أولوية القضية الفلسطينية وضرورة الإفلات من فخ إيران وإسرائيل

https://rasanah-iiis.org/?p=34782

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

أعقب هجوم إيران العسكري الأخير على إسرائيل جدل كبير حول تبِعاته، إذ ذهب البعض إلى القول إنَّ طهران حصلت منه على مكاسب رمزية، ورُبَّما وضعت قواعد جديدة لعلاقتها مع إسرائيل والولايات المتحدة، فيما يرى البعض الآخر أنَّ السؤال الأهمّ هو مدى تأثير هذا الهجوم في القضية الفلسطينية في هذا التوقيت الحرِج، إذ إنَّ من الواضح أنَّ هذا الهجوم لم يكُن مفيدًا، بل كان سلبيًّا بالنسبة للقضية الفلسطينية.

فلم يكُن مفيدًا، لأنَّ الفلسطينيين لم يكونوا بالمرَّة ضمن حسابات طهران، وهي تستعِد لهذه الهجمة، التي صمَّمتها من البداية حتى يكون تأثيرها محدودًا، ولا تستلزم ردًّا من إسرائيل أو الولايات المتحدة قد يغيِّر قواعد الاشتباك أو يسبِّب لقيادات إيران مزيدًا من الحرج الداخلي. وكان سلبيًّا، لأنَّ نتنياهو استغلَّ هذا الهجوم لحرْف الزخْم الدولي بشأن القضية الفلسطينية، والإفلات من الضغوط من أجل وقْف الحرب على غزة، وإعادة التموضُع داخليًّا وخارجيًّا.

وهكذا ترك هذا الهجوم خلفه واقعًا أكثر تعقيدًا بالنسبة للفلسطينيين، يتّضِح ذلك بالنظر إلى أنَّ القضية الفلسطينية كانت عشية الهجوم الإيراني هي الشغل الشاغل للقُوى الدولية والإقليمية، وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي وعناصر حكومته خاضعون لضغوط داخلية متزايدة، من جرّاء الفشل الأمني، الذي تواجهه إسرائيل ما قبل السابع من أكتوبر وما بعده، ويعانون العُزلة، ويخضعون لضغوط أمريكية وغربية وصلت إلى حدّ الرغبة في إزاحة نتنياهو وأعوانه المتشدِّدين من أجل قيادات جديدة لديها أفكار أكثر إيجابية بشأن التسوية السياسية وحل الدوليتين، فضلًا عن مواجهتهم ضغوطًا إقليمية من أجل وضع حدٍّ للحرب، التي تشنُّها إسرائيل على قطاع غزة، ومن أجل تخفيف حدَّة الأزمة الإنسانية وإيصال المساعدات العاجلة إلى المدنيين. والأهمّ، أنَّ الجهود كانت تبحث عن تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، التي طال أمدها، وكانت صورة إسرائيل على الصعيد العالمي قد تآكلت بشدَّة، ووصلت سمعتها إلى الحضيض، وفي الوقت نفسه حظِيَت الحقوق المشروعة للفلسطينيين بدعمٍ غير مسبوق، كما اكتسبت معاناة قطاع غزة تعاطفًا عالميًّا واسعًا.

لكن الهجوم الإيراني قلَبَ الأمور رأسًا على عقب، إذ غيَّر مسار التفاعلات المتعلِّقة بالصراع في فلسطين، ومنَحَ نتنياهو ما كان يتمنَّى، فبعد أن كانت إسرائيل معزولة إقليميًّا ودوليًّا، أصبحت محورًا لتحالف دولي-إقليمي من أجل الدفاع عن أراضيها، وأضحت قياداتها المنبوذة تتلقَّى الدعم والتأييد من قادة العالم، وتحوَّلت إسرائيل من مُتَّهَمة في نظر المجتمع الدولي، إلى كيان يستحِقُّ الدفاع عنه وحمايته. ولم تتوانَ إسرائيل عن استغلال هذه الهجمات من أجل تحسين صورتها، واستعادة صورة الضحية، التي تواجه تحدِّيًا وجوديًّا في محيطٍ مُعادٍ لها، كما كانت تروِّج نفسها على مدى عقود. وتحوَّلت الخلافات بين واشنطن وتل أبيب إلى تفاهُم عميق، استغلَّه نتنياهو من أجل تجاوُز الضغوط الداخلية، التي كان يتعرَّض لها حتى عشية الضربات، وباتت لديه شرعية من جرَّاء التصدي الناجح للهجوم الإيراني، في سبيل تعزيز سُلطته، وبالتالي متابعة مزيد من السياسات المتشدِّدة بشأن الفلسطينيين، وتجاهُل النداءات الدولية من أجل الدخول في مفاوضات لتسوية الصراع.

ورُبَّما كان من الممكن أن يكون هذا الهجوم مُهمًّا للفلسطينيين ولقضيتهم، لو أنَّ إيران قد أدرجته ضمن شعاراتها حول نُصرة القضية الفلسطينية، التي تتعرَّض لأهمِّ اختبار لها، منذ أن نشأ هذا الصراع، لكنَّها ضربة صُمِّمت دون أيّ اعتبار للظروف، التي تمُرُّ بها القضية الفلسطينية، ودون أيّ اعتبار للكارثة، التي يمُرّ بها قطاع غزة، بل دون أيّ اعتبار حتى لحُلفاء إيران، التي تصمِّم إسرائيل على إنهاء وجودهم في قطاع غزة من عناصر المقاومة الفلسطينية. فالضربة -من وجهة نظر الإيرانيين- انتصارٌ لإيران، وحمايةٌ لقياداتها، الذين تحصدهم إسرائيل في ساحات المواجهة، ولردّ الاعتبار وحفظ كرامة إيران المبعثرة في الساحات الجانبية للصراع، ولحفظ ماء الوجه في الداخل.

ومن ثمَّ يبدو أنَّ إيران لم تُسقِط شعاراتها، التي ترفعها تجاه فلسطين والفلسطينيين والقدس، وتصرَّفت بذاتية وبراغماتية فحسب، بل إنَّها أضرَّت بالقضية الفلسطينية، وحوَّلت أنظار العالم عنها في لحظة حرِجة، وأحبطت الزخْم الدولي المسانِد لوقف الحرب وإيجاد معالجة للمعاناة الإنسانية الجارية في قطاع غزة، والضغط على إسرائيل من أجل وضْع حدٍّ لحربها على المدنيين. فهجوم إيران منَحَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعناصر حكومته المتشدِّدة، المبرِّر لتجاهُل الضغوط الداخلية والخارجية، والمُضي قُدُمًا في إعادة الزخْم للعملية العسكرية في غزة، كما يجري على الأرض الآن، ورُبَّما الشروع عمليًّا في تنفيذ خُطَط الاقتحام المؤجَّلة في رفح.

إذ سهَّل هجوم إيران على إسرائيل إطالة أمد الصراع، واستغلال انصراف أنظار القُوى الدولية عن الحرب الدموية، التي امتدَّت بلا هوادة لأكثر من ستّة أشهر في تنفيذ أهدافها العسكرية، بما يُطيل معاناة المدنيين الفلسطينيين أكثر، ويُفاقم أزمتهم.

وبينما ينشغل العالم مع الهجمات الإيرانية على إسرائيل والردّ الإسرائيلي البيِّن عليها يوم الجمعة، كشفت أخبار عن تقدُّمٍ للقوّات الروسية في ساحة المعركة في أوكرانيا، التي لا تجِد في يدها السلاح الكافي، في ظلّ تراخي الكونغرس الأمريكي بشأن اعتماد حزمة تمويل جديدة.    

الخطورة الآن هي أنَّ إسرائيل لن تتوانى عن استغلال هذه الفُرصة، التي أعطتها إيران لها مجّانًا من أجل فرْض أمر واقع جديد على المجتمع الدولي بشأن القضية الفلسطينية، بل رُبَّما فرْض واقع جديد على المنطقة ككُلّ. إذ ليس من المُستبعَد أن يتّجِه نتنياهو إلى استغلال الهجوم الإيراني من أجل الهروب إلى الأمام، وتجاهُل الضغوط والاستحقاقات بشأن القضية الفلسطينية، وقد تستغِلّه الولايات المتحدة لتنفيذ أجندتها الأوسع إقليميًّا، لكن على المجتمع الدولي ودول المنطقة ألّا يقعوا في هذا الفخ، وألّا ينجَرَّ الجميع خلف سياسات إيران وإسرائيل المتطرِّفة، التي قد تجِد في التصعيد الإقليمي، والاستقطاب في إطار الهياكل الأمنية المتنافسة، والحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط، فُرصةً من أجل تجاوُز إخفاقات نظامهما في الداخل سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، ويجب ألّا تُترَك قضية فلسطين أسيرة لطموحات إيران وإسرائيل، ومحاولات توظيفها من الجانبين لتعزيز مكانتهما. كما ينبغي أن يُعاد الزخْم الإقليمي والدولي من أجل وقْف الحرب، والوصول إلى تسوية عادلة وناجزة للقضية الفلسطينية، وبالتالي تُصبح العودة العاجلة إلى مسار الضغط على إسرائيل وحكومتها من أجل ضبْط بوصلة سياساتها المتطرِّفة ضرورة، لأنَّ تسوية هذه القضية هي الكلمة المفتاحية لاستقرار وأمن المنطقة ككُلّ، ولإعادة الأمل إلى مشروعات التكامل والتعاون الأوسع.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية