قبل سنواتٍ قليلةٍ فقط، لم يكن أحد يتصور أن يرى النساء الإيرانيات، في ظل وجود هذا النظام، يتجولن في الطرقات والمحال التجارية والأسواق دون تغطية رؤوسهن، لكن التمرد على الحجاب خلال الفترة الراهنة، وصل إلى مرحلةٍ، فشلت معها كل إجراءات الترهيب والقوانين والتشريعات الخاصة بفرض الحجاب، حيث شوهدت في الآونة الأخيرة حرية غير مسبوقةٍ في الشارع الإيراني. كثيرٌ من الإيرانيات لم يعدن يرتدين الحجاب، واختفت دوريات الإرشاد تمامًا، بالإضافة إلى توقف بعض القيود المتعلقة بزيهن في الأماكن العامة، والعقوبات المنصوص عليها سابقًا في النظام الإيراني كالغرامات ومصادرة السيارات والسجن.
ورغم أن وزارة الاستخبارات قدَّمت مؤخرًا تقريرًا عن وضع الحجاب في إيران، وصفه المرشد الإيراني علي خامنئي بالصادم، لكنه لم يلجأ لتفعيل القوانين الرادعة، وهي خطوةٌ قل ما توصف بأنها محاولة إيرانية لاستعادة التماسك الوطني، وكسب ثقة المجتمع الذي أنهكته الحرب، وإعادة السيطرة على الأوضاع الداخلية، والابتعاد عن منهج القهر والعنف وفرض السيطرة في معالجة قضية الحجاب. كما تأتي كخطوةٍ استباقيةٍ لمنع تجدد المواجهات والاحتجاجات التي قد تقود هذه المرة إلى انفجارٍ شعبي يعقد من أزمات النظام الذي لا يزال يعاني من تداعيات الحرب في كافة الأصعدة داخليًا وخارجيًا. وقد أظهرت نتائج أحدث استطلاع أجراه مركز «ايسبا» بالعاصمة طهران، أنَّ مستوى السخط العام من أوضاع البلاد بلغ نحو 92 في المائة، وهي إحصاءات مقلقة بالنسبة للنظام الإيراني، خاصة في ظل ظهور دعوات صريحة خلال وبعد الحرب مع إسرائيل بالنزول إلى الشارع والإطاحة بالنظام.
قسَّمت هذه المقاربة المجتمع الإيراني بين مؤيدٍ، ومعارضٍ يرى أن هذا النهج قد يقود إلى المزيد من التوترات الداخلية والتفكك الاجتماعي لكونها تشكل تهديدًا مباشرًا للثقافة السائدة بالمجتمع الإيراني. وكخطوةٍ مضادةٍ لذلك، أعلن أمين «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، عن إنشاء «غرفة مراقبة العفة والحجاب» وتدريب وتنظيم وتشغيل أكثر من 80 ألف آمرٍ بالمعروف، إلى جانب 4575 مدربًا وضابطًا قضائيًا، لمواجهة تصاعد رفض الحجاب في المجتمع الإيراني، ووضع حلول ثقافية وإعلامية وقانونية تُبلَّغ إلى الجهات المعنية لتعينها في وضع الحلول الممكنة في وقف تفشي هذه الظاهرة. إلَّا أنَّ هذا المشروع وُجهت له انتقادات من قِبل بعض البرلمانيين وعلماء الاجتماع، لكونه سيعيد سياسات وتجارب فاشلة بحلةٍ جديدة، كـ«شرطة الأخلاق» التي كانت سياساتها سببًا في إشعال احتجاجات 2022م عقب وفاة الشابة الكردية مهسا أميني داخل أحد المعتقلات. كما يؤكد على أنَّ هناك تضارب وازدواجية في القوانين والأنظمة في البلاد، وذلك لأن «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» تعد هيئة مستقلة، تقع تحت سلطة المرشد الأعلى، مما يقلص من مكانة ودور الرئيس مسعود بزشكيان ويضعه في موقف حساس وحرج، لكونه فشل في الوفاء بوعوده خاصة المتعلقة بالجانب الاجتماعي والثقافي، وقد يثير ذلك سخط الشعب الذي تحيط به كل الظروف الممكنة للثورة ضد النظام.
يبدو أن أجنحة النظام الإيراني، تسعى لتوظيف أزمة الحجاب في صراعها الداخلي على السلطة، بهدف الإطاحة ببعض المسؤولين أو تشويه سمعتهم أو تحريض الشعب للمطالبة بإجراء إصلاحات في النظام، وتجلى ذلك في مقاطع الفيديو التي نُشرت مؤخرًا لحفل زفاف بنت علي شمخاني مستشار المرشد خامنئي في أحد أفخم فنادق طهران، وهو ما أثار وقتها موجة من الانتقادات لشکل الحفل ومظهر الزفاف وموقع شمخاني وقربه من «المتشددين» الذين يصرون على الحجاب الإلزامي، الأمر الذي استدعى مقارناتٍ بين مظهر فستان الزفاف والقيود المفروضة على أزياء النساء الإيرانيات. أما الرافضين للحجاب الإلزامي، فقد ساهموا بنشر الفيديو على أوسع نطاق، رغم أن حفل الزفاف كان في عام 2024م ولم يكن مختلطًا، وهي محاولة فيما يبدو لاستفزاز الشعب الإيراني وإثارة غضبه، والإشارة إلى وجود تمييز في فرض القيم المجتمعية وتنفيذ القوانين والأنظمة، وإلى حجم البذخ في حفل الزواج خاصة في هذا الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية، لدفع النساء في نهاية المطاف إلى اللامبالاة في الإلتزام بالحجاب. كما أثارت مشاركة مئات النساء دون حجاب في ماراثون رياضي بجزيرة كيش، جدلًا واسعًا في إيران وسط اتهامات للحكومة بالتساهل في تطبيق توجيهات المرشد بضرورة «التشدد» في تطبيق القوانين المتعلقة بالحجاب، لكن رد الرئيس مسعود بزشكيان على هذه الاتهامات بالقول إنَّه لا ينبغي فرض قيودٍ على الناس أو أن يوضعوا تحت الضغط، لأنَّ أي إجراءٍ يتسبب في استياء الناس هو مساعدة مباشرة لإسرائيل، يكشف عن قلقٍ عميقٍ من عودة الاحتجاجات الشعبية إلى الشارع الإيراني، وذلك لأن عودة الغضب الشعبي في ظل هذه الظروف التي تمر بها إيران، قد يعجِّل بعودة نتنياهو إلى خيار الحرب، بغية تحقيق هدفه الذي أعلن عنه خلال حرب الاثني عشر يومًا، وهو الإطاحة بالنظام الإيراني عبر ثورةٍ شعبية. وفي الختام، يبدو أن النظام الإيراني لم يعد قادرًا على حسم قضية الحجاب، لكونها باتت تشكل قنبلةً موقوتةً قد تعيد العنف والاحتجاجات إلى الشارع الإيراني، لا سيما في ظل الأوضاع الجديدة التي فرضتها حرب الاثني عشر يومًا على إيران، إذ لا تزال البلاد تعاني من تداعياتها، وسط ترقبٍ من النظام الإيراني حول احتمالية تجددها خلال الفترة المقبلة. وتكشف حالة الانقسام داخل مؤسسات النظام الإيراني حيال هذه القضية الحساسة، أن النظام بصدد إحداث نوعٍ من التوازن بين الالتزامات القانونية المفروضة على النساء بشأن موضوع الحجاب والأوضاع المستجدة التي فرضتها الحرب. وقد تبدت أولى مظاهر هذا التوازن في ظهور خطابين متباينين حول الحجاب، أحدهما يؤكد على إلزامية الحجاب، أما الآخر فلا يعارض الحجاب لكنه يرفض فرضه بالإجبار.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد