تصاعُد المواجهات المسلَّحة الإيرانية-الإسرائيلية وتداعياتها على سيادة وأمن دول الشرق الأوسط

https://rasanah-iiis.org/?p=34739

على خلفية تفاقُم المواجهات المسلَّحة المباشرة بين إيران وإسرائيل، منذ مطلع أبريل 2024م، والتي قد تُدخِل منطقةَ الشرق الأوسط المضطرِبة، في دوّامةِ حربٍ إقليمية كارثية على الجميع، تبرُز قضية انتهاكات طرفي المواجهات المسلَّحة المباشرة؛ إيران وإسرائيل، لسيادة وأمن الدول الواقعة ضمن النطاق الجغرافي بينهما، من خلال الاختراقات الجوِّية المباشرة عبر الصواريخ والمسيَّرات للمجالات الجوِّية لتلك الدول، التي تُعاني بالأساس من أزمات أمنية وسياسية واقتصادية معقَّدة.

تزداد خطورة المواجهات المسلَّحة الإيرانية-الإسرائيلية على أمن وسيادة تلك الدول، حال تحوُّلها إلى حرب صريحة؛ ما يطرح التساؤلات حول كيفية التنبُّه لمخاطر وتداعيات اختراقات الأجواء الجوِّية من طرفي الصراع للأمن والسيادة للدول الواقعة بينهما، وتصاعُد احتمالات تحوُّلها إلى ساحات للحرب المُحتمَلة بين أطراف الصراع، لا سيّما في ظل مساعي البلدين، لفرض قواعد اشتباك جديدة في الشرق الأوسط؛ ولذلك يناقش التقرير المحاور التالية:

أولًا: تفاقُم الصراع المسلَّح وفُرَص انتهاك سيادة الدول

تكشف التطوُّرات المسلَّحة الجارية في الشرق الأوسط بين إيران وإسرائيل، لاعتبارات تخُصّ التنافس بينهما على معدّلات القوَّة والسيطرة والنفوذ، عن انتهاكات واسعة وقعت بحقِّ سيادة بعض الدول العربية؛ العراق وسوريا والأردن، بل وتعريض أمن الدول الثلاث والأمنين الإقليمي والدولي على السواء للخطر؛ لكونها أدخلت تلك الدول الثلاث ضمن مسرح الحرب المُحتمَلة بينهما في أيّ وقت، منذ تغيير قواعد الاشتباك التقليدية بانطلاق المواجهات المباشرة بينهما لأول مرة دون أدنى اعتبار لأمن وسيادة الدول. وقد يمتدّ ذلك إلى دول مسانِدة لمسرح العمليات المُحتمَلة، مثل لبنان واليمن؛ ما يبقيها تحت طائلة الحرب وتدمير مقدراتها ومستقبلها.

وبما أنَّ تصاعد الصراع الإقليمي المسلَّح لا يرتبط -كما أكدت إيران رسميًا- بالحرب المشتعلة في غزة، ولا بدفع إسرائيل لوقف المجازر الإسرائيلية بحقِّ الفلسطينيين، وإنَّما يتعلَّق بالردّ على الاعتداءات الإسرائيلية المتكرِّرة على السيادة الإيرانية، فهذا شأن يخُصّ إيران وحدها وقراراتها السيادية، فلماذا تنتهك سيادة وأمن الدول العربية؟

يُدرك طرفا الصراع أنَّه مهما كرَّرا اختراقاتهما للمجالات الجوِّية العراقية والسورية، لن تكون هناك ردود أفعال قويّة، نتيجة تنامي حضور الفاعلين من غير الدول فيهما، والمؤثِّرين في قراراتهما الإستراتيجية والأمنية. فإيران تدرك مدى العلاقة الوثيقة بينها وبين هؤلاء الفاعلين من غير الدول، في العراق وسوريا؛ وبالتالي تعطي لذاتها أحقِّية الاختراق للمجالات الجوِّية لتلك الدول العربية، وإسرائيل من جهتها تتّخِذ من هؤلاء الفاعلين من غير الدول ذريعةً لتنفيذ اختراقاتها للمجالات الجوِّية العراقية والسورية؛ لإيقافهم من تنفيذ المخطَّطات والأهداف الإيرانية ضدّ إسرائيل.

لطالما حذَّرت بعض الدول العربية والخليجية المجتمعَ الدولي، من مسألة خطورة تنامي أدوار الفاعلين من غير الدول على حساب الفاعلين من الدول، على تماسُك الدول الوطنية، وأمن واستقرار الشعوب داخل تلك الدول. وفي كل مرحلة من الجولات الصراعية في الشرق الأوسط، يتبيَّن مدى مصداقية رواية ضرورة اتّخاذ موقف ضدّ المجموعات الفاعلة، التي تنفِّذ أجندات مخالفة لمصاح أوطانها؛ ما يقلِّص بدوره من مسألة انتهاك سيادة الدول، وتعريض الأمن والسلم في المنطقة والعالم أجمع للخطر.  

ثانيًا: الهجمات الإيرانية وانتهاكات سيادة العراق وسوريا

مئات الطائرات الإيرانية المسيَّرة والصواريخ أُطلِقت من إيران، وعبر سماء أربع دول عربية، هي العراق وسوريا والأردن وفلسطين، وتمكَّنت طائرات حربية إسرائيلية وأمريكية من إسقاط معظم الطائرات المسيَّرة الإيرانية، التي مرَّت بالمجال الجوِّي لهذه الدول الأربع، قبل أن تصِل إلى أهدافها في إسرائيل. وبعيدًا عن تقديرات الدوافع خلفَ هذا الهجوم الإيراني، والتي أكَّدتها الحكومة الإيرانية، بأنَّ الهجوم جاء ردًّا على الضربات الإسرائيلية الأخيرة على القنصلية الإيرانية في سوريا، ومكاسب/خسائر كلٍّ من إيران وكذلك إسرائيل ما بعد هذه العملية، وحدود التصعيد المُحتمَلة بين الطرفين، والتي شغلت الرأي العام خلال الأيام القليلة الماضية، فإنَّ الدلالة الأهمّ والعلامة الأبرز من جملة ما حملهُ الانخراط الإيراني المباشر في الردّ على إسرائيل عبر إطلاق مسيّراتها وصواريخها من أراضيها مباشرةً، مرورًا بأجواء بعض الدول العربية نحو إسرائيل، والتي جعلت من العراق وسوريا والأردن ممرًّا إلزاميًا في مسار تلك المسيَّرات والصواريخ، هي ما يكشفه ذلك التعمُّد الإيراني الصريح لاستعراض حدود القوَّة أمام الحلفاء والأعداء والمنافسين، ومدى قُدرة إيران على الوصول لأقصى درجة من سياسة حافَّة الهاوية في المنطقة، وذلك عبر استكمال استخدام المسارح العربية للدول الحليفة لها؛ كسوريا والعراق، كساحات للمواجهة الإيرانية-الإسرائيلية، ومحاولات ضمّ الأردن كدولة جديدة لهذا الصراع، وتهديد سيادة تلك الدول عبر اختراق فضائها الجوِّي، الذي هو جزءٌ من هذه السيادة، وتشكيل خطر على سلامة وأمن شعوب تلك الدول.

إنَّ استعراض إيران لقُدرتها على اختراق الأجواء العراقية والسورية، من أجل الانتقام من إسرائيل وتحقيق مصالحها واستعادة صورتها كقوَّة إقليمية أمامَ الرأي العام الداخلي والخارجي، فضلًا عن استخدام الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها للأجواء العربية في العراق وسوريا لإسقاط المسيَّرات والصواريخ الإيرانية على أراضي الأخيرتين قبل وصولها إلى الأراضي الإسرائيلية، كلّها دلائل تكشف عن حجم المخاطر التي تتعرَّض لها تلك الدول العربية. وستزداد الأمور خطورةً في ظل التهديدات الإسرائيلية بعزمها للردّ المقابل على الضربة الجوِّية الإيرانية، والتي كسرت كبرياء الدولة الإسرائيلية وصورتها الإقليمية، ووسطَ استعدادٍ لحكومة تل أبيب لتوسيع دائرة ضرباتها في الساحات المُستباحة في سوريا وغيرها؛ وبالتالي، ستجِد العديد من الدول العربية، خصوصًا العراق وسوريا، نفسها كأطراف مباشرة في هذا الصراع الإسرائيلي-الإيراني؛ ما يضع حكوماتها في موقف صعب أمام الشارع الداخلي، والذي يجِد أرضهُ اليوم أكثر انجرارًا نحوَ صراعات القُوى العالمية والإقليمية، وساحةً لتصفية الحسابات بين أطرافها المتنازعة.

ثالثًا: فرْض قواعد اشتباك جديدة في المنطقة العربية وتجاوز الأعراف الدولية

تُعَدُّ «قواعد الاشتباك»، أحد الأبعاد الأساسية للمواجهات العسكرية الجارية في المنطقة، منذ السابع من أكتوبر 2023م، فقد كانت عملية «طوفان الأقصى»، التي قامت بها حركة حماس مختلفة، سواءً من حيث طبيعتها الهجومية أو حجمها الكبير، الذي كشفهُ عدد المُحتجَزين الإسرائيليين. لذلك، يريد الجيش الإسرائيلي من خلال حربه المستمِرَّة منذ أكثر من ستة أشهر، منْع تكرار ما حصل في 7 أكتوبر. كما أنَّ مشاركة حزب الله والحوثيين والميليشيات العراقية في الحرب، تُعتبَر تحوُّلًا جديدًا في قواعد الاشتباك، حيث كانت تقتصر المواجهات السابقة على جبهة واحدة مباشرة (غزة أو لبنان)، بينما تدخَّلت هذه المرَّة جبهات أخرى غير مباشرة (اليمن والعراق)، فضلًا عن حزب الله اللبناني. ورُبَّما هذا ما يُفسِّر تغيير إسرائيل لقواعد اشتباكها مع إيران، بضرب مبنى تابع للسفارة الإيرانية في دمشق؛ ما دفع طهران إلى الردّ المباشر، بدل الاعتماد على وكلائها، كما كان يحصل سابقًا.

أظهرت ترتيبات الهجوم الإيراني على إسرائيل، بدايةً من الإبلاغ المُسبَق عنه مرورًا بنوعية الأسلحة المستعملة ووصولًا إلى نتائجه، أنَّ الهدف منه كان العودة إلى قواعد الاشتباك السابقة، التي تعارف عليها الطرفان لا أكثر، أو الانتقال إلى قواعد اشتباك جديدة. وهذا المسار متوقِّف على الردّ الإسرائيلي من عدمه. لكن في خِضَم هذه التفاعلات يجري على الهامش رسْم نوعٍ آخر من «قواعد الاشتباك» بالنسبة للدول العربية التي وجدت نفسها وسط التنافس الإيراني-الإسرائيلي، فقد كان المجال الجوِّي العراقي والسوري مفتوحًا للهجوم الإيراني، والأردن هي الدولة الوحيدة التي حمت مجالها الجوِّي، وتعاملت مع الأجسام الطائرة التي دخلتها.

تأسيسًا على ما سبق، يبدو أنَّ الطرف الإيراني يرغب في تعميم قواعد اشتباك جديدة، تسمح له بتوظيف المجال العربي برًّا وجوًّا وبحرًا في لعبة التنافس الجيوسياسي مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، في حين تبقى إيران بعيدةً عن أيّ مخاطر مباشرة. وفي المقابل، تعتبرُ أيّ دولة تقبل باستخدام مجالها الجوِّي في عملية عسكرية إسرائيلية ضدّ البرنامج النووي الإيراني أو غيره مشاركةً في الهجوم، بما يهدِّد بضربها. لكن أيضًا في مقابل ذلك كلِّه، تستنكر إيران احتكام تلك الدول العربية إلى قواعد القانون الدولي، التي استندت إليها طهران في الدفاع عن قنصليتها بدمشق.

رابعًا: تنامي المخاوف من قُدرة إيران على تحييد الموقف الأمريكي تجاه التطاول على الدول

أثبتت المواقف الأمريكية الأخيرة من الحرب في غزة، ومطالبتها لتل أبيب بالوقف الفوري لإطلاق النار بغزة، وتهديدها بأنَّ استمرار دعْم واشنطن للحرب على قطاع غزة يعتمد على الإجراءات الإسرائيلية لحماية المدنيين، بأنَّ إدارة بايدن تخشى من توسيع المواجهة العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، وأنَّها لا تريد التورُّط في حرب جديدة قد تصرف التركيز على الحرب الروسية-الأوكرانية، التي تشكل أولويةً إستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة. فضلًا عن قلق بايدن من تداعيات أيّ حرب جديدة في المنطقة، على الاقتصاد الأمريكي، وعلى الانتخابات الرئاسية المقرَّرة في نوفمبر المقبل، إذ يصُبّ الوضع الحالي فيما يتعلَّق بسياسة الولايات المتحدة تجاه الشأن الدولي، لصالح غريمهِ الجمهوري دونالد ترامب، الذي يسعى لتحقيق مكاسب نتيجةَ إخفاق نظيرهِ الديمقراطي في إدارة الحرب بين روسيا وأوكرانيا وبين إسرائيل وحركة حماس، وكذلك التصعيد الإيراني-الإسرائيلي.

وقد سبقت الهجمات الإيرانية على إسرائيل تصريحات إيرانية وضجَّة إعلامية كبيرة، أفقدتها عنصر المباغتة والسرِّية، الذي من شأنه مفاجئة الخصم، وشلّ قدرته على المواجهة والتقليل من حجم الأضرار. كما أنَّ هنالك عدَّة مؤشِّرات على وجود تنسيق مُسبَق وترتيبات بين طهران وواشنطن لتحديد سقف الهجوم الإيراني، وذلك انطلاقًا من المصلحة المشتركة لكلا البلدين. فالرئيس الأمريكي جو بايدن أكَّد قبل ساعات من الهجوم، بأن الردّ الإيراني سيكون عاجلًا وليس آجلًا. ونقلت شبكة «سي إن إن»، أنَّ الولايات المتحدة رصدت تجهيز إيران ما يصِل إلى 100 صاروخ كروز؛ لتنفيذ ضربة انتقامية ضدّ إسرائيل من داخل الأراضي الإيرانية. كما تحدَّثَ مسؤولون عسكريون أمريكيون قبل يوم واحد من الهجوم، عن أنَّ إيران سوف تستخدم أكثر من 100 طائرة مسيَّرة وعشرات الصواريخ، ضّد أهداف عسكرية داخل إسرائيل. كل ذلك يُشير بوضوح إلى وجود تنسيقٍ تام بين إيران والولايات المتحدة، ساهمَ في إبداء المسؤولين الأمريكيين رفضهُم الواضح للتصعيد ضدّ إيران، كما حثَّ بايدن إسرائيل على «التفكير بعناية»، وهي تدرس الردّ على الهجوم الإيراني، فيما أكَّد مسؤولون عسكريون أمريكيون أنَّ الولايات المتحدة أبلغت إسرائيل بأنَّها لن تشارك في أيّ هجوم مضادّ قد تتعرَّض له إيران. يُشير كل ذلك، إلى نجاح إيران لحدٍّ ما في تحييد الولايات المتحدة، أو إقناعها بضرورة اتّخاذ موقف رافض لأيّ توجُّه إسرائيلي للردّ على إيران.

هذا الموقف الأمريكي الذي يتماهى مع الأهداف الإيرانية، قد يكون الهدف منه الحيلولة دون توسيع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، أو تجنُّب الولايات المتحدة التورُّط في حرب جديدة، لكنَّه يتجاهل تمامًا الانتهاكات التي ارتكبتها كلٌّ من إيران وإسرائيل لسيادة عددٍ من الدول العربية، خاصَّةً سوريا والعراق والأردن. وقد يشكِّل ذلك دافعًا قويًا، ويكون بمثابة ضوءٍ أخضر لإيران وإسرائيل لمواصلة هذا النهج، ورُبَّما انتهاك سيادة عددٍ آخر من دول المنطقة في المستقبل. كما أنَّه من غير المُستبعَد أن تقوم إيران باتّخاذ خطواتٍ عسكرية مشابهة أو أكثر تأثيرًا، بدون ضوءٍ أخضر أمريكي أو بتنسيقٍ مُسبَق، لا سّيما في حال قامت إسرائيل بالردّ على الهجوم، أو قامت بمهاجمة إيران في وقتٍ لاحق؛ الأمر الذي سوف يؤدِّي إلى انتهاك سيادة الدول الواقعة بين البلدين بشكلٍ مباشر، من خلال اختراق المجال الجوِّي لهذه الدول، عبر إطلاق المسيَّرات والصواريخ، أو استهدافِ بعض المواقع فيها.

خلاصة:

كشفت التطوُّرات الناجمة عن التصعيد الإيراني-الإسرائيلي الأخير، عن مدى الضعف الذي وصلت إليه الدول التي تمدَّدت فيها الفواعل من غير الدول، إلى درجةٍ باتت فيها الحكومتان السورية والعراقية غير معنيتين بما يجري في جغرافيتهما. وفي ظل استمرار التوتُّر بين إسرائيل وإيران، مع احتمالات توسُّعه، سوف تكون دول المنطقة عُرضةً للمزيد من الانتهاكات لسيادتها، سواءً الجوِّية أو البحرية أو البرِّية، وما يترتب عنها من مخاطر أمنية؛ الأمر الذي يستوجب على الدول العربية اتّخاذ المزيد من التدابير الرادعة، التي تؤكِّد من خلالها حمايةَ أمنها وسيادتها، وعدمَ السماح بأيّ شكلٍ من الأشكال أن يفرض عليها أحد أطراف الصراع أو غيرهما قواعدَ اشتباك تخدمُ مصالحهُ على حساب أمن وسيادة الدول العربية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير