العرب بين كماشتَي المشروعين التركي والإيراني

https://rasanah-iiis.org/?p=21709

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

في ظلّ غياب مشروع عربي موحَّد يحقّق مصالح الدول العربية في مواجهة التحديات الراهنة، لم يعد المشروع الإيراني للتغلغل والاختراق المشروعَ الوحيدَ الذي يهدّد أمن واستقرار الدول العربية من قِبَل دول الجوار الإقليمي، وما كان بالأمس يمثل نظرة استشرافية حول حقيقة الخطر التركي على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بات واقعًا ملموسًا يكشفه عديد من الممارسات التركية في عدد من دول الإقليم، فهل كان المشروع الإيراني للتغلغل في الدول العربية النموذج المحتذي للممارسات التركية، أم إن المشروع التركي المرحلي الذي استطاع التستُّر لفترة تحت رداء النموذج المدني المتبني لقراءة معتدلة للإسلام له منطلقاته وآلياته المختلفة عن المشروع الإيراني؟ وهل يمكن اتخاذ نفس السياسات المتبعة في مواجهة المشروع الإيراني حيال المشروع التركي، أم إنه يتطلب معالجة مختلفة تتفق مع طبيعة منطلقاته وآلياته، والتحديات التي يخلقها أمام الأمن الإقليمي؟

ارتكز المشروع الإيراني في التغلغل واختراق الدول العربية على أسس راديكالية محورها تصدير الثورة، وعوّل كثيرًا على الضعف الذي طرأ على بعض الدول العربية في ما يتعلق بأسس الدول الوطنية وسيادة الدولة، واستخدم الطائفية في تأجيج الصراعات الداخلية، وعمد إلى تكوين كيانات سياسية وعسكرية ميليشياوية داخل الدول المستهدَفة بالاختراق تَدِين بالولاء لإيران أكثر من أوطانها، مستخدمًا شعارات المقاومة ورفض الهيمنة الأمريكية.

في حين اعتمد المشروع التركي على مولاة لتيار الإسلام السياسي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين داخل الدول العربية، على الرغم من علمانية الدولة التركية وغياب أدني مقومات الدولة الإسلامية فيها. وعلى مدار السنوات القليلة الماضية تبدلت منطلقات المشروع التركي بشكل متسارع، فمن دولة تقدّم نموذجًا لفصل الدين عن الدولة وتحقّق معدلات تنموية مرتفعة وتُعلِي قيمة دولة الرفاهية، وتطبّق سياسة خارجية تستهدف “صفر مشكلات”، إلى دولة تُقحِم نفسها في صراعات داخلية في كل من سوريا والعراق وليبيا، وتوتُّر مع معظم دول الخليج العربية، وترعى فصائل سياسية بعينها وتحرّضهم، ثم تعلن صراحة عن العثمانية الجديدة ورغبتها في عودتها إلى موقع القيادة للعالم الإسلامي، من خلال تقديم سلعة الإسلام السياسي للغير، في حين أنها تتمسك بتطبيق العلمانية وفصل الدين عن الدولة في الداخل.

هذه الازدواجية، أو يمكننا القول التلوُّن، أتاح مساحة للتغلغل التركي في العالم العربي أكثر من تلك التي أتيحت للتغلغل الإيراني، فبينما يجتذب المشروع إيران في المقام الأول بعض الأقليات الشيعية المنتشرة في الدول العربية، التي تتوزّع ولاءاتها بين المرجعيات الشيعية العربية ذات الحسّ الوطني، والمرجعيات الولائية التي تميل إلى إيران وتعلن ولاءها للوليّ الفقيه، نجد المشروع التركي يستهدف عامة الأغلبية السنية المتعاطفة مع تيار الإسلام السياسي.

كلا المشروعين الإيراني والتركي يجمع بين عناصر القوة الخشنة والقوة الناعمة في التغلغل والاختراق، فإيران تتحكم في ميليشيات مسلحة في كل من سوريا ولبنان والعراق، وتركيا أيضًا تتحكم في ميليشيات مسلحة في سوريا وتحضر عسكريًّا في شمال العراق، وتقاتل في صراع داخلي في ليبيا، وكما جنّدَت إيران مرتزقة من أفغانستان وباكستان للقتال في سوريا، جنّدت تركيا مرتزقة سوريين جلبتهم من مستودع الأصولية المتطرفة الذي كوّنته وتسيطر عليه في إدلب السورية وزجّت بهم في الصراع الأهلي الليبي.

وبينما لم تستطع إيران إنشاء قاعدة عسكرية دائمة لها في سوريا على الرغم من وجودها العسكري المكثف على الأراضي السورية، نجد أن تركيا أنشأت حزامًا من القواعد العسكرية يمتدّ من مياه الخليج العربي إلى غرب ليبيا، إذ افتتحت تركيا في قطر قاعدتَي طارق بن زياد في عام 2015م، وخالد بن الوليد في 2020م، وقاعدة في الصومال جنوب العاصمة مقديشو في 2017م، أما في العراق فتحتفظ تركيا بـ15 قاعدة عسكرية أشهرها قاعدة بعشيقة الواقعة على أطراف مدينة الموصل شماليّ العراق، وحولت تركيا نقاط المراقبة التي أنشأتها في سوريا بمقتضي اتفاق إدلب الموقَّع مع روسيا في مارس 2020م إلى قواعد عسكرية في مناطق جرابلس وأعزاز وعفرين والباب، فضلًا عن قاعدة مورك في وسط سوريا، وهي الأبعد عن الحدود التركية السورية، ثم جاءت قاعدة الوطية الجوية في غرب ليبيا مايو 2020م.

وعلى صعيد القوة الناعمة نجد أن تركيا متمازجة مع نسيج المجتمعات العربية بشكل أكثر كثافة من الوجود الإيراني المحصور في مجتمعات الأقليات الشيعية، وقد ساعدها على ذلك أخطاء العرب في الماضي بالترويج للحقبة العثمانية والترويج الإعلامي للأعمال الدرامية التركية وترجمتها إلى اللغة العربية واستغلال أنقرة للعاطفة الإسلامية لدى العوامّ، وانتشار المراكز الثقافية التركية في معظم العواصم العربية، حتى إن خطوط موضة الملابس متأثرة بما يُنتَج في إسطنبول. كل ذلك الانجذاب نحو النموذج التركي كان خلال مرحلة ما قبل تكشُّف استراتيجية التغلغل التركية. الأمر ذاته حدث من الجانب العربي في التجربة مع إيران خلال فترة ما يُسمَّى بحكومات الإصلاح في عهدَي هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، وإن كان بوتيرة أقلّ.

ولكل من المشروعين الإيراني والتركي أطماعه الاقتصادية، فكما تسعى إيران لاستنزاف الثروات التعدينية السورية والحصول على أكبر حصة من عقود مشروعات إعادة الإعمار، مع هيمنتها على قطاع الطاقة في العراق، نجد تركيا تستغلّ المقاطعة العربية لقطر في تصريف صادراتها والحصول على الدعم النقدي القطري لتدعيم عملتها بعد الهبوط المتتالي في قيمتها عقب العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي فُرضت عليها في 2019م، كما استغلّت عدم استقرار الأوضاع في ليبيا لتوقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية تستنزف بمقتضاها الثروات الليبية من النفط والغاز.

الواقع أن المشروع التركي بات على نفس قدر خطورة المشروع الإيراني، فكما تنتهك إيران سيادة الدول على أراضيها وتشكّل كيانات عسكرية وسياسية موالية لها في إطار الدولة الدينية العابرة للدولة الوطنية، يسعى المشروع التركي لإقامة دولة إمبراطورية كولونيالية بالاستناد إلى آيديولوجيا العثمانية الجديدة التي تمزج بين التاريخ الاستعماري العثماني والدولة المدنية العلمانية مع دعم تيار الإسلام السياسي، في تركيبة متناقضة لا يجمع بينها إلا أحلام السيطرة واستلاب الآخر.

وهنا ضرورة عمل الدول العربية على إفشال المشروع التركي قبل توسُّعه بشكل أكبر حتى لا ندخل في مرحلة أكثر خطرًا وأشدّ فتكًا كما حصل مع المشروع الإيراني وتمدُّده بسبب عدم التصدي له مبكرًا.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية