استراتيجية إيران في مواجهة ضغوط إدارة ترامب

https://rasanah-iiis.org/?p=13600

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

نجح النِّظام الإيرانيّ في تجاوز ما عاناه من صعوباتٍ على مدى العقود الأربعة الماضية، منها الاقتتال الداخلي بعد ثورة 1979، والحرب الإيرانيَّة-العراقية التي دامت لثماني سنوات، وما أعقب ذلك من صعوباتٍ اقتصاديةٍ وجدلٍ حول البرنامج النووي خلال منتصف الألفية الجديدة. ويعتقد عديدٌ من المحللين أن هذه الصعوبات التي مرت بها إيران قد حصَّنَت النِّظام الإيرانيّ من الشعور بالتهديد. إلا أن الأشهر الأخيرة أثبتت أن هذا ليس دائمًا صحيحًا.
فمن الواضح أن شعبية النِّظام الإيرانيّ المتزعزعة قد تراجعت إلى مستوى غير مسبوق، خصوصًا بين أبناء الطبقة العاملة والفقيرة، إذ أبرزت الاحتجاجات الأخيرة (التي اندلعت في أكثر من ثمانين مدينة ومحافظة إيرانيَّة) أن دعم النِّظام تراجع تراجُعًا واضحًا، بخاصَّة دعم قاعدته الفقيرة الموالية له، إذ أعلن الشعب الإيرانيّ معارضته للنظام حين خرج المتظاهرون إلى الشوارع مُلقِين باللوم في مشكلاتهم على المرشد الأعلى علي خامنئي ومسؤولي الحكومة، إذ إنهم هم سبب تفاقم المشكلات، بسبب تَفشِّي الفساد بينهم، إلى جانب ارتفاع معدَّلات التضخُّم والفقر والبطالة، مِمَّا قاد البلاد إلى أزمة اقتصادية، فتراجعت قيمة الريال الإيرانيّ سريعًا بعد انسحاب الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب من الاتِّفاق النووي المُبرَم عام 2015.
كذلك خلَّفَت الأزمة البيئية القائمة والمتنامية في إيران معاناةً طالت ملايين الإيرانيّين، الذين يقاسون ارتفاعًا شديدًا في درجات الحرارة إلى جانب الجفاف والعواصف الرملية، ونقصًا حادًّا في المياه لا سيما في جنوبيّ وشرقيّ إيران. ففي أواخر التسعينيات كانت بحيرة أرومية أكبر بحيرة مالحة في الشرق الأوسط، إلا أنها الآن قد جفّت بشكل كامل تقريبًا.
إضافةً إلى هذه الأزمة البيئية المثيرة للقلق، والاحتجاجات المستمرة، كانت الحكومة الإيرانيَّة طرفًا فاعلًا في تفاقم الأزمة، إذ فشلت في اتخاذ قراراتٍ تُعالج عن طريقها هذه المشكلات المتنامية.
إن النِّظام الإيرانيّ لا يعاني مشكلاتٍ محليةً فحسب، فعلى الصعيد الخارجي تراجعت شعبية الجمهورية الإيرانيَّة خلال السنوات الأخيرة بين الشيعة العرب إلى حدّ كبير، كما أن سياسات إيران في العراق وسوريا أثارت الاستياء في الخارج، إذ قوّض النِّظام الإيرانيّ سيادة بغداد وأعاق تَقدُّمها الاقتصادي وحاول ابتزازها مراتٍ عديدة، منها محاولة ابتزازها من خلال مبادرة تزويدها بالكهرباء، إذ استغلّت هذه المبادرة كورقة ضغط على بغداد إذا ما قررت تقليص دعمها لإيران. وخلال الاحتجاجات التي اندلعت مؤخرًا في المناطق العراقية الموالية لإيران في السابق مثل البصرة والنجف وبغداد، خرج آلاف المتظاهرين مطالبين إيران بالتوقف عن التدخُّل في شؤون العراق الداخلية، وحاول مسؤولون كبار في الحكومة العراقية الإفلات من قبضة طهران، غير أنهم لم يُفلِتوا تمامًا من قبضتها.
إن طبيعة العلاقة التي ربطت بغداد بطهران شكَّلَت حاجزًا يعترض علاقات الأخيرة مع جيرانها العرب، كما رفضت دول الخليج العربي دعوات إيران إلى تحسين العلاقات، غير أن إيران ازدادت يقينًا في السنوات الماضية بأن تحسينها العلاقات مع دول الغرب سيضطرّ جيرانها إلى إعادة النظر في علاقتهم المتنافرة معها، بخاصَّة في ظل تولِّي حكومة روحاني (المعتدلة ظاهريًّا) زمام السُّلْطة، إذ كانت إيران تطمح إلى تكرار تجربتها الناجحة في تحسين علاقاتها مع دول الخليج خلال عهد محمد خاتمي الذي حكم البلاد من 1997 إلى 2005. غير أن دول الخليج رفضت إقامة علاقات دبلوماسية متبادلة مع إيران قبل أن تتوقف عن التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وأن تسحب ميليشياتها الشيعية من العراق وسوريا.
وعلى الرغم من براعة إيران في التلاعب الاستراتيجي والرقص الدبلوماسي، فإن خسارتها في “الشطرنج الجيو-سياسي” الذي تحرِّك أطرافه في الإقليم، إلى جانب احتمالات انزلاقها إلى الهاوية، باتت واردة جدًّا. فالنِّظام الإيرانيّ لا يواجه ضغوطًا إقليمية وعالَمية من الولايات المتَّحدة والقوى الأخرى فحسب، بل يواجه غضبًا شعبيًّا تأجَّجَت ناره، وتوتُّراتٍ دينية وعرقية داخلية.
السؤال المهم هنا: هل لدى النِّظام الإيرانيّ رغبة صادقة في التعامل مع الوضع الحالي؟ هل سيبدأ النِّظام الإيرانيّ التعامل مع مشكلاته الداخلية بجدية، أم سيواصل إلقاء اللوم على أعدائه في الخارج (كالولايات المتَّحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعوديَّة) حتى يزيح وطأة الغضب الشعبي عن كاهله دون حلول حقيقية؟
إن أسلوب إلقاء اللوم على “الشيطان الأكبر” سيتيح للنِّظام الإيرانيّ فرصة البقاء حتى نهاية الفترة الرئاسية الأولى للرئيس ترامب، إذ ستراقب طهران الانتخابات الرئاسية الأمريكيَّة عام 2020 بتركيز ثم تضع استراتيجية جديدة وَفْقًا لنتائج هذه الانتخابات.
يبدو أن إيران ستعتمد هذه الاستراتيجية الخطيرة، وإن صحّ ذلك فإن الثمن الذي ستدفعه سيكون باهظًا، بخاصَّة في حال إعادة انتخاب الرئيس ترامب أو تعيين إدارة مختلفة تنتهج سياسته، إذ يعني هذا أن إيران لن تتمكن أبدًا من إبرام اتِّفاقٍ يخدم مصالحها مع الولايات المتَّحدة. وقد ترك الرئيس ترامب المجال مفتوحًا أمام إيران لإبرام اتِّفاقٍ نووي مختلف يخدم مصالح واشنطن أكثر من خطة العمل الشاملة المشتركة التي وصفها بـ”أسوأ اتِّفاقٍ على مرّ التاريخ”، وقال إنه مستعدّ للحوار مع إيران دون  شروط مُسبَقة. كذلك قال وزير الخارجية الأمريكيّ مايك بومبيو إنه إذا أبدت إيران التزامًا بإحداث تغيير جذري في كيفية تعاملها مع شعبها وتغيير سلوكها الخبيث، فإن الولايات المتَّحدة ستنظر في إبرام اتِّفاقٍ نوويٍ ذي قيمة يمنع انتشار الأسلحة النووية.
ويبدو أن روحاني في وضعٍ حرجٍ، إذ استجوب البرلمان الإيرانيّ اثنين من وزراء حكومته، كما يواجه روحاني نفسه خطر الإقالة وضغوطًا من المرشد الأعلى. وقد أيَّد الحرس الثوري الإيرانيّ الرئيس روحاني في الحرب الكلامية التي خاضها مع الولايات المتَّحدة ودعاه إلى اتخاذ إجراءاتٍ ثوريةٍ لحلّ مشكلات إيران الاقتصادية. كل هذه الحقائق تستبعد أي احتمالٍ للتقارب بين الولايات المتَّحدة وإيران، بخاصَّة أن روحاني يحاول تجاوز الأزمة الداخلية بدلًا من أن يبدأ جولة جديدة من المفاوضات مع واشنطن، وهي الخطوة التي سوف يعترض المتشددون عليها من جديد.

مادة مترجمة عن موقع “atlantic council”


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية