مقدمة
دخلت الولايات المتحدة وإيران جولة مفاوضات جديدة من أجل الوصول إلى اتفاق لمعالجة القضية النووية، وأثيرت شكوك حول مدى التزام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالوصول إلى اتفاق جديد يشمل كافة قضايا الخلاف مع إيران، وذلك استنادا إلى جولات التفاوض الثلاث التي ركزت على معالجة القضية النووية الملحة، وهو ما اعتبره البعض إعادة إنتاج اتفاق 2015م. لكن في الواقع، من المستبعد أن يُفلت ترامب الفرصة السانحة لتغيير سلوك إيران، والاستفادة القصوى من نهج القوة الصارم والدبلوماسية القسرية، ليس لأجل الوصول لتسوية جزئية، تضمن عدم امتلاك إيران سلاح نووي في المستقبل، بل محاولة لإحداث تغيير جوهري في مجمل العلاقات يكسر حالة القطيعة التامة التي هيمنت على العلاقة منذ عام 1979م. ويضمن تعديل سلوك إيران تجاه قضايا استراتيجية وجيوسياسية تضر بمصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائها في الشرق الأوسط.
في المقابل، فإن إيران التي تواجه تحديات جسيمة قبلت المفاوضات تحت الضغط، وتتجاذبها وجهتي نظر متباينتين. وجهة النظر الأولى، تتأثر بإرث معقد وإملاءات أيديولوجية يتبناها التيار الأكثر تشددا، الذي طالما استخدم الدبلوماسية كتكتيك لتسوية بعض الخلافات مع تقديم بعض التنازلات من أجل الحفاظ على البقاء، لكن بخلاف نهجه السابق، يغازل هذا التيار ترامب بإبداء الاستعداد لتقديم حوافز غير مسبوقة تتخطي الملف النووي، كالاستعداد للانفتاح على التعاون الاقتصادي وفتح الباب أمام الاستثمارات الأمريكية في قطاعات حيوية كقطاعي النفط والطاقة النووية، لكن مع الاحتفاظ ببعض الخطوط الحمراء كالبرنامج الباليستي، الذي يبدو محل خلاف خلال المفاوضات الجارية. أما وجهة النظر الثانية فهي أكثر براغماتية، ويتبناها التيار الأقل التزاما بالنهج الأيديولوجي الصارم، وهؤلاء يرون أن العبور للمستقبل والإفلات من حلقة المواجهة المفرغة والأزمة العميقة المترتبة عليها يمر عبر وضع حد للعداء مع الولايات المتحدة.
بناء على ذلك، تناقش هذه الدراسة قضية أساسية تتعلق بمدى تأثير نهج ترامب على موقف إيران من القضايا غير النووية، وبالتالي مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة، وتطرح في هذا الإطار عددًا من الأسئلة أبرزها: ما هي القضايا غير النووية بين الولايات المتحدة وإيران، وما هي المحفزات والقيود المؤثرة على موقف إيران بشأن هذه القضايا خلال المرحلة الراهنة؟ وأي من هذه القضايا من المتوقع أن يتم معالجاتها، وأيها سيظل ضمن خطوط إيران الحمراء؟
ستحاول هذه الدراسة أن تجيب عن هذه التساؤلات من منظور الواقعية الكلاسيكية الجديدة، بوصفها إطارًا ملائمًا لتحليل حدود تعاطي إيران مع الضغوط الأمريكية، والمطالب بتغيير نهج إيران إزاء قضايا استراتيجية، وذلك استنادًا إلى مقولتها الرئيسية، التي تتمحور حول تأثير العوامل الداخلية على مستوى الدولة، والعوامل النظامية الدولية، في تحديد سلوك إيران في ظل نهج القوة الذي يتابعه ترامب. وستعتمد الدراسة على المنهج الاستقرائي، الذي يركز على جمع البيانات والعلاقة المترابطة بطريقة دقيقة من أجل الربط بينها بمجموعة من العلاقات الكلِّية العامّة. وهو كغيره من المناهج العلمية يحدِّد الإشكالية أو الظاهرة محل البحث من أجل متابعة تفاصيلها والتعرُّف على مسبِّباتها، ثم الانتقال من الأمور الجُزئية إلى الأمور الكلِّية، أو بمعنى آخر، من المفهوم الخاص إلى العام. وفي إطار هذا المنهج، يمكن الاستعانة بدراسة الحالة كأداة لاستقراء أثر العوامل المرتبطة بالداخل وبالبيئتين الإقليمية والدولية على نهج إيران وموقفها إزاء نهج القوة والدبلوماسية القسرية الذي يتبناه ترامب.
أولًا: ماهية القضايا غير النووية بين واشنطن وطهران
على مدار أكثر من أربعة عقود ونصف منذ اندلاع الثورة الإيرانية، تحددت ملامح العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران من خلال عدد من القضايا الخلافية، ويمكن إلقاء الضوء على أهم هذه القضايا على النحو الآتي:
1. الخلاف الأيديولوجي والقطيعة الدبلوماسية
بعد الثورة، أصبح العداء هو السمة السائدة للعلاقات بين إيران والولايات المتحدة، حيث اعتبرت «إيران الثورة» الولايات المتحدة أصل الشرور ومصدر التهديد الرئيسي لإيران، وقد أسفر ذلك عن قطيعة طال أمدها بين الدولتين على كافة المستويات. وظهرت ملامح العداء في العديد من المحطات التاريخية، بداية من موقف الولايات المتحدة من الثورة والنظام الذي انبثق عنها، حيث تقاطعت مصالح البلدين ودخلا في خلافات شائكة جعلت العلاقة شبه مستحيلة. وعلى الرغم من الجدل بشأن تغييرات تتعلق بنزوع النظام الإيراني نحو البراغماتية بعد رحيل آية الله الخميني أو بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ، وصولا إلى توقيع الاتفاق النووي في عام 2015م أو المفاوضات بإعادة إحيائه في عامي 2021م و2022م، غير أن الاحتفاظ بمسار الثورة والخطاب الأيديولوجي العدائي أبقى على مكانة الولايات المتحدة كعدو، إذ لا يزال شعار الموت لأمريكا هو الشعار الأبرز والخطاب المركزي لدى النخبة السياسية والدينية. ولا تزال العلاقات مقطوعة على المستويات الدبلوماسية والسياسية، وشبه مقطوعة على المستويات الاقتصادية، كما لا تزال فجوة الثقة على حالها على الرغم من محاولات الانخراط والتفاهم المتعددة.
2. النهج الإقليمي
لدى إيران تطلعات دائمة للهيمنة الإقليمية، وقد تسامحت واشنطن مع هذا الدور الإقليمي قبل الثورة عندما كان يخدم مصالحها، لكن لأن طهران بعد الثورة تحدت القواعد التي أرستها واشنطن للنظام الإقليمي بعد الحرب العالمية الثانية فقد تحولت إيران من حليف إلى مصدر تهديد. وكانت الحرب الإيرانية- العراقية في ثمانينيات القرن الماضي تجسيدا للخلافات العميقة حول دور إيران الإقليمي، في ظل نهج تصدير الثورة الذي تبنته إيران، إذ بمرور الوقت دخلت الولايات المتحدة كطرف في هذا النزاع للدفاع عن حلفائها وعن مصالحها. ومنذ ذلك الحين أصبح نهج إيران الإقليمي محل خلاف مع واشنطن، حيث حاولت إيران حماية حدودها بنقل معركتها مع الخصوم خارج الحدود. ونجحت في أن تجد لها موطئ قدم من خلال التمركزات الشيعية في عدد من الدول كلبنان والعراق وسوريا واليمن، وخلقت في هذه الدول قوات رديفة تابعة لإيران. وقد كان ذلك ترجمة لـ«عقيدة الدفاع الأمامي» الموجهة بالأساس نحو واشنطن وحلفائها، وأضر هذا النهج بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة ومصالح حلفائها، وبلغ ذروته في المواجهة متعددة الجبهات بعد السابع من أكتوبر 2023م.
3. البرنامج الباليستي
بعد الحرب الإيرانية-العراقية، أصبح تطوير برنامج الصواريخ بمساعدة سوريا وليبيا والصين وكوريا الشمالية أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لإيران للدفاع عن أراضيها ونموذجها الأيديولوجي، وبهذا أصبح برنامج الصواريخ جزء من الثقافة الإستراتيجية لإيران وأصبح مرتبطا بشكل معقد بمبادئ السياسة الخارجية وأبرزها الاعتماد على الذات، وهو مدعوم بعدم الثقة تجاه الغرب خصوصًا الولايات المتحدة التي تهدف إلى احتواء الثورة الإيرانية. ومن ثم، يمكن القول إن إيران ارتبطت ارتباطا وثيقا ببرنامج الصواريخ باعتباره أداة أساسية في مواجهة واشنطن وإسرائيل. وبمرور الوقت، زادت أهمية البرنامج الصاروخي باعتباره جزءا أساسيا من «عقيدة الدفاع الأمامي» التي طورتها إيران، واستراتيجية المواجهة خارج الحدود والضغط على الخصوم وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. في هذا السياق، عززت إيران بنية القوة الصاروخية لـ«حزب الله» وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ومع تزايد قوة الميليشيات ونقل تكنولوجيا الصواريخ إليها، أصبح البرنامج الصاروخي له أهمية حاسمة لسياستها الخارجية والدفاعية، ووسيلة ردع مهمة في مواجهة القواعد العسكرية الأمريكية والإسرائيلية المنتشرة حول إيران. وقد كان هذا البرنامج فعالا في المواجهة التي أعقبت حرب إسرائيل على قطاع غزة، حيث هاجمت إيران عمق الأراضي المحتلة، ولا يزال الحوثيون بفضل مساعدة إيران يواصلون تهديد إسرائيل وحركة الملاحة البحرية عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب بل يهاجمون الأصول الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة.
4. التموضع الدولي
على مدى عقود، وسعت إيران جهودها لتشكيل جبهات مناهضة للولايات المتحدة والغرب، على سبيل المثال تحاول إيران مراجعة النظام الدولي من خلال «سياسة التوجه شرقًا» وبناء علاقات وثيقة مع القوى الشرقية وخاصة الصين وروسيا، حيث يعتقد المسؤولون الإيرانيون أن المحور المناهض للولايات المتحدة مع القوى النووية مثل روسيا والصين وإيران قادر على إقامة قطب من القوى الكبرى في آسيا يعارض السياسات الأمريكية، ويردع الهجوم العسكري الأمريكي على إيران. كما حاولت إيران تحقيق طموحها كعضو كامل في «منظمة شنغهاي للتعاون»، وكذلك الانضمام إلى مجموعة «بريكس». كذلك نجحت طهران في تجنيد تحالف يعارض المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تحت مسمى «محور المقاومة»، ومدت علاقاتها نحو العديد من الأنظمة السياسية في أمريكا اللاتينية وفي أفريقيا ممن لديهم موقف معادي لواشنطن ورافض لسياساتها.
5. العقوبات والضغوط
الخلافات حول هذه القضايا المشار إليها بعاليه، ولا سيما القضية النووية جلبت لإيران عقوبات وضغوط غير مسبوقة تراكمت عبر عقود منذ الثورة، وتسببت في فرض عزلة دولية على النظام وعقوبات متعددة طالت قياداته ومؤسساته وشركائه، وحرمت النظام من الاستفادة من موارده والتأثير على تنمية البلاد وتحديثها. وقد اكتسبت هذه القضية أهمية كبيرة مع بداية فترة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بعد تطبيق العقوبات الثانوية التي أجبرت إيران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والوصول للاتفاق النووي في 2015م. وكذلك بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وتبني «استراتيجية الضغوط القصوى»، وأصبح مطلب إيران بإزالة العقوبات شرطا أساسيا مع كل محادثات يخوضها الجانبان، نظرا لأنها باتت سببا في صعوبات اقتصادية وأوضاع معيشية مؤثرة على شرعية النظام ككل. ولا تزال إيران تربط أي تقدم في المحادثات النووية بقيام واشنطن بالتراجع عن العقوبات والتحقق من ذلك.
ثانيًا: دوافع ومحفزات التغيير
تخوض الولايات المتحدة وإيران مفاوضات حاسمة تختلف عن كافة الجولات الدبلوماسية التي خاضها البلدان، على مدار ما يقارب خمسة عقود. فالمفاوضات هذه المرة ثنائية بين الجانبين بخلاف المحادثات التي أفضت إلى توقيع الاتفاق النووي في 2015م. وعلى الرغم من الوساطة العمانية، غير أنه لا يمكن وصف المفاوضات بأنها غير مباشرة، حيث تخللها لقاء مباشر بين رئيسي وفدي التفاوض، وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ومبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي جرى استبداله. ورغم أن المحادثات حتى الآن تقتصر على القضية النووية، لكن على ما يبدو أن هناك فرصة لتسوية أعمق قد تطال مجمل العلاقات والقضايا الخلافية التي قادت البلدين إلى المواجهة منذ اندلاع الثورة عام 1977م.
في ظل التطورات الجارية، يمكن الإشارة إلى الضغوط والتحديات التي قد تدفع إيران إلى تغيير مواقفها من القضايا غير النووية المؤثرة على علاقاتها بواشنطن، وذلك على النحو الآتي:
1. نهج السلام من خلال القوة
يسعى ترامب من خلال نهج القوة لفرض تغيير يشمل مجمل سلوك إيران، لهذا بعد عودته إلى البيت الأبيض أعاد فرض الضغوط القصوى على إيران، وهددها باستخدام القوة العسكرية، إذا لم تستجب لخيار التفاوض من أجل السلام. ولم تتوقف الضغوط عند حد خنق الاقتصاد الإيراني من خلال محاولة العودة لبرنامج تصفير صادرات النفط، بل شملت حملة عسكرية حاسمة ضد الحوثيين، الفصيل الإقليمي المحسوب على إيران، والذين لا يزالون يحتفظون بفاعلية في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، فضلا عن تعاون وتدريبات عسكرية أمريكية-إسرائيلية تعطي انطباعًا باستعداد مشترك لشن هجوم عسكري على إيران، ناهيك عن تعزيزات عسكرية من أبرزها نشر طائرات الشبح في قاعدة بالمحيط الهندي فيما يبدو استعدادًا لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية([1]). وعلى ما يبدو أن رسالة ترامب للمرشد علي خامنئي في مطلع مارس 2025م كانت حاسمة، إذ خيرت إيران بين الجلوس للتفاوض أو مواجهة حملة أمريكية غير مسبوقة تم الاستعداد لها([2]).
ومن الواضح أن ترامب لا يرغب، وحسب، في تسوية مؤقتة أو جزئية للخلافات مع إيران، بل يتطلع إلى اتفاق تاريخي يتجاوز المسألة النووية، ليصل إلى تفكيك الخلافات ووضع حد للعداء التاريخي بين البلدين. فالرئيس الأمريكي لا يرغب في توقيع اتفاق نووي فيما تواصل إيران نهجها العدائي، سواء ما يتعلق بنهجها الإقليمي المرتكز على إنهاء الوجود الأمريكي في غرب آسيا، ومواصلة برنامجها الصاروخي المهدد للنفوذ الأمريكي وللتمركزات الأمريكية في المنطقة، والمعرقل لحرية الملاحة عبر الممرات الاستراتيجية في المنطقة، فضلا عن الاستفادة من عوائد الاتفاق الاقتصادية وحرمان الولايات المتحدة مزايا اقتصاد إيران، في حين تصب عوائده لصالح روسيا والصين. كما لا يرغب في أن تعيد إيران ترميم محورها المناهض لإسرائيل، ورعاية ميليشيات إقليمية تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي، وهي رغبة أمريكية ربما تتخطى تغيير إيران إلى تغيير وجه المنطقة ككل. ولا شك أن قيام ترامب بإعادة تشكيل فريقه التفاوضي والدفع بمايكل أنطون «اليميني المتشدد»، وطرح قضايا غير نووية على طاولة المفاوضات، فضلا عن الرسالة التي حملها الانفجار الذي طال ميناء الشهيد رجائي، جميعها تعطي مؤشرًا على رغبة أمريكية في تحصيل اتفاق شامل والإفلات من مناورة إيران ومحاولتها كسب الوقت، وفي الوقت نفسه تشير إلى العواقب التي قد تتعرض لها إيران في حال عدم الوصول إلى اختراق حقيقي ونتيجة مرضية من خلال التفاوض[3].
2. مأزق النظام الإيراني والضغوط الداخلية
يمر النظام الإيراني بأزمة متعددة الأبعاد، فعلى المستوى السياسي يواجه النظام أزمة شرعية، فهناك انخفاض لمستوى الرضا الشعبي، وتدني الأوضاع المعيشية، وتزايد السخط السياسي نتيجة الممارسات القمعية وغيرها من العوامل. كما يشغل النظام قضية الخلافة التي من المرجح أن تطفو إلى السطح في أي وقت. والأهم من ذلك انهيار السرديات الكبرى التي طالما روج لها النظام، وذلك أمام الهجمات الإسرائيلية التي فككت مشروع إيران الإقليمي الذي أنفق عليه النظام موارد الشعب وثرواته، والانكشاف الأمني الذي اتضح مع الهجوم الإسرائيلي على سيادة إيران واستهدف مواقعها وأصولها الاستراتيجية. هذه الضغوط قد تضع النظام أمام تحدٍّ مصيري يرتبط ببقائه.
وعلى الجانب الاقتصادي، رغم ثرواتها الهائلة، أدت خيارات إيران الأيديولوجية إلى خلافات عميقة مع الغرب، وقاد ذلك إلى فرض عزلة امتدت إلى ما يزيد على أربعة عقود، مع العديد من العقوبات والضغوط، التي أثرت بدورها على التنمية والتحديث في إيران. ولم يشفع لإيران سياسة المقاومة في الداخل، أو سياسية التوجه شرقا في إنقاذ البلاد من الأزمات. وبينما بات ذلك مؤثرا على الأوضاع الداخلية، وبات يهدد بقاء النظام، فقد تعالت الأصوات في الداخل بضرورة تسوية الخلافات مع واشنطن بصورة جذرية من أجل إنقاذ البلاد من الأزمات، لا سيما أن ادعاءات النظام حول الاقتدار والتقدم العسكري والتكنولوجي قد اتضح أنه محض شعارات، سقطت مع أول مواجهة فعلية مع الخصوم الإقليميين.
3. انهيار قوة الردع وفشل عقيدة العمق الاستراتيجي
كانت الاستثمارات الإيرانية الضخمة في ترسانتها الصاروخية وبرنامجها للأسلحة النووية وشبكتها من الجهات الفاعلة بالوكالة الإقليمية على مدار سنوات، قد قيدت بشدة استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. لكن بعد السابع من أكتوبر انهارت هذه المعادلة بسبب الهجمات الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا[4]، إذ أن هذه الهجمات لم تطال سيادتها وإمكانياتها الدفاعية وصناعاتها العسكرية وحسب، مما اتضح معه مدى الانكشاف الأمني وعكس التفاوت الهائل في ميزان القوة العسكري، بل إن تأثير إيران الإقليمي بعد هذا التاريخ قد تعرض لانتكاسة كبرى وانهارت «عقيدة الدفاع الأمامي» الذي استثمرت فيها موارد هائلة. فقد أخرجت إسرائيل والولايات المتحدة غالبية الجماعات المحسوبة على إيران من دائرة التأثير، وكبدتها خسارة كبيرة على مستوى القيادات والمعدات، وذلك في لبنان والعراق. واكتملت أزمة إيران في المشرق العربي بسقوط النظام السوري وهروب بشار الأسد، واستيلاء المعارضة على السلطة. حالة الارتباك وفشل النموذج والمشروع الذي تبنته إيران وأقنعت حلفائها به، قد يؤثر على نهج إيران خلال الفترة المقبلة، مما يجعل الانفتاح على واشنطن ضرورة، لا سيما إذا تابعت واشنطن ضغوطها المكثفة.
4. التطلع لسد الفجوة التنموية وتعزيز التعاون الإقليمي
لدى إيران تطلعات لسد الفجوة التنموية مع القوى الإقليمية المنافسة، لا سيما مع دول الخليج التي أصبحت تحقق تقدمًا هائلًا في كافة المجالات، وتسخِّر مواردها من أجل تحديث ونهضة بلادها ورفاهية شعوبها، ليس هذا وحسب بل نجحت في تبني مسار واعد في علاقاتها الدولية يقوم على التنوع والاستقلالية. وقد أصبحت هذه الدول تحتل مكانة خاصة بين القوى الكبرى. ربما كان هذا دافعا لانفتاح النظام على التعاون الاقتصادي مع واشنطن. وفي هذا الصدد أبدى المرشد موافقته على دخول الاستثمارات الأمريكية للسوق الإيراني، وقد سبق ومنعها بقرار سيادي بعد اتفاق 2015م، فيما منح الامتيازات للصين وروسيا وهو ما اعتبرته إدارة أوباما توجهًا لا يعكس روح الاتفاق ولا يحقق الغرض منه في حينها. وعلى الخطى نفسها، أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن إيران تشكل «فرصة بتريليون دولار» للشركات الأمريكية، وذلك في مقال نشرته «واشنطن بوست»، بل ذهب عراقجي إلى أبعد من ذلك بدعوة الولايات المتحدة للمنافسة على عقود تخص بناء 15 مفاعلًا نوويًا. وهذه العروض ليست سوى مؤشرات على تحول في موقف إيران، ومحاولة لدغدغة مشاعر الرئاسة الأمريكية ذات الفكر الاقتصادي، ليس هذا وحسب بل إن تسوية الخلافات مع واشنطن يمنح إيران فرصة للاندماج الإقليمي وأن تصبح جزءًا من الممرات الدولية التي يجري تدشينها، وذلك بدلا عن الهياكل الأمنية الموجهة لاحتواء نفوذ إيران.
ثالثًا: الإملاءات والقيود
على الرغم من وجود محفزات قد تدفع إيران لتغيير سياساتها بشأن القضايا غير النووية مع واشنطن، إلا أن هناك أيضا تحديات وكوابح قد تحول دون تفكيك هذه الخلافات وتسويتها، وأبرزها ما يأتي:
1. إرث العلاقات وموقف «المتشددين»
يلقي الإرث التاريخي بثقله على العلاقات الأمريكية-الإيرانية، وعلى مدار عقود، وفي ظل مبادرات عديدة لم يتمكن المسؤولون من كلا الجانبين من تجاوز انعدام الثقة، الذي فرض على كل طرف انتظار أن يغير الطرف الآخر سلوكه أولا، وتزايد نزعة المؤامرة والشك في كل بادرة أو مقترح بوصفها تحمل فخا ومخادعة، والنظر إلى الآخر على أنه معادٍ بصورة مطلقة وغير عقلانية، وأن سياساته غير مضمونة وقد ينقلب عليها في أي وقت. والواضح أن النقاش الجاري داخل إيران في ظل المفاوضات الجارية يتأثر بهذا الإرث إلى حد بعيد، فبخلاف التيار «البراغماتي» الذي يراهن على الانفتاح لتسوية مشاكل إيران، فإن التيار «المتشدد» الذي يقوده المرشد رغم قبوله بالمفاوضات، لكنه يشكك في النوايا الأمريكية لهذا يدعو خامنئي المسؤولين إلى الحذر[5]. يستمد المرشد والنظام شرعيته بناء على هذه التوجهات، والتراجع عن هذه المواقف قد تضر بسمعة النظام وشرعيته ليس داخل إيران وحسب، بل في الخارج أيضا وعلى مستوى حلفائه إذ طالما بنى النظام نفوذه وقوته الناعمة وتحالفاته على أساس هويته المعادية لواشنطن. وإضافة إلى ذلك، فإن قطاعًا من السلطة تتضرر مصالحه بالانفتاح على واشنطن. فالحرس الثوري على سبيل المثال يرى أن أي علاقة مع الأمريكيين ستقوض نفوذه السياسي الواسع، وتحد من دوره الاقتصادي، الذي يتزايد في ظل العقوبات والضغوط الأمريكية، حيث ينهض الحرس باستراتيجية التحايل على العقوبات ومقاومة الضغوط. كما سيؤدي تطبيع العلاقات إلى الحد من دوره الخارجي ومهمته الرسولية والعقائدية في تصدير الثورة وتنفيذ مشروع إيران العابر للحدود. فالحرس الثوري لديه مصلحة في إبقاء العداء مع الولايات المتحدة، وعدم تقديم تنازلات بشأن طموحات إيران الخارجية التي يقوم الحرس بتنفيذها، إلا إذا كان بقاءه مهددا.
2. خبرة إيران في المواجهة والتفاوض
إذا كان سقف تصعيد ترامب هو الضغوط والعقوبات، فإن لدى إيران خبرة طويلة في التحايل عليها، الأمر الذي قد يمكنها من تمرير ولاية ترامب دون تقديم تنازلات، كما جرى خلال ولايته الأولى، وبالقدر نفسه، تمتلك إيران مهارة تفاوضية فائقة. وكما هو واضح فقد بدأت المفاوضات وهو ما أسهم في امتصاص اندفاعة ترامب، وتحييد موقف إسرائيل ونتنياهو المتشدد، وبالتالي تراجع التهديد بالعمل العسكري. لكن بعدما كان ترامب يعول على اتفاق عاجل، فإن جولات المفاوضات تشير إلى أنها قد تأخذ وقتا، وتذهب إلى نقاش قضايا دقيقة وفنية قد تستغرق زمنًا، ولدى إيران خبرة طويلة في إغراق فرق التفاوض في التفاصيل، وكسب الوقت. ويبدو أنها حتى الآن، استغلت هذه الخبرة في تركيز المفاوضات على القضية النووية دون غيرها مستغلة القلق الأمريكي بشأن هذا الملف. كما قد تسمح لها المنافسة الدولية والحرب التجارية التي يخوضها ترامب، والفوضى التي يمر بها النظام العالمي في تمرير الوقت والإفلات من الضغوط والتهديدات العسكرية الراهنة، لا سيما أن الفترة التي مضت منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض أعطت انطباعا بأن نهجه ليس فعالا. كما أنه يرغب في تنفيذ البدائل عالية الكلفة، ويشهد بذلك تراجعه عن بعض قراراته كالرسوم الجمركية، وإخفاقه الظاهر في دفع السلام في أوكرانيا، وكذلك إخفاقه في وقف الحرب في غزة.
3. الأولويات الأمريكية
يبدو أن الولايات المتحدة قد تجاوبت مع مطالب إيران وشروطها في المفاوضات الجارية؛ بسبب الحاجة لمواجهة التهديد العاجل والمُلح لبرنامج إيران النووي خلال هذه المرحلة، بعدما باتت إيران على مقربة من تخطى العتبة النووية. وهذا ما قد يعزز من تصميم إيران على معالجة تقتصر على مخاوف الولايات المتحدة النووية دون السماح بأي تغييرات في الملفات الخلافية الأخرى. فمن المعلوم أن المعرفة التقنية التي باتت تمتلكها إيران فيما يتعلق بتخصيب اليورانيوم، تمنحها الفرصة متى ما اتخذت قرارها بأن تتجه لامتلاك سلاح نووي في غضون فترة قصيرة. فوفقًا لآخر تقرير صدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فبراير 2025، ارتفع مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60% إلى 275 كيلوغرامًا، بعد أن كان 182 كيلوغرامًا في نوفمبر 2024([6])، ممّا يشير إلى تسارع واضح في معدل الإنتاج. كما أشار تقرير سري للوكالة بأن إيران عملت على تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة داخل منشأة فوردو، وهو ما يعني زيادة كبيرة في إنتاج اليورانيوم العالي التخصيب، وبالتالي تستطيع طهران إنتاج المواد الانشطارية اللازمة لرأس نووي في غضون فترة قصيرة([7]).
4. إفساد إسرائيل للتفاهمات الأمريكية-الإيرانية
قد تعتبر إسرائيل أن تحسين علاقة إيران بواشنطن خسارة استراتيجية لا تقل خطورة عن اتفاق نووي يضمن لإيران تخصيب اليورانيوم على أراضيها، لذلك ليس من المستبعد أن تحاول إسرائيل عرقلة المفاوضات، والضغط على الولايات المتحدة من أجل التشدد مع إيران، أو التأثير على مسار المفاوضات والقضايا المطروحة للنقاش. وجدير بالذكر الإشارة إلى أن إسرائيل تضغط على ترامب ليس فقط لتفكيك برنامج إيران النووي وحسب على غرار نموذج ليبيا، ولكن من أجل أن يضمن أي اتفاق عدم تطوير إيران للصواريخ الباليستية، وذلك بحسب ما صرح به نتنياهو[8]. وربما قد تتخذ إسرائيل مسارًا آخر لإحباط أي تقارب وتفاهمات أمريكية-إيرانية من خلال عمل عسكري منفرد، أو ضربات تستهدف مصالح إيران، وهو ما قد تنظر إليه طهران على أنه بمباركة أمريكية ومن ثم تنهار المفاوضات ومسار التفاهم برمته.
5. مدى استعداد الولايات المتحدة لرفع العقوبات
تبدو إيران في حاجة ماسة لاتفاق يضمن رفع العقوبات ويحقق الانفتاح الاقتصادي لإنقاذ البلاد من الأزمة الراهنة وتعزيز شرعية النظام، لهذا تشترط لتقديم أي تنازلات على طاولة المفاوضات أن تتراجع الولايات المتحدة عن العقوبات التي فرضتها واشنطن على إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي. والأهم هو التحقق من ذلك وضمان وصول إيران إلى أصولها المجمدة في الخارج.
رابعًا: خيارات إيران المحتملة تجاه القضايا غير النووية
تخوض كلٌ من الولايات المتحدة وإيران مفاوضات غير تقليدية وفي ظروف مختلفة على الصعيد الإقليمي والدولي، وفي ظل خلل هائل في ميزان القوة بين الجانبين، ورئيس أمريكي من الصعب توقع ردود أفعاله أو مبادراته. وهذا لا شك سيكون له تأثير على خيارات إيران تجاه القضايا الخلافية مع واشنطن، وذلك على النحو الآتي:
1. مرونة محتملة قد تقود للتراجع عن العداء المتأصل
قد يعتقد البعض أن التفاهم مع واشنطن بمثابة فرصة تاريخية لإيران من أجل وضع حد للعقوبات والضغوط، وربما الحد من تأثير إسرائيل واللوبيات اليهودية على صانع القرار الأمريكي. ففي ظل رئاسة ترامب، «تتمتع إيران بفرصة فريدة للتوصل إلى اتفاق دائم مع الولايات المتحدة، وإمكانية حل الخلافات بصورة جذرية، حيث إن نفوذ ترامب على إسرائيل والحزب الجمهوري، الذي لطالما عارض الاتفاق مع إيران، سيعطي أي اتفاق محتمل وزنًا أكبر، وهو ما قد تعتبره إيران فرصة للخروج من أزماتها المعقدة منذ ما يزيد عن أربعة عقود»([9]). وذلك إضافة إلى تفادي التعاون بين الجانبين والذي قد يطال استهداف البرنامج النووي الإيراني، وربما تغيير النظام ككل. كما يحد من تحركات إسرائيل المنفردة لاستهداف الداخل الإيراني، وفي الوقت نفسه يوفر حل الخلافات مع واشنطن مزيدًا من أجواء الثقة مع دول الخليج، ما قد يمثل فرصة باتجاه تغيير التفاعلات الإقليمية في صالح إيران، بعدما كانت المخططات تستهدف مواجهتها وحصر نفوذها الإقليمي. ومن جهة مقابلة هذا التفاهم يحد من استغلال الصين وروسيا لإيران كورقة في علاقتهما الدولية والإقليمية.
لكن رغم ذلك، ترسخت في إيران هوية معادية للولايات المتحدة، وما دام النظام الحالي قائما فإنه من الصعب تراجع طهران عن خطاب العداء الموجه لواشنطن. ومن المعروف أن النظام الإيراني اضطر لخوض المفاوضات حفاظا على بقائه وتفاديا لعملية عسكرية واسعة النطاق ضد مصالحه الحيوية. وطالما قوض الجناح «المتشدد» كل فرص التقارب مع إيران خلال فترات زمنية مختلفة. ومع أن النظام يعرض على ترامب الانفتاح الاقتصادي والاستثمارات المتبادلة بما في ذلك الاستثمار في قطاع الطاقة والمجال النووي، لكن خطاب خامنئي الذي يدعو إلى الحذر، وتوصيته بمحاولة حل مشكلات إيران بمعزل عن المفاوضات، تعطي انطباعا بأن المفاوضات التي يجريها النظام تكتيكية ولا تستهدف إحداث اختراق استراتيجي. ولا تزال إيران من منظور أيديولوجي، في حالة خلاف وعداء مع واشنطن وهيكل دولي وإقليمي متناقض وعلاقات من الصعب تطبيعها بين عشية وضحاها.
2. تهدئة إقليمية لا تلغي طموحات الهيمنة
رغم تعرض نفوذ إيران الإقليمي لخسائر فادحة، ووجود تحدٍ أمام إيران لأجل استعادة نفوذها الإقليمي، فإنها في الأخير لديها أرضية يمكن البناء عليها، وإحياء فاعلية محورها. وربما تستفيد من أجواء التهدئة التي سيتيحها أي اتفاق مع واشنطن لإعادة تأهيل محورها، إذ سبق وأخذ مشروع إيران الإقليمي دفعة قوة بعد الاتفاق النووي في 2015م، واستفادت إيران من رفع الحظر عن أموالها المجمدة في الخارج، بعد توقيع الاتفاق النووي، وهو ما يمكن أن يحدث مجددا بعد توقيع اتفاق مماثل مع إدارة ترامب، لا سيما إذا لم تتضمن المفاوضات الجارية شروط تتعهد بناء عليها طهران بتعديل سلوكها الإقليمي. ولا يمكن تجاهل حقيقة وجود امتدادات لإيران في الإقليم، فباستثناء سوريا، لا تزال السياسة في بعض البلدان كلبنان والعراق واليمن تتأثر بنفوذ إيران، وتراجع النفوذ بعد حرب غزة والحملة الأمريكية والإسرائيلية المستمرة، لا يمثل ضمانة دائمة للحد من نفوذ إيران سيما في ظل نهج إسرائيل العدواني ونزعتها للسيطرة الإقليمية وانتهاك سيادة الدول والسعي لطمس القضية الفلسطينية.
3. علاقات دولية متنوعة لكنها أقرب للشرق
أما فيما يخص علاقة إيران مع الصين وروسيا، وتموضعها في هيكل دولي مناهض لواشنطن، وتحالفات غرضها مراجعة النظام الدولي والتأثير على مكانة واشنطن، فإن إيران قد ترى حتى بعد توقيع اتفاق نووي مع الولايات المتحدة أن من مصلحتها أن تستمر في سياسة التوجه نحو الشرق، وذلك لعدة أسباب أهمها الانطباع السلبي لدى الإيرانيين الذي تركه الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في 2018م، وتعزيز الشكوك في إمكانية التعويل على الغرب والثقة في نواياه. بالإضافة إلى نظرة إيران الأيديولوجية المبنية على أساس تفسيرات دينية ومذهبية، وتطلعاتها إلى مواصلة المشروع العابر للحدود والمناهض للهيمنة. لكن إذ فكرت إيران ببراغماتية ووضعت بالاعتبار الضرورات الاقتصادية والأمنية، فإنها قد تستغل الفرصة المتاحة في ظل ترامب من أجل تغيير ديناميكية علاقاتها الدولية، بحيث تقوم على التنوع والتوازن، وذلك على غرار دول الخليج والقوى المتوسطة العالمية التي تسعى إلى الاستفادة من الصراع بين القوى الكبرى. أو ربما نهج مسار مزدوج قائم على التوازن في العلاقة مع القوى الكبرى بما يخدم مصالحها([10]). وربما تسعى طهران لإقناع كل من بكين وموسكو، إلى أن تحسين علاقاتها مع واشنطن ورفع الحظر المالي عنها سيساعد في إنجاز الاتفاقيات الاستراتيجية مع الطرفين.
4. «الباليستي» خطٌ أحمر قد تقبل إيران التفاوض بشأنه
من الواضح أن الصواريخ الباليستية من أبرز القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة وإيران خلال المفاوضات الراهنة، إذ لا يزال المسؤولون الإيرانيون يصرحون بأن البرنامج الباليستي خط أحمر غير قابل للتفاوض[11]. ويعزز من تمسك إيران بهذا البرنامج، حالة الانكشاف الأمني الذي تعرضت له البلاد، وباعتباره الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن تستهدف بها طهران أراضي وأصول خصومها في المنطقة. ويمثل التخلي عنه تفريطًا قد يفضي إلى زعزعة أمن إيران واستهدافها دون قدرة على الردع. وقد كانت الضربات الصاروخية الإيرانية لإسرائيل بعد حرب غزة شاهدة على أهمية القدرات الإيرانية في المعادلة الإقليمية. وبالتالي ستستمر إيران في تطوير برنامجها الصاروخي خصوصا أنها قد تجد دعمًا من روسيا في إطار اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين. ومع ذلك، فإن واشنطن تضع هذا الملف ضمن أولوياتها، وقد واصلت عقوباتها بشأن هذا الملف على الرغم من المفاوضات الجارية، وبينما تتجه إدارة ترامب ومفاوضيه الجدد نحو مزيد من التشدد مع مواكبة الدبلوماسية بتهديدات واسعة النطاق، فإن النظام الإيراني قد يقبل فتح النقاش بشأن هذا الملف.
5. العقوبات «قضية مصيرية عالقة»
على الرغم من أن المفاوضات الفنية الجارية تناقش الالتزامات النووية من جانب طهران مقابل رفع العقوبات من جانب واشنطن، فيما يزال هناك غموض بشأن القضايا الأخرى، إلا أن الاستعداد الأمريكي لتغيير كبير في هيكل العقوبات قد يكون غير مقبول كما تتصور إيران، بدون تقديم تنازلات جوهرية تخص المخاوف الأمريكية الشاملة بشأن القضايا غير النووية؛ وهو ما قد يؤثر سلبا على التقدم في المفاوضات برمتها أو دفع التفاهم بشأن قضايا الخلاف الأخرى قدما.
خاتمة
يمكن القول إن العلاقات الأمريكية-الإيرانية قد أصبحت على المحك وأمام اختبار حقيقي، حيث يخوض الجانبان مباراةً تفاوضيةً غايةً في الصعوبة ومحفوفةً بالتحديات. بدأ النظام الإيراني بسقف منخفض حيث يطمح من خلال المفاوضات في أن يصل إلى تفاهمات جزئية تقتصر على تسوية القضية النووية، مقابل رفع بعض العقوبات المؤثرة، بمعنى إعادة إنتاج اتفاق 2015م النووي لكن بشروط جديدة. ولكن في ظل نهج القوة الأمريكي، قد تكون طهران مستعدةً لتفاهمات أوسع، ربما تطال السلوك الإقليمي لا سيما أنها بالفعل قد قبلت تغيير نهجها واتجهت نحو التهدئة خشية التعرُّض لمزيد من الخسائر. وبقدر المرونة التي قد تبديها إيران بشأن هاتين القضيتين إضافةً إلى القضية النووية، فإنها تبدي صلابةً بشأن برنامج الصواريخ الباليستية الذي لا تزال تعتبره خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، وحقًا سياديًا غير قابل للتفاوض، في حين تبقى قضايا أخرى كالتموضع في هياكل دولية مناهضة لواشنطن ورقة مساومة ستوظفها لتعزيز مصالحها ونفوذها.
ولكن، قد لا يُرضي ذلك غرورَ ترامب، الذي قد يرغب في إحداث اختراق وتغيير نمط العلاقة للأبد، ويتحسب لمناورات إيران ومهاراتها التفاوضية. ومن ثم قد يسعى من موقع القوة إلى وضع بعض القضايا الخلافية على أجندة المفاوضات أو جميعها، باعتبار أن هناك فرصة تاريخية للتغيير. وقد تضطر إيران للاستجابة لمطالب ترامب تحت وطأة الضرورات الاقتصادية والأمنية والمنعطف الحرج الذي تمر به البلاد. وتعطي بعض المؤشرات دليلُا على استعداد إيران لمثل هذه الاستجابة، فعلى سبيل المثال أبدى المرشد استعدادهُ للانفتاح الاقتصادي وتبادل الاستثمارات مع واشنطن، وإن صدقت إيران في عرضها ذاك ولم تكُن توجهاتها الراهنة مجرد مناورة وتكتيك؛ فإن ذلك سيغير ديناميكيات العلاقة ويوجهها نحو المصالح بدلًا من الأفكار الراسخة والتصورات السلبية المتأصلة.
([1]) کمیل خجسته،۳دلیل تغییر رفتار ایران در مواجهه با ترامپ، صحيفة خرسان، تاريخ الاطلاع: 30 أبريل 2025م، https://bit.ly/3YLfxI3
([2]) amwaj.media, Inside story: Iran, US move towards ‘indirect talks’ as letters exchanged, (April. 07, 2025), accessed: April 05, 2025, https://2u.pw/HxwJN
[3] ياسر رفسنجاني، دیپلماسی سخت؛ روایت تغییر در مذاکرات ایران و آمریکا، (404/02/091 هـ ش)، تاريخ الاطلاع: 30 أبريل 2025م، https://tinyurl.com/25zs6vrc
[4] Dana Stroul, The Narrow Path to a New Middle East, Foreign Affairs, (April 02, 2025), accessed: April 29, 2025, https://tinyurl.com/24jjlpx7
[5] الشرق الأوسط، خامنئي و«فن التفاوض»: محادثات إيران مع أميركا بين الحذر والتفاؤل، (26 أبريل 2025م)، تاريخ الاطلاع: 29 أبريل 2025م، https://tinyurl.com/23vxeoda
([6]) IAEA Director General’s Introductory Statement to the Board of Governors, (3 March 2025), accessed 1 May 2025. https://tinyurl.com/2b92npf7
([7]) Rosaleen Carroll, IAEA’s Grossi to visit Tehran ahead of second round of US-Iran nuclear talks, al-monitor, (April 14, 2025), accessed: April 29, 2025. https://tinyurl.com/2db7abgr
[8] Reuters, Amid U.S.-Iran talks, Netanyahu says Iran’s entire nuclear program must go, (April 28, 2025), accessed: April 15, 2025, https://tinyurl.com/2ddc2j9r
([9]) Farnaz Fassihi, Why Iran’s Supreme Leader Came Around to Nuclear Talks with the U.S., The New York Times, (April 11, 2025), accessed: April 15, 2025. https://2u.pw/LxNaj
([10]) فاطمه خادم شیرازی، مانورهای ایران در مذاکرات غیرمستقیم ایران و امریکا: نقشه شطرنج ایران: مانور هوشمندانه یا بنبست استراتژیک دبلوماسي إيراني، (۰۶ اردیبهشت ۱۴۰۴)، تاريخ الاطلاع: 30 أبريل 2025م، https://bit.ly/42vFhe0
[11] شبكة تلفزيون الصين الدولية (القناة العربية)، تقرير إخباري: المفاوضات النووية.. إيران تتحدث عن «خلافات» في ختام الجولة الثالثة، (28 أبريل 2025م)، تاريخ الاطلاع: 29 أبريل 2025م، https://tinyurl.com/28adz6sc