الدوري السعودي في قلب إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=32450

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

تستمر المملكة العربية السعودية في تقديم نموذجها الجديد في ظلّ رؤية 2030م، والتركيز في أحد جوانبها على جودة الحياة وإنجاح النموذج الاقتصادي، الذي يركِّز على تنويع الاقتصاد والابتعاد عن النفط كمصدر رئيسي للدخل. ومن أحد عناصر هذا التنوُّع الاقتصادي، الاستثمار في قطاع الرياضة بشكل عام وكرة القدم على وجه الخصوص، وأصبحت مباريات دوري روشن السعودي تُنقَل عبر عشرات القنوات الفضائية حول العالم. رُبّما القناة، التي لفتت الأنظار بشكل أكبر ودارَ حولها النقاش في مواقع التواصل الاجتماعي، هي إحدى القنوات التلفزيونية التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، حيث وافقت المملكة العربية السعودية على البثّ الحي لمباريات الدوري السعودي لكرة القدم على شاشة التلفزيون الإيراني، وكانت مباراة الهلال والاتحاد أول مباراة يشاهدها الجمهور الإيراني على تلفزيون بلاده من الدوري السعودي، وكانت له تعليقاتٌ نارية على هذا الحدث الفارق. مباراة الاتحاد والهلال بالدوري السعودي لم تكُن فقط أول مباراة يتابعها الجمهور الإيراني على الهواء مباشرةً في التلفزيون المحلِّي، بل كانت بمثابة مُفتتَحٍ لنار المقارنة بين ما يشاهدونه من عالميةٍ في دوري المملكة، وبين نظيره الإيراني، الذي يفتقر إلى أبسط مقوِّمات اللعبة في بلادهم.

اندهش العديد من الإيرانيين من محبي كرة القدم من جودة الملعب المجهز بكميرات بوضوح 4K ناهيك عن لاعبي كرة القدم من الصف الأول أي المحترفين؛ لقد أحبوا حماس المباراة وجودتها، وهنا يتباينُ الدوري الإيراني لكرة القدم عن العديد من الدوريات الأخرى في المنطقة؛ فعند مقارنته بالدوري السعودي للمحترفين، نلحظ فجوةً واختلافًا كبيرًا بين الدوريين أي السعودي والإيراني؛ الأمر كمن يقارن الليل بالنهار.

يتربع الدوري السعودي وبكل قوةٍ على القمة؛ نراه يجذب لاعبين بارزين وهم في أوجّ عطائهم الكروي، تخلوا   عن بطولات الدوري في الغرب وانضموا إلى الدوري السعودي للمحترفين، مما عزز من نوعية الدوري ومبارياته، اختار هؤلاء اللاعبون المحترفون خوض تجربةٍ جديدة يرفعون من خلالها من مستوى الدوري السعودي للمحترفين، ليصبح من أفضل الدوريات عالميًا.

انتقل لاعب كرة القدم البرازيلي الشهير المعروف باسم نيمار من «باريس سان جيرمان» إلى نادي الهلال هذا الصيف، وصرح أنه لن يتفاجأ إذا كان الدوري السعودي للمحترفين أفضل بالفعل من الدوري الفرنسي للمحترفين، نظرًا لمستوى اللاعبين المحترفين الذين انتقلوا إلى الدوري السعودي. سيزداد الدوري السعودي للمحترفين قوةً يومًا بعد يوم، ولاسيما مع ترقب الدوريات الغربية مغادرة المزيد من لاعبيهم البارزين بمجرد فتح فترة الانتقالات التالية في يناير.

وعلى الأرجح ستصبح الأندية السعودية أفضل وأقوى على المنافسة؛ فمن الممكن أن تفوز إحدى الأندية السعودية بدوري أبطال آسيا. وهنا نستذكر، استعانة المنتخب السعودي الذي قدم أداء بطوليًا في مونديال قطر بالمدرب الإيطالي الشهير روبرتو مانشيني، لذا فمن الممكن أن يقفز المنتخب الوطني أيضًا إلى مستوى أعلى من خلال إعداده اعدادًا جيدًا للمشاركة في البطولات الإقليمية والدولية المقبلة.

وتضمَّنت آراءُ بعض المغرِّدين، الذين علَّقوا على بثّ المباراة، عبارات مثل «هذه هي حقيقة كرة القدم الإيرانية، التي يتعيَّن عليها ممارسة الضغط لاستضافة الفرق السعودية. من جهة أخرى نجِد السعودية في القمّة، إذ يُقيم نجوم كرة القدم العالمية في السعودية، ومستوى بثّ المباريات أسطوري، لكن في الليلة الماضية حدث شيءٌ جديد، ولأول مرة يجري بثّ مباراة من الدوري السعودي على الهواء مباشرةً على التليفزيون الإيراني».

وجاء تعليق سعيد مالكي على «أرضية الملعب الممتازة، والنجوم من الدرجة الأولى، والأهداف الكثيرة، والمباراة الحماسية، والتغلُّب الأسطوري على الخصم بعد الخسارة»، وتساءل: «لماذا لا ينبغي أن يكونوا أبطال الأندية الآسيوية؟ والآن وبعد أن أصبح لديهم مانشيني العظيم، لماذا لا يصبحون أبطال كأس العالم؟».

أمّا المغرِّد «AS»، فقال: «لم أكُن أظُنّ مُطلَقًا أن يأتي يوم أتابع فيه الدوري السعودي لكرة القدم! عن أيّ جانب أتحدَّث؟ عن جودة الملعب؟ عن جودة العشب المخملي؟ عن جودة كاميرات التصوير 4k؟ عن جودة المباراة الاحترافية؟! سعيد بأنَّني لا أتابع مباريات كرة القدم الإيرانية منذ وقت طويل. لم تكُن مباراة كرة قدم فقط، بل كانت عرضًا لإدارة دولة وتطلُّعها إلى المستقبل»، فيما كتب Red wine: «إنْ تحدَّثنا عن الفريقين، فسنرى أنَّ هذه المباراة بمستوى مباراة نهائية، أرض الملعب كالزجاج، التصوير ممتاز. لقد تخلَّفنا كثيرًا ببركة النظام المقدَّس».

وانتقدَ أحد روَّاد موقع «إكس» الفارقَ الضخم في إمكانيات مسابقتي الدوري في كلتا الدولتين، لافتًا إلى الحظر المؤسف المفروض على دخول النساء إلى العديد من الملاعب أو المرافق في إيران، مثل ملعب «آزادي»، الذي شُيِّد قبل الثورة.

ردود فعل روّاد الفضاء الافتراضي في إيران، التي أشعلها بثّ مباراة الاتحاد والهلال من الدوري السعودي على تلفزيون بلادهم، تخطَّت مباراة كرة قدم إلى رمزيتها كحدث سياسي، حيث يقول أحدهم: «بينما كانوا يتسلَّقون جدارَ السفارة السعودية في يوم من الأيام، الآن يبثُّون الدوري السعودي على الهواء مباشرة».

وأعادَ مغرِّدٌ آخر التذكير بالرمزية السياسية للمباراة: «كانت السعودية هي من تسلَّقتم جدارَ سفارتها وهدَّدتموها، لكن ماذا كانت النتيجة؟ منذ ذلك اليوم، أصبحت إيران أكثر عُزلة، حتى أنَّ فريقهم [السعودي] لكرة القدم لم يأتِ للعب في إيران، وبقية القصة أنتم تعرفونها أفضل منِّي».

أمّا هذه التغريدة الساخرة ذات الدلالات الكثيرة لـمحمد كشوري، فتقول: «أعتقدُ أنَّ عرضَ التليفزيون الإيراني مباريات الدوري السعودي بهذه الجودة من التصوير وأرضية الملعب ومستوى اللعب وجودة اللاعبين، هو تشويشٌ للرأي العام. لكن التقدير يعودُ لهم، في نهاية المطاف!».

كما كتبَ آرمان: «تعرَّضنا لهزيمة حقيقية من الكرة السعودية هذه الليلة، حين ننقلُ مبارياتهم في الدوري على الهواء مباشرة. مستواهم مرتفعٌ للغاية، لدرجة أنَّه لم يشاهد أحد مباراتي ميلان وروما. وهُنا من المقرَّر أن تتوجَّه الإطفائية إلى ملعب آزادي؛ كي تسقي العشب بالماء».

وكتبَ فرهادستان أيضًا في هذا الصدد: «لم أعتقد أبدًا أنِّني سأُشاهد الدوري السعودي يومًا ما. عن أيّ شيء أتحدَّث؟ عن جودة الملعب؟ أم عن الإضاءة وجودة ملعب الاتحاد؟ أم عن جودة الكاميرا والتصوير 4K؟ أم عن جودة المباراة العالمية؟ إن كنتم تريدون أن تعرفوا إلى أيّ مدى نحن متخلِّفون عن العالم، فما عليكم سوى المقارنة بين كرة القدم الإيرانية وكرة القدم السعودية».

خدعة إلهاء الشعب ليست بجديدة على النظام الإيراني؛ لقد أتقن النظام هذه الخدعة على مر العقود، لكنه عادةً ما يهاجم المملكة العربية السعودية، أو يُصعد التوترات في الخليج العربي، أو يَبثُ خطابًا ناريًا مناوئًا للولايات المتحدة، أو يدفع بوكلائه لشن هجماتٍ في دوائر نفوذه. ولكن طالما أن الشعب الإيراني أصبح معتادًا على هذه الحيل فلم تعُد تنطلي عليه، ولذلك لجأ النظام إلى استخدام ورقة جديدة؛ ألا وهي بث مباريات الدوري السعودي لكرة القدم في محاولةٍ لتهدئة الشعب الإيراني، ولاسيما أن ذكرى وفاة  الفتاة الكردية مهسا أميني، قد قاب قوسين أو أدنى.

الحماسة التي شاهدَ بها الجمهور الإيراني المباراة، جعلت مَنْ لم تُكتَب له متابعتها كاملة، يبحثُ عن ملخَّص لها، مثل أمير مير، الذي قال: «أنْ تُشعِل التليفزيون على قناة الرياضة وتشاهد مباريات الدوري السعودي، فسنقول لا بأس! لكن أن تشاهد في حال لم تلحق بالمباراة، ملخَّصًا لها وأنت متحمِّس، فهذا يعني أنَّ السعودية فعلت ما ينبغي عليها فعله.. إنَّها حسرةٌ لنا وعلينا».

وعلى منوال التحسُّر ذاته، جاءت هذه التغريدة لمستخدم يُدعى غارسون، قال: «التكلفة الإجمالية للدوري السعودي لهذا العام 60 ألف مليار تومان، بينما اختلست شركة مباركة سباهان للصُّلب 90 ألف مليار تومان قبل عامين. انظروا إلى الكاميرات قبل يومين في مباراة برسيبوليس وفولاد، وذلك على الرغم من أنَّ ملعب فولاد يُعتبَر أحد أفضل الملاعب وأكثرها تجهيزًا في إيران».

وإلى السخرية مرَّةً أخرى يعود الكاتب «الأُصولي» وحيد حاجي، الذي كتبَ تغريدةً على صفحته بموقع «إكس»، قائلًا: «أمثال حسين طاهري وثابتي، الذين كانوا يتهكَّمون على السعودية قبل أشهر قليلة، أصبحوا ليلةَ أمس مشغولين بمشاهدة مباراة الهلال والاتحاد في الدوري السعودي على التلفزيون الإيراني»، وأضاف: «كان من المقرَّر أن نضعَ علامةً على علم السعودية الأخضر، لكن تغيَّرت الخطَّة، ووُضِع العلمُ السعودي على أجهزة الاستقبال الإيرانية».

من جانبها، نشرت صحيفة «فرهيختكان»، أنَّ «تحسين العلاقات بين إيران والسعودية لعِب دورًا في قرار المملكة بثَّ مبارياتها على التليفزيون الإيراني، فضلًا عن الأهمِّية الرياضية للدوري السعودي»، وأكَّدت الصحيفة أنَّ هذا «كان خبرًا جيِّدًا بالنسبة للتليفزيون الوطني، الذي لا يتمتَّع بشعبية، ويتسوَّل هذه الأيام للحصول على جمهور دون أن يدفع ريالًا واحدًا، فسوف يجذب مشاهدين لقناته، من خلال بثّ المباريات المثيرة لكرة القدم».

ولقد كان لكُتّاب الرأي والصحافيين نصيبٌ من تغطية هذه المباراة، حيث أنَّ الكاتب الصحافي أمجد طريق كتبَ عبر موقع «عصر إيران»: «للمرَّة الأولى، بثَّ التليفزيون الإيراني مباراة الدوري السعودي لكرة القدم على الهواء مباشرة، ومن المقرَّر أن يستمرّ هذا الأمر.. إنَّ الدوري السعودي، ونتيجة وجود نجوم كبار وجودته والإمكانيات الكبيرة، لا يمكن تجاهله»، وتابع: «البثّ المباشر لمباريات الدوري السعودي لكرة القدم على التليفزيون الإيراني لأول مرَّة، مؤشِّرٌ على جدِّية عملية استئناف العلاقات بين البلدين. ولو لم يجرِ تطبيع العلاقات بين البلدين، لم تكُن هذه العملية جدِّية».

ختامًا، يمكن القول إنَّ السعودية تستمرُّ في تقديم نموذجها للحُكم الرشيد في ظل رؤية 2030م، وتأثير ذلك ليس محصورًا داخل حدود المملكة، بل تجاوزها إلى العديد من الدول الإقليمية، حتى تلك الدول، التي تتّسِم العلاقة معها بالتوتُّر والعداء. لكن القوة الناعمة السعودية لم تحتَج هذه المرة إلى الحصول على تأشيرة؛ للوصول إلى قلوب وعقول الشعب الإيراني، وتصحيح الصورة النمطية للسعودية، التي ظلَّ النظام السياسي في طهران يعمل لسنوات على تشويهها، لكن يبدو أنَّ الأمر هذه المرَّة أكبر من أن ينجحَ النظام الإيراني في مقاومته، والقادم سيكون أكثر دهشةً للشعب الإيراني.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية