مقدمة
يتّصِف الاقتصادُ الأفغاني بالهشاشة والاعتماد على مساعدات المانحين الدوليين، خاصَّةً من دول حلف الناتو. كما يتسم بضعف القطاع الخاص فيه رغم امتلاك البلاد لثرواتٍ معدنية نادرة تُقدَّر بتريليونات الدولارات، لكن تطويرها مفقودٌ لغياب الأمن واستمرار الصراع السياسي. ومع استيلاء حركة «طالبان» على الحُكم، أصبح الوضعُ أكثرَ ضبابية. يستعرض هذا التقرير قراءةً للوضع الاقتصادي للدولة الأفغانية، قبل وبعد سيطرة «طالبان» على الحُكم منتصف أغسطس 2021م، وكذلك الوضع المعيشي لعامَّة الأفغان، والموارد المالية المُتاحة تحت تصرُّفهم.
أوَّلًا: قراءة لملامح الوضع الاقتصادي الراهن وتداعياته
تغطِّي المنحُ الوافدة للبلاد ما لا يقِلّ عن 75% من الإنفاق العام للدولة، وفي مؤتمر عُقِد بجنيف في نوفمبر 2020م، جدَّد المانحون الدوليون دعمهم ماليًا لأفغانستان حتّى 2024م، لكن مصير الدعم غير معلوم حتّى الآن بعد وصول «طالبان» للحُكم. وكان من المُقرَّر أن تحصُل الحكومة الأفغانية المتنحِّية على تمويل من صندوق النقد الدولي مُقدَّرٌ بـ 370 مليون دولار، في الرابع والعشرين من أغسطس 2021م، لكن تمَّ تجميده بعد سيطرة «طالبان».
وتمتلك الدولة احتياطات تقارب 9.4 مليار دولار، أغلبها في بنوك أمريكية، تمَّ تجميدها مؤخَّرًا؛ لمنع «طالبان» من الوصول إليها، ومن ثمَّ انخفضت قيمة العُملة المحلِّية بـ 6% على الأقلّ أمام الدولار؛ ليبلغ 86 «أفغاني» لكُلّ دولار.
كما تمَّ تجميد الاحتياطي الأجنبي، وتوقَّفت شحنات الدولارات من المانحين والمؤسَّسات الدولية؛ ما يعني صدمات اقتصادية واحتمالية تعرِّض إدارة شؤون البلاد لشلل مفاجئ، إذا ما استمرَّ انقطاع الموارد في ظِلَ غياب الاعتراف الدولي بـ «طالبان»، وعدم إيجاد بديل، في وقت قُدِّرت فيه ميزانية أفغانستان لعام 2021م بحدود 6 مليارات دولار.
يبلُغ إجمالي الناتج المحلِّي الأفغاني قرابة 20 مليار دولار، وهو رقمٌ متواضع؛ بسبب الصراعات التي أنهكت الاقتصاد، مع نصيبٍ متدنٍّ للفرد منه يبلغ 592 دولارًا/ العام، وعدد سُكَّان يبلغ قرابة 34 مليون نسمة. ويمثِّل الاقتصاد غير المشروع جزءًا كبيرًا من مقوِّمات الاقتصاد الأفغاني، ويشمل ذلك إنتاج الأفيون والتهريب عامَّةً، والتعدين غير القانوني.
توقَّع صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد الأفغاني بـ 4% في 2021م، وكان معدَّل النمو العام الماضي مقبولًا، مقارنةً بانكماش 5%. لكن النمو المُتوقَّع هذا كان في آخر تقرير دوري للصندوق في أبريل 2021م، وعلى الأرجح سيتِم خفضه في التقرير الدوري المقبل للصندوق؛ لصعوبة تحقيق هذا المعدَّل مع قدوم «طالبان»، وتوقُّف أو اضطراب الأعمال في ظِل حالة عدم اليقين السائدة على الساحة، وعدم وضوح طبيعة السياسات الاقتصادية التي ستّتبعُها «طالبان» في إدارة دولة لا حركة مسلَّحة.
لا تتوافر معلومات مُحدَّثة عن معدَّلات البطالة؛ لغياب البيانات المحلِّية المُوثَّقة، لكنَّها قُدِّرت من قِبل منظَّمة العمل الدولية في عام 2018م بـ 30%، كواحدة من أعلى معدَّلات البطالة في العالم.
وتتّصِف بيئة الأعمال في أفغانستان بالصعوبة البالغة، ونقص البنية التحتية؛ ما جعلها تحتلّ المركز 173 من 190 دولة من حيث مرونة الأعمال، كما يعاني ميزان التجارة من عجز كبير يصل إلى 30% من الناتج المحلِّي الإجمالي، ومُرشَّحٌ للتزايُد مستقبلًا، وبلغ عجز التجارة الخارجية لأفغانستان قرابة 5.7 مليار دولار في 2020م.
وأبرز صادرات البلاد هي الذهب بقيمة حوالي مليار دولار، بخلاف صادرات غير رسمية من الأفيون. وأهمّ الوجهات المستقبلية للصادرات الأفغانية، هي الإمارات ثمَّ باكستان والهند. كما تستورد القمح ومشتقَّات النفط والتبغ وقطع غيار الطائرات. وأبرز الدول المُورِّدة، هي الإمارات ثمَّ باكستان والهند والصين والولايات المتحدة الأمريكية. ولا شكَّ أنَّ تلك الوجهات ستتأثَّر، على حسب اعتراف الدول بشرعية «طالبان» والتعامُل معها تجاريًا من عدمه.
ثانيًا: موارد «طالبان» المالية
يتطلَّب الإنفاق العسكري لحركة طالبان توفير مواردٍ مالية متزايدة، وعلى مدار عشرين عامًا طوَّر قادة «طالبان» أساليبهم لاستغلال الموارد المُتاحة في أماكن سيطرتهم، بدءًا من زراعة وتجارة وتصدير الأفيون، واستخراج المعادن الأرضية، مرورًا بفرض الإتاوات والضرائب الإجبارية على المزروعات (زكاة العُشر) في مناطق سيطرتهم، وحتَّى تجارة السِلَع والعقارات، علاوةً على التبرُّعات التي تصلهم من الخارج والداخل، يُضاف إلى ذلك سيطرةٌ كاملة على كافَّة شؤون البلاد المالية وثرواتها التعدينية بعد الوصول للحُكم.
وبطبيعة الحال يكتنِف الغموض حجمَ الموارد المالية الخاصَّة بـ «طالبان»، لكن التقديرات الدولية المختلفة، سواءً من جهات رسمية أو تقارير استخباراتية، تتحدَّث عن موارد سنوية قُدِّرت في مارس 2020م بـحوالي 1.6 مليار دولار. وكشفت تقديرات المفتِّش العام الأمريكي الخاص بأفغانستان (SIGAR) في مايو 2021م، أنَّ المخدرات تمثِّل قرابة 60% من العوائد السنوية لـ «طالبان». وقُدِّر أنَّ تهريب المخدّرات وحدهُ يُدِرّ على «طالبان» 460 مليون دولار سنويًا، بجانب 464 مليون دولار من عمليات التعدين الخاضعة لمناطقهم، قبل أن يصلوا إلى الحُكم، وما قد يصل إلى 240 مليون دولار سنويًا من التبرُّعات، وما قد يصل إلى 160 مليون دولار سنويًا من ضرائب المزروعات الإجبارية.
تمتلك أفغانستان موادَ خام ومعادنَ نفيسة كالذهب واليورانيوم، وفق هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، علاوةً على معدن الليثيوم الثمين، والذي تُقدَّر قيمة احتياطاته بترليون دولار. تلك الخامات مطلوبة دوليًا لتصنيع الهواتف المحمولة وأجهزة التلفزيون والمحرِّكات الهجينة وأجهزة الكمبيوتر والليزر والبطاريات، لاسيما الخاصَّة بالسيارات الكهربائية، علاوةً على الصناعات العسكرية؛ ما يعني تهافُتًا غربيًا ودوليًا على استغلال تلك الموارد. وكانت أهمَّ الدول المستوردة للمواد الخام الأفغانية، هي الولايات المتحدة الأمريكية وتركمانستان وإيران وباكستان وكازاخستان.
وبعد وصول «طالبان» إلى سُدَّة الحُكم في أغسطس 2021م، ستسعى إلى استغلال عوائد الثروات المعدنية الهائلة التي تمتلكها أفغانستان، لكنَّها تحتاج لاستثمارات ضخمة لاستغلالها واستقطاب تكنولوجيا متقدِّمة لا تتوافر حاليًا، في ظِل غياب الاعتراف الدولي، أو في حال فرض عقوبات اقتصادية على أفغانستان.
ثالثًا: الوضع المعيشي الراهن واتّجاهات المستقبل
تُصنَّف أفغانستان كواحدة من أفقر دول العالم، ويعيش 47.3% من السُكَّان الأفغان تحت خطّ الفقر، وهناك 34.3% من العاملين يقِلّ دخلهم عن 1.90 دولار يوميًا، وفق بنك التنمية الآسيوي في عام 2020م. كما أنَّ متوسِّط نصيب الفرد من الناتج المحلِّي متدنٍّ للغاية، ويبلغ 592 دولارًا في العام.
يُعَدُّ قطاع الزراعة من أهمَّ القطاعات في البلاد، والمشغِّل الأوَّل للعمالة. وتتركَّز العمالة الأفغانية في القطاع الزراعي، لكنَّها عمالةٌ منخفضةُ الإنتاجية، ويعمل 44% من إجمالي القُوى العاملة في الزراعة، ويحصل 60% من الأُسر على دخلهم من الزراعة، وفق صندوق النقد الدولي. وتتربَّع زراعة الأفيون والعنب على رأس أهم الزراعات والصادرات في البلاد.
وسيكون التضخُّم من ضمن أبرز التحدِّيات التي ستواجه عامَّة الأفغان على المدى القصير، وقد قُدِّر معدَّل التضخُّم السنوي للعام الحالي بـ 5% قبل قدوم «طالبان»، وفق توقُّعات صندوق النقد الدولي. لكنَّه سيرتفع بالتأكيد بعد المستجدَّات الحالية؛ نظرًا لتدنِّي قيمة العُملة، وتوقُّف خطوط الإمداد التجاري داخليًا وخارجيًا، وهروب كثير من الأموال وأصحابها ومحاولة البقية الفرار؛ فبمجرَّد دخول «طالبان» كابل نفدت بعض السِلَع وتضاعفت أسعار بعضها.
أمَّا عن مستقبل الوضع الاقتصادي لأفغانستان، فلا شكَّ أنَّ طول فترة توقُّف المساعدات الدولية وشحنات الدولارات للبنك المركزي الأفغاني وتجميد الاحتياطات الأجنبية المُقدَّرة بأكثر من 9 مليارات دولار، ستقود إلى تدهوُر الوضع الاقتصادي والمعيشي للبلاد، والعجز عن دفع رواتب موظَّفي الدولة واحتمالية تعطُّل المرافق العامَّة، مع توسُّع البطالة ودائرة الفقر والفقراء، وزيادة كبيرة في الأسعار، مع تدهوُرٍ أكبر في قيمة العُملة المحلِّية، وما يصاحب ذلك من عُنفٍ واضطرابات داخلية، مع زيادة متوقَّعة في اعتماد «طالبان» على الإتاوات والطُرُق غير الشرعية لجلب الأموال، عبر التهريب ونشر المخدرات عالميًا.
أما في حال الاعتراف الدولي بـ «طالبان»، والاستمرار في تقديم الدعم المالي والاقتصادي المشروط، فإنَّ الوضع الاقتصادي يمكن أن يستقِرَّ نسبيًا، ويتطلَّب ذلك أن توفِّر «طالبان» الأمن والاستقرار والبيئة المناسبة للأعمال في الداخل، واستقطاب وطمأنة المستثمرين الدوليين والشعب الأفغاني قبلهم، وإرسال رسائل طمأنة للداخل والخارج، وقد بدأت «طالبان» في إرسال مثل تلك الرسائل بالفعل، وإن كانت غير كافية.
استنتاجات:
- من المُتوقَّع أن يظلّ الوضع الاقتصادي والمعيشي لعامَّة الأفغان ضبابيًا وغير مستقِرّ، ويميل إلى جانب التدهوُر بدرجة أكبر من ميله لجانب الاستقرار على المدى القصير؛ نظرًا لسيادة حالة عدم اليقين حول فكر وسياسات «طالبان» العامَّة الداخلية والخارجية، والاقتصادية خاصَّةً، وموقف القُوى الدولية والمانحين من الاعتراف بها من عدمه، واحتمالية فرض عقوبات اقتصادية على البلاد مستقبلًا، إلى جانب وضع بعض الدول شروطٍ لاعترافها بـ «طالبان» لم يتّضِح موقف الحركة منها عمليًا إلى الآن؛ كاحترام الأقلِّيات، والمرأة، وحقوق الإنسان، وعدم توفير ملاذٍ آمن للإرهاب داخل الأراضي الأفغانية، وكُلَّها أمورٌ سترسمُ ملامح الوضع الاقتصادي لأفغانستان مستقبلًا. فإمَّا أن تندمج أفغانستان تدريجيًا مع المجتمع الدولي، أو تنضمّ لقائمة الدول المنبوذة من المجتمع الدولي، كإيران وكوريا الشمالية؛ وبالتالي تتأثَّر مؤشِّرات الأداء الاقتصادي تبعًا لذلك.
- ستتوقَّف معدَّلات البطالة، على طول فترة عدم اليقين الحالية، وسرعة استئناف حركة التجارة الدولية مع البلاد، وانتشار الأمن في الداخل الأفغاني من عدمه، وبثّ «طالبان» للطمأنينة أو الرُعب في قلوب عامَّة الأفغان، وعلى توجُّهات «طالبان» ذاتها.
- ستُبادر الكثير من الدول لاستغلال الثروات المعدنية، واقتناص الفُرص التجارية، مع الحكومة الجديدة؛ لذا يتطلَّب هذا الأمر من مخطِّطيها وضعَ إستراتيجيةٍ للعلاقات مع «طالبان»، تشمل -في حال إقرارها- الاستفادةَ من تِلك الفُرص اقتصاديًا، كحافزٍ لتمتين العلاقة مع أفغانستان وشعبها.
- سيكون لسُرعة المبادرات الإنسانية والدعم السياسي وقعٌ وتقدير لدى حكومة «طالبان»، في هذه المرحلة الحرجة.