القمَّة الأمريكية-الروسية.. أيّ تقدُّم مُحتمَل للملف السوري؟

https://rasanah-iiis.org/?p=25178

اُختتِمت في جنيف يوم الأربعاء (16 يونيو 2021م)، القمَّة الأولى التي جمعت الرئيس الأمريكي جو بايدن بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، في وقت تمُرّ فيه علاقات الدولتين بتوتُّرات دبلوماسية وعسكرية وكذلك اقتصادية، في مقدِّمتها قضايا الاستقرار الإستراتيجي والحدّ من التسلُّح، والصراعات الإقليمية، لا سيما في منطقتي الشرق الأوسط وشرق أوروبا. وعلى الرغم من تزاحُم العديد من الملفات والقضايا الإستراتيجية ذات الأهمِّية الأوليةَ المطروحة على طاولة جدول أعمال القمَّة، وتعدُّد التحليلات والتوقُّعات التي سَبَقت الموعد المرتقب حول مركزية الملف السوري ضمن الملفات الأُخرى، إلّا أنَّ تصريحات طرفي القمَّة أشارت إلى تضمين هذا الملف في مُجمَل النقاش المتوقَّع بين الرئيسين، كما عبَّر عن ذلك الرئيس بوتين بأنَّه يأمل في استئناف الحوار في القضايا ذات الاهتمام المشترك مع الولايات المتحدة، خصوصًا تلك التي تشمل الاستقرار الإستراتيجي والنزاعات الإقليمية، لا سيما في سوريا وليبيا.

وقبل ذلك، أعلن مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان، عن نيّة الرئيس بايدن بحث القضايا المتعلِّقة بسوريا مع نظيره الروسي. ومن هنا يُطرَح تساؤل حول السياقات والأبعاد السياسية التي دخل بها كلا الرئيسين لهذه القمَّة، وكذلك مُخرجَات ونتائج هذه القمَّة فيما يتعلَّق بالملف السوري، فضلًا عن مستقبل ومآلات الملف ما بعد القمَّة.   

بدايةً، حضر الرئيسان الأمريكي والروسي القمَّة وسط تبايُن واسع بين نظرتيهما ما بين أهمِّية الملف السوري في حساباتهما الإقليمية والدولية، في ظلّ وجود العديد من الملفات ذات الأولوية في سلَّم النقاشات والتفاهُمات في هذا اللقاء، وما بين توقُّعات بتهميش الملف السوري لصالح طرح طُرُقٍ ووسائل لاستعادة الثقة بين القوتين النوويتين (موسكو-واشنطن)، في عدد من القضايا الإستراتيجية الأُخرى.

فالإدارة الجديدة للولايات المتحدة لا يزال موقفها من الملف السوري ضبابيًا، ولم يتوصَّل حتّى الآن الرئيس الأمريكي بايدن وفريقه الإداري، رغم مرور خمسة أشهر على دخوله للبيت الأبيض، لرؤية شاملة لسوريا، سوى اعتبار الملف السوري كحلقة من حلقات حلّ الصراعات الأُخرى في المنطقة، وتحديدًا علاقته بالملف الإيراني.

وعلى العكس تمامًا، فإنَّ الورقة السورية ذات أهمِّية كُبرى بالنسبة لروسيا، ويدُلّ على ذلك تشكيلة الوفد الروسي التي صاحبته في هذا الاجتماع، والتي كان من بينها مبعوث الرئيس الروسي الخاص في سوريا ألكسندر لافرنتييف؛ ما يعكس رغبةً عالية من الرئيس بوتين في إجراء مناقشة واسعة وشاملة للوضع السوري، لا سيما أنَّ موسكو تُدرك أنَّه رغم سعيها لإنقاذ بشار الأسد، إلّا أنَّه في الواقع لا يزال يصعب عليها مواجهة المعركة الاقتصادية والاجتماعية في سوريا، وتحمُّل أعباء إعادة الإعمار، وإعادة ملايين النازحين واللاجئين؛ الأمر الذي سيُبقي مكاسبها في سوريا عُرضةً للاهتزاز تحت ضغط هذه الأعباء. لذا كان من المتوقَّع أن تلجأ روسيا وعبر هذا اللقاء إلى استخدام الورقة السورية لحَلْحَلة الكثير من الملفات العالقة مع الولايات المتحدة، واستدراجها لعقد تفاهُمات بشأن سوريا، ومن ضمنها تخفيف »قانون قيصر»، الذي تعتبره روسيا معطِّلًا لمشروعات إعادة الإعمار وضخّ استثمارات أجنبية في سورية، مقابل تحصيل مكاسب في مناطق صراع متداخلة أُخرى (أوكرانيا-القرم، وغيرها من الملفّات). ويمكن القول هنا، إنَّ التصعيد العسكري والقصف الروسي لإدلب وعفرين في شمال سوريا قبل أيّام معدودة من عقد عددٍ من اللقاءات المهمَّة، ومنها هذا اللقاء، كانت بمثابة ممارسة الضغوط ومساومة الولايات المتحدة على تقديم تنازُلات تتعلَّق بالملف السوري.

وبختام هذه القمة، والتي لم يُعلَن فيها عن أيّ مستجَّدات تخُصّ الملف السوري، على الرغم من تصريحات الرئيس الأمريكي حين ذكر باقتضاب أنَّه تحدَّث مع الرئيس الروسي حول تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى سوريا، إلَّا أنَّه في المقابل، غاب الملف السوري كاملًا عن تصريحات الرئيس الروسي، بل لم تُبدِ روسيا أيّ التزام بتسهيل تقديم المساعدات الدولية عبر الحدود إلى سوريا؛ ما يفتح مجالًا لأن تبقى هذه الورقة محلّ تجاذُب بين الطرفين حتّى تاريخ 10 يوليو 2021م، وهو الموعد المقرَّر لإعادة تقييم قرار الأمم المتحدة في استمرارية إيصال المساعدات الإنسانية من عدمِه.

وعلى الرغم من أنَّ ملف المساعدات يُعَدّ إنسانيًا في المقام الأوَّل، والتي لا يمكننا هنا التقليل من أهمِّيته بالنسبة لملايين السوريين داخل دولتهم في ظلّ الظروف المأساوية التي يعيشونها، إلّا أنَّه في واقع الأمر ينطوي على صراعٍ سياسي ثلاثي بين الولايات المتحدة وروسيا والدول الغربية. فالولايات المتحدة الأمريكية تحاول من جهتها الضغط لصالح فتح المزيد من المعابر، فضلًا عن استمرار آلية عمل مجلس الأمن الحالية، وهو إيصال المساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، والمحصورة حاليًا في معبر باب الهوى على الحدود السورية مع تركيا. وعلى النقيض من ذلك، فموسكو من جهتها تضغط من أجل دفع الأمم المتحدة إلى إرسال مساعداتها عبر المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، وذلك عبر التلويح بمنع الأمم المتحدة من التجديد لإدخال المساعدات عبر باب الهوى خلال جلسة مجلس الأمن الدولي في 10 من يوليو المقبل، وهو ما أثار الكثير من المخاوف الدولية. الضغط الروسي رُبّما أرادت به موسكو الحصول على مكاسب إضافية وأوراقٍ تفاوضية، في محاولاتها للدفع قُدُمًا نحو إيجاد مسارات لتفاهُمات دولية، حول شرعنة التعامُل الدولي مع الحكومة السورية، وفكّ عُزلتها الدولية. إلّا أنَّه في واقع الأمر، من المرجَّح ألّا تُقدِمَ روسيا على اتّخاذ مثل هذا القرار، انطلاقًا من مبدأ أنَّ معارضتها لتمديد مثل هذا القرار قد تعرِّضها لأكثر من مأزق على الصعيد الدولي، والأهمّ من ذلك، أنَّ لموسكو مصلحةً كُبرى في تحريك الملف السياسي السوري. وبعيدًا عن المناقشات التي دارت حول المساعدات والممرَّات الإنسانية خلال هذه القمَّة، يبقى السؤال الأهمّ هُنا، هل ستحمِل هذه القمِّة وما بعدها أيّ تقدُّم في الملف السوري؟ وهل سيبقى الموقف الأمريكي غائبًا فعليًا عن مستقبل التسوية السياسية في سوريا من جملة اهتماماتها وتطلُّعاتها خلال الفترة المقبلة؟

ومن هُنا، وللإجابة عن سؤال مآلات الملف السوري ما بعد القمَّة، أثارت جُملةٌ من تحرُّكات الولايات المتحدة والمرتبطة بشكلٍ مباشر وغير مباشر بالملف السوري، مؤشِّراتٍ أوَّلية عن ملامح المستقبل في التعاطي مع هذا الملف. ومن أهمِّها ما كشف عنه حديث الرئيس الأمريكي حول التنسيق المشترك مع روسيا، وهو رُبّما يكون عنوانًا مهمًّا وإشارةً أوَّلية لمراجعة المواقف بين الطرفين، خاصَّةً أنَّ مستوى الاحتكاك العسكري بين قوّاتهما على خطوط التماس في الشمال والشمال الغربي لسوريا تزايد في الفترة الأخيرة، فضلًا عن ذلك، عندما يتحدَّث كلا الرئيسين عن مسؤولية دولتيهما في تحقيق »الاستقرار الإستراتيجي «في العالم، فإنَّ الأزمة السورية يتعيَّن أن تكون في صُلب هذا الاستقرار، لاسيما أنَّ  موسكو تسعى إلى تعزيز قُدراتها العسكرية في سوريا، وتحويلها إلى قاعدة إستراتيجية، في ظلّ العمل على توسيع قاعدة طرطوس البحرية؛ لتصبح قادرةً على استقبال قطعٍ حربية كبيرة، وكذلك توسيع مدرَّج قاعدة حميميم الجوِّية وتأهيله لهبوط قاذفات إستراتيجية قادرة على حمل صواريخ نووية. هذا كُلّه يشكِّل مصدر تهديد مباشر للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ومن الطبيعي أن هذا الوضع لن يُرضي واشنطن. وبناءً على إعلان الدولتين عن نيتهما الدخول في تفاهُمات حول قضايا الاستقرار الإستراتيجي، فمن المرجَّح أن تعمل واشنطن على بحث ترتيباتٍ سورية خلال الأشهر المقبلة، وإن لم يُعلَن عن ذلك مباشرةً خلال القمَّة التي عُقدت بينهما. كما أنَّه من المرجَّح أيضًا أن يبقى مصيرُ سوريا على سلَّم الأولويات الأمريكية، لضبط التمدُّد الروسي عبرها، وفي سياقه قد تضطرّ واشنطن لخطوات إضافية تمسّ مباشرةً نظام الأسد، طالما بقِي ضامنًا للوجود العسكري الروسي في سوريا.

كما تُعوِّل واشنطن كثيرًا على عودتها إلى الساحة الدولية، والمشاركة في وضع مقاربات جديدة تجاه الأوضاع الإقليمية ذات الارتباط بمصالحها وركائزها الإستراتيجية، ومن هُنا يأتي ترؤُّس وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، لأوَّل اجتماع موسع بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مع دول التحالُف ضدّ »داعش« في روما في 28 يونيو 2021م، وسيكون من جُملة الملفات الرئيسية المطروحة للنقاش هو ملف المساعدات الإنسانية الذي تركِّز عليه واشنطن، والملف السياسي السوري، بالإضافة إلى ملف الأسلحة الكيماوية، وملف إعادة الإعمار. ويمكن اعتبار ذلك كتعبير عن توجُّه جديد للسياسة الأمريكية الحالية تجاه سوريا، ومؤشِّر على توسيع مستوى الانخراط الأمريكي في العملية السياسية المتعثِّرة بسوريا، بعد سنوات من الارتباك الأمريكي في هذا الملف.

ترافَق مع ذلك، تحرُّك الأردن نحو مناقشة الملف السوري، خلال اللقاء المرتقب الذي سيجمع الملك الأردني عبد الله الثاني بن الحسين مع الرئيس الأمريكي في شهر يوليو المقبل، لبحث سُبُل التسوية السياسية، وكذلك مناقشة «قانون قيصر». هذا التوجُّه الأردني لن يأتي إلّا بحصول موافقةٍ ضمنية من إدارة بايدن لمناقشته.

بجانب ذلك، هناك العديد من بوادر التقارُب الأمريكي-التركي بدأت في الظهور مؤخَّرًا، لاسيما خلال الفترة التي سبقت هذا الاجتماع، حيث كثَّفت إدارة بايدن زياراتها الدبلوماسية مع أنقرة. فبعد زيارة نائب وزير الخارجية ويندي شيرمان إلى تركيا في أواخر مايو 2021م، زارت السفيرة الأمريكية لدى الأُمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد معبرَ باب الهوى على الحدود التركية-السورية، فضلًا عن زيارةٍ مرتقبة لوفدٍ من الولايات المتحدة لتركيا، لمناقشة عددٍ من القضايا ذات الاهتمام المشترك بين الجانبين. كذلك إحياء الخارجية الأمريكية في مارس 2021م  »ذكرى سقوط الجنود الأتراك «في إدلب، وتصريح المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا جيمس جيفري، بأنَّ العلاقات الأمريكية-التركية تتّجه نحو التحسُّن، بعد فترة من الهدوء.

 وعلى الرغم من أنَّ الاجتماع الثُنائي الذي عقدته الإدارة الأمريكية مع نظيرتها التركية على هامش اجتماع حلف الأطلسي في بروكسل، لم يُسفِر عن تفاهُمات علنية حول الملف السوري، إلّا أنَّ ملف المعابر الحدودية وتوسِعة تسليم المساعدات الإنسانية بقيت موقعَ توافُق بين الدولتين. لذا من المتوقَّع أن تسعى كُلٌّ من الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا إلى الدفع نحو تفاهمُات مشتركة في الملف السوري، لا سيما أنَّ تركيا تمتلك موقعًا حاسمًا فيما يتعلَّق بالمعابر وتدفُّق المساعدات الإنسانية، وكذلك محورًا مهمًّا من ضمن المحاور الرئيسية في توجيه بوصلة العلاقات الروسية-الأمريكية مستقبلًا.

خُلاصة القول، لم تأتِ قمَّة الرئيسين الأمريكي والروسي بجديدٍ يكفي لتحريك المياه الراكدة في الملف السوري، ولم تكُن المساحة التي منحها كلا الرئيسين لبحث الأزمة السورية خلال محادثاتهما في جنيف بحجم توقُّعات الكثيرين. إلَّا أنَّ النتائج الفعلية لهذا الاجتماع ستظهرُ على المدييْن المتوسِّط والطويل، وستكشفُ التحرُّكات التي أعقبت القمَّة مباشرة، وكذلك اللقاءات المرتقبة مستقبلًا، كترؤس وزير الخارجية أنتوني بلينكن اجتماعَ روما المقبل، وكذلك الموعدَ المُرتقَب للتصويت على قرار مجلس الأمن الخاصّ بالمساعدات قَبل 11 يوليو 2021م؛ بكُلّ تأكيد عن ملامحِ المرحلة المقبلة، وكذلك عن أيّ مدى ستذهبُ إليه المقاربات الأمريكية فيما يخُصّ الملف السوري. هل هي بالفعل مقارباتٌ تهدفُ إلى حلّ الأزمة السورية، أم هي مجرَّد مقارباتٍ شكلية تهدفُ لإدارة أطراف الأزمة السورية أكثر من حلِّها، لا سيما مواجهة النفوذ الروسي في سوريا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى ممارسة المزيد من الضغوط على إيران لحثِّها على اتّباع نهجٍ أكثرَ مرونةً في مفاوضات الاتفاق النووي الجارية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير