها حاضنة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، التي يمكن أن تنتشر أكثر إذا أخفقت السلطة المركزية في عملية احتكار مؤسسات الدولة للسلاح، وقد تكون سياسات إسرائيل أحد عوامل هذا الفشل الذي قد ينعكس على أمنها القومي بحيث تصبح درعا جاذبة للفصائل المعادية لإسرائيل أمام الحواجز التي تشكلها الفصائل المسلحة الدرزية في القنيطرة والسويداء.

ب. مخاطر الصراع داخل الأقلية الدرزية:

ينشط في المناطق الدرزية، خصوصًا في السويداء، عديد من المرجعيات الدينية والتيارات السياسية والميليشيات التي تتباين مواقفها حول عديد من المسائل، كالعلاقة مع نظام الأسد سابقًا([25])، والحكومة المركزية حاليًّا، والدعم الإسرائيلي([26]). ولكن مع ذلك حافظت هذه التوجهات على الإدارة السلمية لتبايناتها، غير أن انتقال العلاقة مع السلطة المركزية في دمشق من السجال السياسي إلى المواجهة العنيفة على غرار اقتحام مكتب محافظ السويداء في مايو 2025، واحتجازه من طرف جماعة خارجة عن القانون، الذي أدانه كثير من الفاعليات الدرزية، قد يُنذِر هذا السلوك حالةَ تكراره بأشكال أخرى واتساعه باحتمالات تطوّر الخلافات بين المكونات الدرزية إلى مواجهات مسلحة داخل الطائفة. وبكل تأكيد لا يخدم هذا المصالح الإسرائيلية، إذ يسهل من إمكانية استغلال أطراف مناوئة لتلك الصراعات لضرب أهداف إسرائيلية، خصوصًا إذا كان العامل الإسرائيلي سببًا مباشرًا لصراع مسلح بين الدروز.

3. التحديات في الدائرة الأمنية غير المباشرة:

يكمن أهم التحديات التي تواجه إسرائيل على المستوى المركزي السوري التي قد تعوق تجسيد إستراتيجيتها في ما يلي:

أ. نجاحات السلطة السورية الجديدة:

حققت الحكومة السورية بفضل الدعم الخليجي-السعودي-القطري مكاسب كبيرة جدًّا في ظرف وجيز، ولعل أهمها قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا تلبية لطلب سعودي خلال جولته لدول الخليج في منتصف شهر مايو لإتاحة الفرصة للحكومة الجديدة للقيام بمهامها، أعقبها إقدام الاتحاد الأوروبي على خطوة مماثلة في 20 مايو، ثم رفع واشنطن اسم هيئة تحرير الشام من قائمة الجماعات الإرهابية في 7 يوليو. لطالما عوّلت إسرائيل على الدعم الغربي لانتزاع تنازلات من الدول العربية والإقليمية التي كانت تستجيب للمطالب والشروط الإسرائيلية في علاقاتها مع الدول العربية، والمواقف الغربية من السلطة السورية الجديدة لم تخرج عن هذا الإطار. وإضافة إلى الشروط المتعلقة بحقوق الأقليات والإنسان ومكافحة الإرهاب وغيرها من الشروط التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، كان الدور الإسرائيلي يتمثل في إدراج مصالحه بشكل صريح أو ضمنيًّا للاعتراف الدولي ورفع العقوبات. ولعل حضور الملف السوري في أجندة لقاء بنيامين نتنياهو مع الرئيس ترامب والحديث عن تطبيع العلاقات بين البلدين أبرز المؤشرات عن حجم الترابط بين المسألتين. وبالتالي فإنَّ استمرار الإنجازات السورية دون تطبيع لا يخدم المصلحة الإسرائيلية، إذ يجعل العلاقة في سياق ثنائي دون غطاء دولي تستظل به إسرائيل. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى العلاقة التبادلية بين البعدين الداخلي والخارجي، فأي مكاسب تحققها الحكومة الانتقالية دوليًّا من قبيل رفع العقوبات عنها يعزز سلطتها داخليًّا ويقوض تعويل الأطراف المناوئة للحكم الجديد للاعتماد على القوى الخارجية، كما أن أي نجاحات داخلية على مختلف الأصعدة، خصوصًا الأمنية منها، يرفع أسهم الحكومة أمام المجتمع الدولي كونه يثبت قدرتها على السيطرة وإدارة البلاد، مما يفسح المجال لمزيد من المكاسب للانخراط في السياسات الدولية والاندماج في الاقتصاد العالمي. وكل هذا لا يخدم مصلحة إسرائيل التي ترغب في استمرار الاضطرابات الأمنية والسياسية، مما يعوق الاعتراف الدولي بالنظام الجديد وبالتالي بقاء سوريا في مستوى الدولة الضعيفة.

ب. عدم الاستقرار في سوريا:

تحفّ السياسات الإسرائيلية تجاه سوريا مخاطر انهيار النظام الجديد ودخول البلاد في أتون حرب أهلية تتيح المجال لعديد من الأخطار التي يصعب مواجهتها، كما ستكلف الجيش الإسرائيلي موارد مالية وبشرية كبيرة، إذ في هذه الحالة قد تبرز جماعات مناوئة للاحتلال الإسرائيلي كحماس وغيرها من التنظيمات السورية وحتى القاعدة، كما أنّ إضعاف الحكومة المركزية في دمشق يتماشى مع مصالح إيران، التي ستسعى إلى الحفاظ على قنوات نفوذ جديدة في البلاد، معتمدةً على الموالين السابقين، وكذلك على بقايا شبكات وكلائها، متنافسةً مع إسرائيل على النفوذ على هذه المجتمعات([27])، لذلك فإنّ انهيار الأوضاع تمامًا في سوريا ودخولها في حالة عدم استقرار يشكل تحديًا موازيًا لتحدي التطوّر الذي ترغب فيه، مما يجعل الموقف الإسرائيلي يتحرك وفق معادلة دقيقة تضع فيها النظام السوري داخل دائرة تمنحه القدرة على تسيير الوضع القائم في الحدود التي تسمح له بالبقاء فقط مع شغله بمشكلات متعددة تجعله في حالة شبه إنهاك مستمر.

ج. دعم القوى الإقليمية لسوريا:

احتضنت القوى الإقليمية، وتحديدًا المملكة العربية السعودية وتركيا، السلطة الجديدة من اللحظة الأولى لسقوط الأسد، وهي تقوم إلى جانب قطر والامارات بجهود كبيرة جدًّا في دعم النظام السوري الانتقالي، وقد كللت تلك الجهود بنجاحات كبيرة جدًّا، إذ أسهمت في انتزاع الحكومة تدريجيًّا الاعتراف الدولي، ورفع العقوبات على سوريا، كما تُقدِّم دعمًا ماليًّا كبيرًا لتعجيل تعافي اقتصاد البلاد، فعلى هامش “منتدى الاستثمار السوري-السعودي 2025” الذي نظم يوم 24 يوليو 2025 كشف وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح عن توقيع 47 اتفاقية لاستثمار 24 مليار ريال (6.4 مليار دولار) في سوريا، منوّهًا بأن أكثر من 500 شركة سعودية ترغب في استكشاف فرص الاستثمار في سوريا([28]). ويبرز الدور التركي أكثر في البعد الأمني والعسكري، خصوصًا تجاه ملف الأكراد المشترك بين الطرفين، فقبل الخطوة الاقتصادية السعودية تجاه سوريا بيوم واحد فقط أعلنت تركيا أن الإدارة السورية المؤقتة برئاسة أحمد الشرع طلبت منها رسميًّا الدعم لتعزيز قدراتها الدفاعية ومكافحة التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها «داعش»، وطالبت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بتنفيذ الاتفاق الموقع مع دمشق للاندماج في الجيش السوري([29]). تتصادم هذه الأدوار مع المصالح الإسرائيلية، لذلك تعمل تل أبيب على عرقلة هذه الأنشطة من خلال الدبلوماسية المضادة ودعم الأقليات كما سبقت الإشارة.

د. تحوُّل السياسات الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط في ظل حكم الرئيس ترامب:

يتبنى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توجهات في السياسة الخارجية مختلفة في كثير من مقارباتها وبعض أهدافها عن التوجهات التقليدية للمؤسسات الأمريكية التي دخل في مواجهة معها لإزاحتها من أمامه حتى لا تعوق تطبيق تصوراته. أثبت التدخّل الأمريكي في الحرب بين إيران وإسرائيل في يونيو 2025 محدودية الخلافات بين الطرفين، التي طرحت فرضية توظيفها في إطار خداع إستراتيجي، ومع تأكيد الجدل حول مدى تعارض المصالح الأمريكية والإسرائيلية على المستوى الإستراتيجي، خصوصًا في ظل حكومة في تل أبيب يهيمن عليها اليمين المتطرف، إلا أنه في هذه الفترة تتناقض سياسة إسرائيل الحالية مع مبدأ أساسي مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة، وهو ضرورة تعزيز الحكومات المركزية في الدول العربية الهشة لتتمكن من مواجهة الجهات الفاعلة غير الحكومية بشكل أفضل، التي قد تستغلها إيران لتوسيع نفوذها، لا سيَّما في لبنان (عبر حزب الله) والعراق (عبر الميليشيات الشيعية الموالية لإيران)([30]). لذلك لا يستبعد أن تمنع الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل من مواصلة تنفيذ سياساتها تجاه سوريا، أو حتى إرغامها على خطوات معاكسة على غرار مطالبة ترامب لنتنياهو بتسوية خلافاته مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

هـ. هواجس أكتوبر 2023:

تتقاطع حركة حماس مع السلطة الجديدة في سوريا في كونهما تمثلان مع الفوارق حالة انتقالية من الفاعل اللا دولتي إلى الفاعل الدولتي باعتبار أن حماس حكمت قطاع غزة منذ انتخابات 2006، وكان هذا المحدد أحد أبعاد الخداع الإستراتيجي الذي مارسته لتنفيذ عملية “طوفان الأقصى”، فقد سوّقت من خلال جملة من السياسات والقرارات إلى مجتمع المخابرات الإسرائيلية أنّ اعتبارات إدارة القطاع ومواصلة حكمه فرضت عليها تدريجيًّا التخلي على فعل المقاومة لصالح الحكم، وهي بالتالي تسير على خطى السلطة الفلسطينية، مما دفع المحللين الاستخباراتيين إلى استبعاد تنفيذ الحركة أي هجوم. وفق إستراتيجية الردع السابقة كان يفترض أن تتعظ حركة حماس مما حصل لحزب الله في 2006، حيث أدى الهجوم وأسر الجنديين إلى شن الجيش الإسرائيلي هجومًا عسكريًّا لمدة أربعة وثلاثين يومًا، دمرت فيه البنية التحتية لجنوب لبنان، وبالتالي كان يُفترض أن يردع ذلك حماس من شن هجوم لتعرضها لعقاب مماثل. وضمن هذا التصور يُفترض أن يكون ما يحصل في قطاع غزة رادعًا للنظام الجديد في دمشق. ولكن هجوم أكتوبر 2023 كشف أن إسرائيل قد وقعت في فخّ تصوّر نمطي ومبسّط لطبيعة العلاقة مع خصومها، خصوصًا مع حركة حماس، مما دفع بإسرائيل إلى إعادة النظر في إستراتيجيتها الأمنية. التقديرات الحالية تذهب إلى أن الردع الكلاسيكي لم يَعُد مجديًا مع أطراف خارج إطار الدولة ذات عقيدة جهادية. وبدلًا من ذلك، بدأت تظهر دعوات نحو تبنّي مفهوم “الحسم”، أي القضاء التامّ على العدوّ، ما يعني الانتقال من منطق الردع النسبي إلى معادلة صفرية: إما نحن وإما هُم([31]).

انطلاقًا من هذا ستبقى هواجس هجوم أكتوبر 2023 كامنة في الإدراك الإسرائيلي، فرغم كل خطوات الطمأنة التي تقوم بها السلطة الجديدة في سوريا، قد تُقرأ إسرائيليًّا بأنها خداع إستراتيجي إلى حين امتلاك عناصر القوة التي تتيح المجال في المدى المتوسط لشن هجوم عليها كما فعلت حركة حماس. وهنا يبرز عديد من الاحتمالات، فبالقدر الذي تكون فيه الهجمات الاستباقية الإسرائيلية رادعة للنظام السوري، خصوصًا أنه خرج من حرب مدمرة لمدة أربع عشرة سنة تعرَّض فيها جزء كبير من الشعب السوري لويلات حرب مماثلة لما يحصل في القطاع، وربما أكثر في بعض الأحيان والمناطق، فإنه في الوقت نفسه وانطلاقًا من الخلفية الأيديولوجية قد يكون ذلك -باعتباره أحد السيناريوهات- محفزًا على خوض الحرب كما فعلت حركة حماس.

و. فتح حرب طويلة على الجبهة السورية:

تجتمع في سوريا نقاط قوة حزب الله وحماس، وتغيب فيها نقاط ضعفهما كذلك، فعلى غرار حزب الله وعلى عكس حماس تتمتع سوريا بعمق إستراتيجي دفاعي على امتداد مساحة سوريا في المناطق التي تنتشر فيها الأغلبية السنّية، وهذا يمكّن من وضع خطوط دفاع، والقدرة على امتصاص الهجمات وإعادة تجميع عناصر القوة، وبناء هجمات مضادة. وتتقاطع السلطة الجديدة مع حماس في المحدد الأيديولوجي في نزعته الجهادية المستقلة، على عكس حزب الله الذي يخضع بشكل مطلق لولاية الفقيه. هاتان الخاصيتان تجعلان أي مواجهة عسكرية بين الجيش السوري الجديد، الذي ما زال قريبًا من الحالة الميليشياوية مع الجيش الإسرائيلي، محفوفة بسيناريو الحرب الطويلة، نظرًا إلى صعوبة حسمها السريع، خصوصًا عندما يأخذ بعين الاعتبار إمكانية تحوّل المواجهة إلى حالة ميليشياوية مكونة من فصائل مسلحة هجينة بين حكومية وعشائرية وغيرها، وبالتالي فإنّ تجاوز إسرائيل لبعض الخطوط الحمراء كتكرار سيناريو حزب الله باستهداف قادة السلطة الجديدة السياسيين والعسكريين، قد يقود إلى حرب استنزاف جديدة للاحتلال الإسرائيلي. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن فارق القوات لا يمكنه حسم الصراع نظرًا إلى ترجيح الكفة الديمغرافية والجغرافية لصالح الجانب السوري، كما أن البعد العسكري الجوي الذي تتفوق فيه إسرائيل لن يحقق مكاسب إستراتيجية دون عمل برّي، والطرف الآخر قد يجد أدوات للحد من تأثير عناصر التفوق الإسرائيلية كما حصل في المواجهات بالسويداء حين أقدمت قوات العشائر على إحراق الإطارات بكثافة وشن المعارك في الليل لعرقلة الهجمات الجوية الإسرائيلية.

ح. تنازلات اتفاق التطبيع

لا يتخوف الاحتلال الإسرائيلي من حرب شاملة بقدر تخوفه من الهجمات اللا تماثلية التي يمكن أن تقوم بها مجموعات تستهدف المستوطنات الإسرائيلية في الجولان، مما يجعله يحبذ عدم التخلي عن الأراضي التي احتلّها عقب سقوط نظام الأسد نظرًا إلى حاجته المستمرة إلى مزيد من الأراضي والرغبة التوسعية، وهواجس أكتوبر 2023 التي تعزز الحواجز الدفاعية المتقدمة، حيث غيّر الجيش الإسرائيلي عقيدته على طول حدود إسرائيل، فراح يركز على العمل الاستباقي وإيجاد ما يسمى المناطق العازلة داخل أراضي الخصوم([32]). وفي المقابل، من بين المطالب السورية للتوصل إلى اتفاق تطبيع أو ضبط الأمن، العودة إلى مضمون اتفاقية فض الاشتباك وما تقتضيه من تنازلات تتعارض مع جوهر الإستراتيجية الأمنية الدفاعية الإسرائيلية في نسختها المعدلة بعد هجمات أكتوبر 2023، لذلك فإنّ تقديم أيّ تنازل يُعتبر تحديًا كبيرًا لإسرائيل، مما يجعل العلاقة بين الطرفين دون إطار قانوني ملزم، وهو ما يحدّ من المناورات الدبلوماسية الإسرائيلية ويعزز موقف الحكومة السورية.

السيناريوهات المستقبلية

يصعب تقييم مدى نجاح أو فشل الإستراتيجية الإسرائيلية نظرًا إلى الطبيعة التوسعية للاحتلال، والتحولات في عقيدته الدفاعية التي ترجح النزعة الوقائية والاستباقية، ومع ذلك تتراوح السيناريوهات المستقبلية للإستراتيجية الإسرائيلية في سوريا بين النجاح التام أو الفشل التام أو النجاح الجزئي، حيث تحقق رغباتها في ملفات وتخفق في ملفات أخرى، ويمكن الإشارة من منظور كلي إلى السيناريوهات الثلاثة التالية:

السيناريو الأول: نجاح الإستراتيجية

التوصل إلى اتفاق تطبيع شامل هو الملمح الأبرز في هذا السيناريو، إذ تخضع السلطة الجديدة في سوريا للشروط الإسرائيلية وتقبل بتوقيع اتفاق جديد تتنازل بموجبه عن الجولان لصالح السيادة الإسرائيلية، مقابل وعود على تسويات للمناطق التي احتلها الجيش الإسرائيلي عشية سقوط نظام الأسد. أبرز مؤشرات هذا السيناريو يتمثل في جولات المفاوضات التي جرت بين الطرفين، واللقاءات المباشرة التي جمعت مسؤولين من البلدين، أهمها لقاء وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمير في باريس، وتتمثل فرص هذا السيناريو في حالة الضعف التي تواجهها الحكومة الانتقالية في سوريا والمشكلات المتنوعة التي تعاني منها في مختلف المجالات، خصوصًا الاضطرابات الأمنية في المناطق التي تتمركز فيها الأقليات، والدور الإسرائيلي المعلن والعملي في كثير منها، وبالتالي قد تجد السلطة في دمشق نفسها مضطرة إلى تقديم تنازلات كبيرة جدًّا مقابل المحافظة على استمرارها. في المقابل يواجه هذا السيناريو تحديات كبيرة، لعل أهمها أن المطالب الإسرائيلية بداية بالتنازل عن الجولان ووصولًا إلى شكل نظام الحكم الذي يمنح الأقليات امتيازات ووضعًا خاصًّا، يستحيل على الحكومة السورية قبولها كونها ستؤدي إلى فقدانها لشرعيتها، وقد تقود إلى حالة تمرد أو انقلاب من داخل بنية السلطة السورية الجديدة، هذا فضلًا عن أن النظام الجديد لديه بعض الأوراق الداخلية والخارجية التي تتيح له مجالًا للتحرك دون الوصول إلى هذه المرحلة الاستسلامية، تأسيسًا على كل هذا فإنّ احتمالات هذا السيناريو متدنية.

السيناريو الثاني: فشل الإستراتيجية

قد تتمكن السلطة السورية تدريجيًّا من تفكيك بؤر التوتر وتحييدها، ونسج تحالفات إقليمية ودولية تؤدي إلى إضعاف القوى الانفصالية والمعارضة المسلحة في مناطق الأقليات، تعطل بموجبها الأدوات الإسرائيلية في الداخل السوري بما يشل حركتها، وأيضًا التوصل إلى اتفاقية دفاعية مع تركيا تحدّ من الاكتساح العسكري الإسرائيلي لسوريا، ولا يستبعد في هذا السياق أن تتيح دمشق المجال لأنشطة عسكرية ضد إسرائيل لإرغامها على وقف عدوانها عليها. لكن في المقابل الطرف الإسرائيلي يملك هو الآخر أوراقًا يمكن أن يوظفها إذا ما لاحظ تحولًا شاملًا لصالح النظام السوري الجديد، ولا يستبعد في هذه الحالة شن حرب خاطفة تغتال فيها أغلب قيادات السلطة الحالية كما حصل مع حزب الله اللبناني، وحاولت فعله مع النظام الإيراني. ومع الأخذ بعين الاعتبار مؤشرات السيناريو السابق المتداخلة مع هذه المؤشرات فإنّ احتمالات فشل الإستراتيجية الإسرائيلية مقابل نجاح الإستراتيجية السورية أيضًا متدنية لفارق القوة الكبير.

السيناريو الثالث: النجاح الجزئي للإستراتيجية

يُعتبر عدم وجود تهديدات أمنية مباشرة من سوريا باتجاه إسرائيل، سواء بشكل مباشر عبر الجولان أو غير مباشر، كممر إلى لبنان ثم إسرائيل، مكسبًا إستراتيجيًّا، ولكنه يبقى غير كافٍ، خصوصًا بعد عمليات أكتوبر 2023، كما أن الاحتلال الإسرائيلي حقق مكاسب إضافية عقب سقوط نظام الأسد بتوسعه في مناطق جديدة. وفي المقابل لا توجد حاليًّا تهديدات أمنية تشكل عبئًا عسكريًّا يضطره إلى عقد اتفاق لا يحافظ فيه على هذه المكاسب، بما في ذلك العودة إلى اتفاق فض الاشتباك السابق. كما أنها تسير في تحقيق أهدافها الأخرى داخل سوريا، إذ حققت بعض المكاسب في المواجهة العسكرية التي جرت في السويداء في يوليو 2025، ولكن من ناحية أخرى تُعتبر هذه الإنجازات شكلية إذا لم تتوَّج باتفاق مع الحكومة السورية يقنّنها، لذلك تبقى إنجازاتِ أمرٍ واقعٍ تضمن لها مصالحها مع مواصلة مزيد من الضغوط لتحقيق الأهداف الأخرى كلما سمحت الظروف والتطوّرات. وهذا هو السيناريو الأرجح، إذ ستبقى العلاقات تتراوح بين المفاوضات والضغوط وتحقيق المكاسب تدريجيًّا مقابل مناورات سورية تعمل على كسب الوقت وتحييد أكبر قدر ممكن من الأخطار الداخلية.

الخلاصة:

اتخذت الحكومة الإسرائيلية عديدًا من الخطوات العسكرية والسياسية عشية سقوط نظام الأسد، حققت بموجبها إنجازات عديدة تضاف إلى تلك التي حققتها مع لبنان وإيران تعويضًا لخسائرها في الجبهة مع قطاع غزة، فقد سيطرت على أراضٍ إستراتيجية جديدة تتيح لها الإنذار المبكر، وتمنح عناصر تفوّق عسكرية إضافية تعزز إستراتيجية الردع. تبقى المنجزات الإسرائيلية قصيرة المدى، ولكي تحوّلها إلى مكاسب بعيدة المدى صاغت جملة من الأهداف في مختلف دوائرها الأمنية مع سوريا، وزاوجت في العمل على تجسيدها بين آليات القوة الناعمة والقوة الصلبة.

تتيح الحالة السورية الداخلية عديدًا من الأوراق لإسرائيل، لعل أهمها ضَعف الدولة المركزية وتدهور الأوضاع الاقتصادية نتيجة تركة حكم البعث قبل عقود، والحرب في السنوات الأخيرة، ووجود ميليشيات على الأرض لديها الرغبة في العمل العسكري وتتمتع بتمركزات جغرافية وحواضن اجتماعية من الأقليات التي تنتمي إليها، غير أن هذا لا ينفي في المقابل وجود تحديات تعوق الإستراتيجية الإسرائيلية، يتلخص أهمها في صعود القوة السورية، إذ تقوم محصلة التطوّرات في البلاد على المدى المتوسط والبعيد إلى أن تتحول إلى قوة إقليمية، وهذا ما تعتبره إسرائيل خطرًا يجب منعه من الأساس. كما أن فائض القوة الإسرائيلي تقابله المخاطر التي تترتب عليه، إذ يمكن أن تنزلق التدخّلات العسكرية الإسرائيلية في سوريا نحو سيناريوهات غير متوقعة تتصادم مع السيادة السورية وعمقها المجتمعي. تعكس هذه التعقيدات صعوبة التوصل إلى تسوية ما بين الطرفين، وترجح اتجاه العلاقات السورية-الإسرائيلية إلى البقاء في مستوى التصعيد المحدود وحتى الانزلاق إلى الحرب الشاملة.

وسيتمحور الصراع حول الوقت، إذ تطمح إسرائيل إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب في أقرب وقت ممكن، فيما تعمل الحكومة السورية على الموازنة بين مختلف الملفات لربح الوقت لتجاوز التهديدات الإسرائيلية تدريجيًّا.

([1]) لتفاصيل أكثر حول الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه الأزمة السورية في تلك المرحلة، يُنظر: يحيى بوزيدي، المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية في سوريا بين حدود الأمن وحدود النفوذ، رؤية تركية، السنة 8، العدد 2،ربيع 2019، (ص83-101).

([2]) Rob Geist Pinfold, Why is Israel Escalating its Strikes Against Syria?, The Royal United Services Institute, 9 May 2025.https://2u.pw/ZzR3Z

([3]) حلمي موسى، إسرائيل تُجري تعديلًا جذريًّا في نظريتها القتالية.. ماذا فعلت؟، الجزيرة نت، 13/01/2025، شوهد في 26/05/2025، على الرابط: https://2u.pw/gfNsM

([4]) الشرق الأوسط، الجيش الإسرائيلي ينشئ وحدة تدخل سريع على الحدود مع سوريا، 04/12/2024، شوهد في 24/07/2025، على الرابط:

الرابط تضمين

ألصق رابطًا للمحتوى الذي تريد عرضه على موقعك.الرابط تضمينتضمين

معرفة المزيد حول التضمينات↗

عذرًا، لا يمكن تضمين هذا المحتوى.المحاولة مرة أخرىتحويل إلى رابط

([5]) الجزيرة نت، قناة إسرائيلية: حاجز بري قريبًا على الحدود مع سوريا، 14/10/2024، شوهد في 24/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/ZEdMt

([6]) زوهار بالتي، سوريا هي أول صدمة ارتدادية رئيسية بعد 7 أكتوبر.. فهل هناك مزيد في المستقبل؟، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى 11/12/2024، شوهد في 15/05/2025، على الرابط: https://2u.pw/Cf2qH

([7]) مركز حرمون للدراسات المعاصرة، التصعيد الإسرائيلي في سوريا مطلع عام 2025: الغارات، والأهداف، والتداعيات، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 18/02/2025، شوهد في 19/05/2025، على الرابط: https://2u.pw/6A5eR

([8]) موقع I24، خاص: الجيش الإسرائيلي يتوغل داخل الأراضي السورية وسط صمت سوري، 14/10/2024، شوهد في 28/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/zramK

([9]) شيرا عفرون، داني سيترينوفيتش، تجاوزات إسرائيل الخطرة في سوريا، إندبندنت عربية، 27/04/2025، شوهد في 12/05/2025، على الرابط: https://2u.pw/P4HaX

([10]) سوسن مهنا، جبل الشيخ… بات “عينًا إسرائيلية”، إندبندنت عربية، 23/12/2024، شوهد في 28/05/2025، على الرابط: https://2u.pw/zZB2m

([11]) Rob Geist Pinfold, Why is Israel Escalating its Strikes Against Syria?.

([12]) الشرق الأوسط، إسرائيل تريد الاحتفاظ بمجالَي “سيطرة” و”نفوذ” في عمق سوريا،10/01/2025، شوهد في 24/07/2025، على الرابط:

الرابط تضمين

ألصق رابطًا للمحتوى الذي تريد عرضه على موقعك.الرابط تضمينتضمين

معرفة المزيد حول التضمينات↗

عذرًا، لا يمكن تضمين هذا المحتوى.المحاولة مرة أخرىتحويل إلى رابط

([13]) الجزيرة نت، يديعوت أحرونوت: هكذا تضاعف إسرائيل وجودها العسكري داخل سوريا،06/05/2025، شوهد في 12/05/2025، على الرابط: https://2u.pw/AkWrn

([14]) شيرا عفرون، داني سيترينوفيتش، المرجع السابق.

([15]) سمحت إسرائيل في شهر مارس بزيارة 100 درزي سوري لإسرائيل، وفي الشهر التالي صدّق وزير أمن الاحتلال الإسرائيلي يسرائيل كاتس على دخول 600 رجل دين درزي للمشاركة في الاحتفال السنوي للدروز بِعيد النبي شعيب الذي يتخلله زيارة مقام النبي شعيب قرب حطين في الفترة ما بين 25 و28 أبريل من كل عام. يُنظر: موقع عرب 48، بموافقة كاتس: 600 رجل دين درزي من سوريا يزورون مقام النبي شعيب الجمعة،24/04/2025، شوهد في 21/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/FfJ2I

([16]) على سبيل المثال، نقلت مروحية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي مساعدات إنسانية إلى الدروز السوريين في منطقة السويداء بجنوب سوريا على بُعد نحو 70 كيلومترًا من الحدود الإسرائيلية. جاء تسليم المساعدات في الوقت الذي أجلى فيه الجيش الإسرائيلي خمسة دروز سوريين آخرين، أُصيبوا على ما يبدو خلال أعمال العنف الطائفي في البلاد إلى مستشفى “زيف” في صفد، كما نقل ما لا يقل عن 10 جرحى دروز سوريين آخرين في الأيام الأخيرة. ينظر: تايمز أوف إسرائيل، مروحية إسرائيلية تنقل مساعدات إلى الدروز في جنوب سوريا على بعد 70 كم من الحدود،04/05/2025، شوهد في 28/05/2025، على الرابط: https://2u.pw/5C8sR

([17]) مركز حرمون للدراسات المعاصرة، من التوتر الطائفي إلى التدخّل الإسرائيلي.. قراءة في أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 10/05/2025، شوهد في 20/05/2025، على الرابط: https://2u.pw/nwxLX

([18]) تايمز أوف إسرائيل، إسرائيل تقصف قلب دمشق وكاتس يتحدّث عن ضربات “موجعة”،16/07/2025، شوهد في 21/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/uyr9t

([19]) سي إن إن عربية، سوريا.. إسرائيل ترسل مساعدات إلى الدروز في السويداء.. إليكم ما تتضمنه،18/07/2025، شوهد في 21/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/Qi0wS

([20]) شيرا عفرون، داني سيترينوفيتش، المرجع السابق.

([21]) يقع مطار “تي 4” (T4)، واسمه الحقيقي “طياس” أو “تياس”، قرب قرية التياس بمحافظة حمص على بعد 60 كيلومترًا شرق مدينة تدمر الأثرية، ويقع في منطقة صحراوية إستراتيجية توجد فيها حقول الغاز الرئيسية في سوريا، وهو من أكبر المطارات العسكرية في سوريا، وكان مركزًا رئيسيًّا لعمليات سلاح الجو السوري. لتفاصيل أكثر يُنظر: الجزيرة نت، تيفور مطار عسكري سوري تتصارع عنده قوى دولية وإقليمية، 06/04/2025، شوهد في 28/08/2025، على الرابط: https://2u.pw/h4So2

([22]) الشرق الأوسط، إسرائيل تهاجم الشرع.. وتتهمه بـ”نظريات المؤامرة”،19/07/2025، شوهد في 20/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/gRlb3

([23]) موقع ميدل إيست أون لاين، أسباب أمنية تدفع إسرائيل لإلغاء خطة إدخال دروز سوريين إلى الجولان،02/04/2025، شوهد في 02/06/2025، على الرابط: https://2u.pw/AFRjt

([24]) لتفاصيل أكثر حول طبيعة العلاقة بين المجتمع الدرزي في الجولان والاحتلال الإسرائيلي، يُنظر: تيسير مرعبي وأسامة ر.حلبي، الحياة تحت الاحتلال: مرتفعات الجولان، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 4، العدد 13 (شتاء 1993).

([25]) تراوحت المواقف بين تأييد النظام أو الحياد في الصراع أو الانحياز إلى الثورة مع مواجهات محدودة جدًّا مع النظام. لتفاصيل أكثر حول خريطة انتشار الميليشيات المسلحة في السويداء قبل سقوط نظام الأسد، يُنظر: يمان زياد، المجموعات المسلحة في السويداء.. ثنائية الأمن والمخدرات، مركز عمران للدراسات الإستراتيجية، 02/11/2024، شوهد في 20/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/PwQ9C

([26]) بعد سقوط نظام الأسد تجلّت الصراعات في عديد من المواقف، كرفض فصائل محلية تأسيس المجلس العسكري من طرف طارق الشوفي رئيس تيار سوريا الفيدرالي المطالب بفدرلة السويداء، خصوصًا مع وجود ضباط من جيش نظام الأسد في صفوفه. ومنع فصائل المجلس العسكري دخول سيارات الأمن الداخلي التي انبثقت عن الاتفاق بين غرفة العمليات المشتركة في المحافظة وحكومة دمشق، وذلك بالتزامن مع مظاهراتٍ دعا إليها تيار سوريا الفيدرالي، طالبت بإسقاط النظام الحالي، وحيَّت كُلًّا من الشيخ حكمت الهجري والشيخ موفق طريف، وقد حصل بعض المواجهات المسلحة بين هذه المكونات، ولعل أبرزها حملة حركة رجال الكرامة ضد ميليشيات راجي فلحوط، أكبر ميليشيات السويداء سابقًا، وأنهت الحركة وجود تلك الميليشيا بشكل كامل. لتفاصيل أكثر ينظر: يمان زباد، السويداء بعد سقوط الأسد: قراءة في تحولات القوى العسكرية والمطالب السياسية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 13/03/2025، شوهد في 21/05/2025، على الرابط: https://2u.pw/GqrBL

([27]) Nir Boms and Carmit Valensi and Mzahem Alsaloum , Beyond the Brink: Israel’s Strategic Opportunity in Syria, The Institute for National Security Studies, INSS Insight No. 1979, May 8, 2025.https://www.inss.org.il/publication/new-syria/

([28]) موقع الشرق، وزير الاستثمار السعودي: توقيع 47 اتفاقية لضخ 6.4 مليار دولار في سوريا، 24/07/2025، شوهد في 27/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/3HKxx

([29]) الشرق الأوسط، وزير الاستثمار السعودي: توقيع 47 اتفاقية لضخ 6.4 مليار دولار في سوريا، 23/07/2025، شوهد في 27/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/xYyc7

([30]) Nir Boms and Carmit Valensi and Mzahem Alsaloum , Beyond the Brink: Israel’s Strategic Opportunity in Syria.

([31]) يفترض هذا التصور إمكانية “إدارة الصراع” عبر آليات ردعية عقلانية، تقوم على مبدأ الثواب والعقاب، وكأنّ حماس تتبنى المنطق السياسي نفسه الذي تُؤمن به الدولة الحديثة الليبرالية: منطق حسابي يوازن بين الربح والخسارة، الردع والعقوبة، التكاليف والمكاسب. من هنا، بدأ يتآكل الأساس المعرفي الذي بُني عليه الردع، والدعوة لمراجعته. لتفاصيل أكثر، يُنظر: وليد حباس، في الأسس الفلسفية لمفهوم “الردع” (الفاشل) في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 24/03/2025، شوهد في 10/07/2025، على الرابط: https://2u.pw/X9cVL

([32]) شيرا عفرون، داني سيترينوفيتش، المرجع السابق.

د.يحيى بوزيدي
د.يحيى بوزيدي
باحث بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية