الولايات المتحدة والاحتجاج الشعبي تجاه نفوذ إيران في الإقليم: أي بدائل للتأثير؟

https://rasanah-iiis.org/?p=18310

اندلعت مظاهرات واحتجاجات شعبية في كل من العراق ولبنان خلال الشهر الجاري (أكتوبر 2019) على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية وتفشي الفساد وفشل الطبقة السياسية، ونمط التحالفات الطائفية والمليشياوية التي عطلت الدولة ومؤسساتها عن النهوض بمسؤولياتها ووظائفها تجاه مواطنيها، وقد وجه المحتجين بعض من غضبهم تجاه إيران مطالبين إياها برفع يدها عن بلديهما، محملين إياها نصيب كبير من المسؤولية عن دور ما في الأوضاع المتدهورة في البلدين سواء بطريقة مباشرة كما هو الأمر في العراق، أو بطريقة غير مباشرة كما هو الحال في لبنان، ويتوقع أن يتزايد هذا الغضب في عواصم أخرى تهيمن طهران على قراراتها السياسية خلال المرحلة المقبلة.
وبينما كانت تجسد هذه الاحتجاجات فرصة لممارسة مزيد من الضغوط المباشرة على إيران، وبيئة مواتية للضغط على نفوذها الممتد في هذين البلدين، غير أن سياسات الولايات المتحدة وحلفائها قد كشفت خلال السنوات الماضية عن عوامل ضعف وقصور رئيسية في مواجهة تمدد إيران إقليميا، بل على العكس أسهم الضغط المحدود على الوجود المباشر لإيران خارج حدودها في تمكينها من أن تكون اللاعب الأكثر تأثيرا على تلك الساحات، وربما يتزايد نفوذها في ظل غياب استراتيجية فاعلة لكبح هذا التمدد بما فيها غياب الولايات المتحدة التي ما تزال تواصل سياسة الانسحاب والتراجع.
تطرح هذه المستجدات مفارقة مهمة فيما يتعلق باستراتيجية مواجهة تمدد إيران إقليميا، فمن جانب راهنت الولايات المتحدة على إثارة الداخل الإيراني من خلال حملة العقوبات القصوى كرافعة للتأثير على سلوك طهران إقليميا، في حين أنها أمام هذا التمدد تبنت سياسة الانسحاب وعدم الرهان على فاعلية المجتمعات داخل الدول، وإغفال أو التغاضي عن حالة الرفض الشعبي لدور إيران في هذه البلدان، وعدم أخذ هذا العامل في الاعتبار ضمن الاستراتيجية الأمريكية بما يناسب هدف الحد من دور ونفوذ إيران إقليميا.
بناء على ذلك يحاول هذا المقال من جانب كشف عوامل ضعف الاستراتيجية الأمريكية في جانب التأثير على نفوذ إيران إقليميا من مدخل العقوبات الاقتصادية، ومن جانب ثان توضيح كيف أسهمت عناصر الاستراتيجية الأمريكية في منح إيران أوراق للمناورة ومواجهة التحديات والتأثير الإقليمي بما قد يحبط الجهود الأمريكية ككل، وأخيرا بحث فرص التأثير الأمريكي على النفوذ الإيراني من مدخل الواقع الراهن الذي تفرضه الاحتجاجات ضد إيران في بعض دول المنطقة.
أولا: ضغوط متواضعة للتأثير على سلوك إيران الإقليمي
لطالما وفرت البيئة الإقليمية فرص وظروف تسمح بممارسة مزيد من الضغوط على نفوذ إيران الإقليمي بصورة مباشرة، لكن ركزت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو 2018، على تعديل سلوك النظام الإيراني من خلال تبني استراتيجية الضغوط القصوى على النظام الإيراني في الداخل عبر فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية، حيث ترى إدارة ترمب أن النظام الإيراني يستجيب للتفاوض تحت الضغط.
كان هدف إدارة ترمب أن تؤدى الضغوط الاقتصادية إلى حدوث انفجار شعبي يؤثر بدوره على مواقف النظام ليقبل عملية التفاوض حول جملة من الشروط الأمريكية، التي كان من بينها دور إيران الإقليمي ونفوذها في بعض دول المنطقة وعلاقتها بالمليشيات المسلحة وبالتالي التأثير على دور إيران في المنطقة بصورة غير مباشرة.
مع بداية تنفيذ استراتيجية الضغوط القصوى على المستوى الداخلي كان الشارع الإيراني يغلي وكانت الاحتجاجات في أوجها، وكان ضمن أولويات المحتجين الإيرانيين هو مطالبة بالنظام الالتفات لقضايا الداخل ووقف تدخلاته الخارجية، لكن مع الوقت بدأ النظام يفعل استراتيجيته للمواجهة، وبعد عام من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق وبعدما بلغت العقوبات مدا غير مسبوق، لوحظ تراجع الضغوط الشعبية على النظام إلى حد كبير، وأن النظام قد تمكن بصورة أو أخرى من السيطرة على مظاهر التمرد في الداخل، سواء من خلال القمع أو بعض المعالجات الاقتصادية المؤقتة من جانب الحكومة، بل نجح النظام في قلب الضغط الأمريكي من أجل إثارة الداخل إلى مكسب عبر خطاب وطني مناهض للسلوك الأمريكي تجاه إيران.
في المقابل لم تستفد إدارة ترمب ضمن استراتيجيتها من البيئة الإقليمية المناهضة لدور إيران في عدد من الدول، وكانت الضغوط الامريكية الموجهة نحو تحجيم نفوذ إيران الإقليمي أقل من المتوقع في عدد من البلدان، ولم تكن هناك آلية مباشرة ضمن الاستراتيجية لتحقيق هدف تعديل سلوك إيران الإقليمي بصورة مباشرة وكافية، بل حملت دول المنطقة عبء مواجهة هذا التمدد، عبر مقترحات متعددة كان الدور الأمريكي فيها أقل مما هو مطلوب كما هو حال الناتو العربي وغيرها من المبادرات بما فيها مبادرة تشكيل قوة أمنية لحماية الخليج.
بالتزامن مع هذه التوجهات انسحبت الولايات المتحدة من بعض أماكن تمركزها الاستراتيجي تاركة خلفها فراغا كانت إيران مستعدة لملأه، وما يزال موقفها غامضا تجاه بعض ساحات المواجهة الرئيسية، مما أعطي إيران فرصة أكبر لتوسيع النفوذ والتأثير بل وممارسة الضغط عبر اعتداءات إقليمية مباشرة وغير مباشرة على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
استفادت إيران من ضعف عناصر الاستراتيجية الخاصة بتحجيم دور إيران إقليميا، وبالمقابل استفادت من الانسحاب العسكري الأمريكي من بعض المناطق كسوريا، ونجحت في قطع أشواط مهمة في تدشين مشروع الاتصال الجغرافي من طهران إلى البحر المتوسط عبر الأراضي العراقية والسورية فيما يعرف بالهلال الشيعي، وعززت هيمنتها على القرارات السياسية والعسكرية والاقتصادية في العواصم الأربع بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وذلك على مرأى ومسمع من الولايات المتحدة.
بهذا ظلت عناصر الاستراتيجية الأمريكية المستندة إلى الضغط على النظام داخليا، والانسحاب العسكري وتقليل حجم التواجد واستبعاد المواجهة، لا تتناسب مع سلة الأهداف الإقليمية التي حددتها إدارة ترمب، ويرى الخبراء الأمريكيين أنفسهم أن العقوبات تظل فاعلة كلما ارتبطت بأهداف سياسة محدودة، لكنها لم تكن في أي وقت فاعلة في تغيير أي نظام سياسي، أو تحقيق أهداف متعددة وواسعة النطاق وهذا هو الحاصل الآن، فلا تأثير يذكر للعقوبات على نفوذ إيران الإقليمي الذي يتزايد ويتعزز يوما بعد يوم، ولا بدائل للانسحاب المتواصل من خطوط التماس مع إيران.
ثانيا: مكاسب إيرانية وقدرة أكبر على المناورة الإقليمية
في الواقع كان من الممكن دعم الاستقرار وتحفيز المجتمعات في هذه الدول لتعزيز استقلاليتها عن نفوذ إيران، وعلى وجودها برمته على هذا النحو السافر الذي سمح لها بأن تحتجز قرارات بعض الدول وتجعلها رهينة مصالحها الخاصة.
ويمكن إدراك أثر عدم دعم استراتيجية الضغوط والمواجهة في هذا الجانب بل الانسحاب من بعض مناطق المواجهة والتماس إذا ما تم الانتباه إلى أن هذه البلدان ذاتها لعبت دورا رئيسيا في تقليل أثر العقوبات على إيران، بعدما أصبحت مقدراتها وبعض مؤسساتها رهن إشارة إيران وفي خدمة استراتيجية المواجهة التي تتبناها، ويلعب كل من العراق ولبنان -من خلال حزب الله- تحديدا دور رئيسي في مساعدة إيران في التحايل على العقوبات.
إن واحدة من أوراق المناورة المهمة في يد إيران واستراتيجيتها لمواجهة التحديات التي فرضها الولايات المتحدة أمامها هو تغلغلها الإقليمي الذي يتزايد يوما بعد يوم على تخومها، وخارج حدودها، حتى إن هذا التواجد قد أسهم في لعب أدوار مهمة في موازنة الضغوط الامريكية ودفع القوى الدولية إلى التفكير بصورة حذرة في التعاطي مع إيران.
فهذا النفوذ ينقل معركة إيران خارج حدودها، ويقلل من فرص بدائل التعامل مع خطر إيران، كما إنه يتيح لها قدرة على توسيع نطاق المواجهة في أكثر من دولة، واستهداف أكثر من خصم، ودون تحمل مسؤولية مباشرة.
كذلك أتاح لها هذا النفوذ قدرة على مواجهة احتمالات التعرض للعزلة الدولية، أو الحصار البحري، حيث أوجدت إيران لنفسها وقواتها موطأ قدم عند العديد من المنافذ البحرية على المتوسط أو البحر الأحمر وباب المندب ونحو جنوب شرق آسيا، برا وبحرا، إضافة إلى وجودها في الخليج العربي، الذي يعد ورقة مهمة لتقليل احتمالات استهدافها.
ورغم أن الولايات المتحدة ما تزال تعول على العقوبات الاقتصادية للضغط على النظام، عبر التأثير على شرعيته داخل إيران، لدفعه نحو تعديل سلوكه، سواء لجهة تحجيم نفوذ إيران في الإقليم أو معالجة المسألتين الأخريين الأكثر أهمية من وجهة النظر الأمريكية وهما الملف النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية، غير أن نفوذ إيران الذي يتمدد في المنطقة وهيمنتها سياسيا وعسكريا واقتصاديا على قرارات بعض العواصم العربية ما يزال يوفر لإيران بيئة خالية من التحديات تسمح لها بمواصلة استراتيجية المقاومة والتحدي التي تتبناها.
قد لا يكون طموح إيران عندما دفعت بمليشياتها خارج الحدود عند هذا المستوى غير المسبوق، لكن أخطاء الولايات المتحدة والبيئة الإقليمية التي وجدتها إيران متاحة أكثر مما توقعت عظم من هذه الطموحات، ودفعها أكثر نحو إعادة إحياء حلمها الإمبراطوري الذي طالما كان بعيد المنال قبل انهيار النظام الإقليمي ورفع مظلة الحماية الأمريكية عن المنطقة.
ثالثا: إعادة تقييم وتأثير ممكن على نفوذ إيران
لا شك فرضت الروح الاحتجاجية الشعبية المتعدية للطائفية والمناهضة لطهران تحديا حقيقا أمام المشروع الإيراني، وقد يعد هذا الحراك هو الأهم في عملية مواجهة خطر إيران الإقليمي، لأن هذه الاحتجاجات ركزت بشعاراتها ومضمونها على مضمون الأزمة التي يعاني منها الإقليم، فمطالب المحتجين في دول مثل العراق ولبنان، تتفق مع مطالب المحتجين في داخل إيران، والتي تنادي بتقليص دور إيران في الخارج.
وربما لو قامت الولايات المتحدة بموازنة العقوبات الاقتصادية على النظام الإيراني والتي أسهمت في تزايد الضغط الشعبي في الداخل على النظام، بسياسة إقليمية بديلة عن الانسحاب تدعم الدول ومجتمعاتها في مواجهة “الاحتلال الإيراني” لحققت استراتيجية الضغوط القصوى أثرا أكبر وأسرع، لكن هذا لم يحدث.
فعلى أرض الواقع لم تولي الولايات المتحدة الاهتمام الكافي بحالة الاحتقان الشعبي ضد إيران داخل الدول التي مدت نفوذها إليها، حتى ضغوطها لإثارة الداخل الإيراني تراجع تأثيرها مع الوقت، حيث لم يكن واضحا ما إن كانت الولايات المتحدة تمارس ضغوطها الاقتصادية لتغيير النظام أم من أجل تعديل سلوكه، حتى إن المعارضة الداخلية تراجع زخمها ويئست من تناقضات الخطاب الأمريكي حول موقفه من مستقبل النظام الإيراني، ومن مواقفه المتراجعة عن دعم عملية التغيير في إيران.
ربما لم يفت الوقت بعد، فقد فتحت حالة الغضب الشعبي تجاه دور إيران في بعض الدول المجال لإعادة معالجة قصور السياسات تجاه مواجهة خطر إيران الإقليمي، فإيران لم يعد مرحبا بها في أي من الدول التي تبسط نفوذها فيها، فقد كانت قوة تخريب وتدمير للمجتمعات، وعامل معزز للانقسام الطائفي والسياسي، وكانت ميليشياتها أداة للفساد وإهدار الموارد، ومارست سياسات تهجير قسرية بحق المواطنين وتغيير ديمغرافي واسع النطاق، وتحت نفوذها اختطفت مصائر دول ومواردها لصالح مليشيات إيران، ويعد حرق صور المرشد الأعلى على خامنئي وزعيم حزب الله حسن نصر الله والرموز التي تعكس وجه المشروع الإيراني في المنطقة بيئة مواتية لإعادة النظر في استراتيجية متكاملة لمواجهة نفوذ إيران الإقليمي، سواء لجهة استثمار الغضب الشعبي ضد إيران، أو موازنة قوة إيران وأذرعها في العراق ولبنان على سبيل المثال بقوى موازنة مؤثرة.
هذه الاستراتيجية المتكاملة التي تتطلب إعادة الاعتبار للمجتمع داخل الدول التي تعبث بمصيرها إيران، بوصف المجتمع هو حائط الصد الحقيقي أمام المشروع الإيراني، وباعتبار قواه الحية هي المحصنة بالأيديولوجيا والعقيدة والوطنية التي يمكن أن تقف على قدمين راسختين أمام المشروع العقائدي الإيراني، لا سيما أن التعويل على الطبقات السياسية لم يحصن هذه الدول ولم يحميها من تغول إيران، بل على العكس هيأ لها حالة من عدم الاستقرار والتشظي دفع مشروعها خطوات ميدانية للأمام، ولا يمنع ذلك من متابعة الضغط على النظام عبر العقوبات الاقتصادية وخلق واقع معقد داخلي أمام قياداته.
كما تحتاج استراتيجية المواجهة إلى دفع الدول التي عمت فيها الفوضى نحو الاستقرار وإعادة بناء اللحمة الوطنية عبر مشروعات غير طائفية، تأخذ باعتبارها مصالح الشرائح المختلفة والواسعة للمجتمعات، ولا شك إن المنطقة بحاجة إلى مشروع إحياء جديد لدولها، عبر تخفيف حدة الاحتقانات الداخلية وإنهاء حالة الاقتتال الداخلي والتطاحن، وتبني مشروعات وطنية ذات مصداقية شعبية وعلى أرضية وطنية جامعة.
ربما هذا مدخل مهم للمواجهة لكن يبقى السؤال هل تريد الولايات المتحدة تحقيق ذلك؟ في الحقيقة لا تكشف السياسة الأمريكية عن وجود تحركات فعلية تدفع باتجاه تغيير المشهد البائس في العالم العربي، فالولايات المتحدة أسهمت سياساتها في المنطقة في إشاعة الفوضى، وفي تعزيز الانقسامات، وفتح انسحابها من المنطقة الطريق أمام تكالب القوى الإقليمية والدولية على الاستثمار في الصراعات القائمة ومن ضمنها إيران التي وسعت نفوذها بصورة غير مسبوقة، ولا تبدو سياسة ترمب الإنكفائية تجاه المنطقة في محصلتها بعيدة عن سياسة أوباما نفسها رغم كل الصخب الذي أحدثه ترمب بخصوص ملف إيران، لكنه على ما هو ظاهر قد أحدث ضجيجا بلا طحين، وكانت طروحاته الإقليمية لمواجهة إيران جميعها تلقي بالعبء الأكبر على دول المنطقة.
ربما تكون الولايات المتحدة لديها الرغبة في إدارة مصالحها الإقليمية من خلال هذه الفوضى وهذه التنافسات التي تنهك دول المنطقة، وتستنزف جهدها وموارها بما فيها إيران نفسها، وما لم تدخل الولايات المتحدة تغييرات رئيسية على استراتيجيتها بما في ذلك الضغط على نفوذ إيران الإقليمي، وتعزيز قوة المجتمعات داخل هذه الدول ودفعها نحو الاستقلالية عن تأثير إيران، فإن هذه الأخيرة ستظل تمتلك أوراق ضغط مهمة وساحات مؤثرة، يمكن من خلالها أن تحبط استراتيجية الضغوط الأمريكية ككل.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد

د. محمود حمدي أبو القاسم
د. محمود حمدي أبو القاسم
مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية