عملية «طوفان الأقصى».. الأسباب والتداعيات والسيناريوهات المتوقعة

https://rasanah-iiis.org/?p=32772

في هجوم غير مسبوق، شنت كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس صبيحة يوم السبت 7 اكتوبر 2023، عملية طوفان الاقصى ضد اسرائيل، وتضمنت العملية تسلل عدد كبير من مسلحي كتائب عز الدين القسام الى داخل مستوطنات غلاف غزة وقتل اعداد كبيرة من الجنود والمستوطنين وأسر العشرات من الإسرائيليين. 

بدأت عملية طوفان الأقصى بإطلاق آلاف الصواريخ تجاه المستوطنات والمدن الإسرائيلية كما تسلل مسلحو حماس من البحر والجو الى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

في مقابل هذا الهجوم أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حالة الحرب كما أطلق الجيش الإسرائيلي عملية السيوف الحديدية والتي اسفرت حتى الان عن سقوط أكثر من 1800 شهيد من الفلسطينيين وتشريد الآلاف فضلا عن تدمير أحياء كاملة في قطاع غزة.

تقدير الموقف التالي يرصد ملامح الحرب الحالية مقارنة بالحروب السابقة التي خاضتها حركة حماس ضد اسرائيل، فضلا عن الأسباب والسياقات التي نشبت فيها الحرب، ثم تداعيات حملة طوفان الأقصى وتأثيراتها، وأخيرا السيناريوهات المحتملة لسير هذه الحرب.

أولاً. ملامح وسمات الجولة الراهنة مقارنة بالجولات السابقة

يمكن تحديد ملامح الجولة الراهنة من المواجهات بين: المقاومة الفلسطينية ممثلة في كتائب عز الدين القسام الذراع المسلح لحركة حماس وبين الجيش الإسرائيلي، من خلال ثلاثة عناصر، على النحو التالي:

1. تغير قواعد اللعبة والاشتباك:

مقارنة بجولات المواجهات السابقة بين فصائل المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، من شأن عملية “طوفان الأقصى” التي أعلنتها كتائب عز الدين القسام، تغيير قواعد اللعبة والاشتباك بين الطرفين من حيث ميدان المواجهات بين الطرفين، ومن حيث الطرف المحدد لزمان ومكان المواجهات.

بالنسبة لميدان المواجهات، فقد تمكنت كتائب القسام، خلال الجولة الراهنة، من نقل المعركة إلى داخل نطاق الأراضي الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي بداية من اقتحام مقاتليها-برًا وجوًا-للسياج العازل بين قطاع غزة وما يسمى بـ”غلاف غزة” تجاه العمق الإسرائيلي، بينما أجريت كافة جولات المواجهات السابقة بين الطرفين داخل قطاع غزة.

يشكل “غلاف غزة” أهمية استراتيجية لتل أبيب لكونه عبارة عن منطقة عازلة بين القطاع وإسرائيل لتحييد التهديدات المحتملة من غزة، ولذلك، تقدم إسرائيل امتيازات هائلة لتشجيع المستوطنين على العيش في مستوطناته، كما يمثل خط الدفاع الأول لإسرائيل من جهة غزة، ولذلك يعد الحدث اختراق كبير لهذا الخط الدفاعي، حيث شوهد، ولأول مرة، مقاتلي كتائب القسام يتجولون بأسلحتهم داخل مستوطنات، وهو ما يضع إسرائيل أمام معضلة نزوح جماعي للمستوطنين من الغلاف، وصعوبة العودة مجددًا.

خريطة رقم (1): الموقع الجغرافي لغلاف قطاع غزة

المصدر: https://cutt.us/8FDBS

تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل أنشأت الغلاف عقب انسحابها من غزة عام 2005م، ويمتد طوله إلى نحو 40 كيلو مترا من السياج العازل حول غزة نحو خط حدود إسرائيل مع الغلاف، وعرض يتراوح من 5-15 كيلو متر، ويحتوي على قواعد إسرائيلية مثل قاعدة ريعيم العسكرية، ويضم نحو 50 مستوطنة يعيش فيها قرابة 55 ألف مستوطن، ومن أهم مستوطناته: سديروت وزيكيم وكيسوفيم وأشكول ونحال عوز وماغن وكفار عزة..الخ(انظر شكل رقم 1).

شكل رقم (1): غلاف غزة بالأرقام

أما بالنسبة للطرف المحدد لزمان المواجهات، فبينما كانت إسرائيل هي الطرف المحدد لزمان المواجهات ومكانها طيلة العقود الماضية، بدت الجولة الراهنة مغايرة، حيث حددت المقاومة، زمانها ومكانها، وأعلنت انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، التي شملت تسلل المقاتلين إلى مستوطنات الغلاف بالتزامن مع إطلاق آلاف الصواريخ على جنوب ووسط إسرائيل، على نحو أصاب إسرائيل بصدمة كبيرة وغير مسبوقة، لم تشهدها منذ حرب 1973م، وفي المقابل ردت إسرائيل بعملية “السيوف الحديدية”.

2. حجم النتائج والمكاسب:

مقارنة بما سبقها من جولات، حصلت إسرائيل على تضامن وتعاطف من بعض الدول على الصعيد الدولي، ووظفت ذلك، مع العدد الكبير من القتلى والرهائن في شن عملية أكثر عنفًا بحثًا عن استرداد ولو جزء من هيبتها التي اهتزت في الداخل والخارج.

في المقابل حققت الفصائل الفلسطينية مكاسب نوعية غير مسبوقة خلال الجولة الراهنة، حيث تمكن مقاتلي كتائب القسام ليس فقط من اختراق خط الدفاع الأول لإسرائيل، ونقل المعركة إلى العمق الإسرائيلي، بل في التشكيك في مبدأ إسرائيل قوة لا تقهر، إلى درجة أن وصف الكتاب الإسرائيليون عملية طوفان الأقصى بـ”بالصدمة والكابوس الكبير معًا الذي أرعب بلد بأكمله”، وبتكرار يوم الغفران عام 1973م-حرب تحرير سيناء المصرية في السابع من أكتوبر عام 1973م.

وكذلك، رددوا بأن عملية التسلل إلى داخل غلاف غزة يكشف عن فشل كبير لحكومة نتانياهو وجهاز الاستخبارات الإسرائيلي في عدم التوصل إلى معلومات قبل وقوع الهجوم، والفشل في حماية المستوطنين، ما يفرض ضرورة تشكيل حكومة طوارئ عاجلة، ومحاسبة نتانياهو بعد انتهاء الحرب.

أما عن الخسائر البشرية التي تكبدتها إسرائيل، من قتلى ورهائن ومعدات عسكرية، فهي قائمة كبيرة أثارت حالة رعب غير مسبوقة خاصة داخل اسرائيل، فقد بلغت منذ اليوم الأول حتى اليوم السابع من المواجهات حسب الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية، مقتل نحو 1400 شخص بينهم 258 جنديًّا برتب متفاوتة، أما عدد الجرحى من الإسرائيليين فقد وصل إلى أكثر من 4000 جريح، مع اختطاف مقاتلي المقاومة أكثر من 120 رهينة إسرائيلية. ورغم إعلان إسرائيل المتواصل عن حجم خسائرها، فقد تكون في أعداد القتلى مبالغة لأهداف سياسية أو لرفع الكلفة السياسية والأمنية على حركة حماس وجلب مزيد من الدعم والتعاطف الغربي مع إسرائيل.

  في المقابل، بلغ عدد القتلى الفلسطينيين حتى اليوم السابع من العملية أكثر من 1800 شهيد ونحو 6400 جريح، وهو عدد كبير للغاية مقارنة بنفس عدد الأيام خلال الجولات السابقة، ومع توقعات استمرارية العملية لفترة أطول من الجولات السابقة، وتوصيف ردة الفعل الإسرائيلية بالأعنف خلال الجولة الراهنة، مع عدم وجود أية إشارات إلى مسار دبلوماسي متقدم بين الطرفين يفضي في القريب العاجل إلى تسوية، فإنه يتوقع أن تصل الأرقام من القتلى والجرحى الفلسطينيين لعشرات الآلاف.

3. تقييم حجم الآثار:

تختلف آثار الجولة على أطرافها عن كافة الجولات السابقة، فحجم الآثار كبير للغاية خلال هذه الجولة، حيث هزت الجولة الراهنة هيبة الحكومة بل والدولة الإسرائيلية بشكل كبير أمام الداخل والخارج، وكشفت عن سلسلة إخفاقات إسرائيلية في رؤاها واستراتيجياتها الأمنية وفي تقديراتها لأوراق قوة الخصم مقارنة بسابقتها من جولات، كما تضع إسرائيل أمام مرحلة جديدة للصراع العربي-الإسرائيلي، وتيقن الشعوب أن حالة التهويل التي رسمت حول إسرائيل مجرد خدعة كبيرة، ما يجعلها تعيد التفكير وحساباتها من جديد تجاه قضايا الحل النهائي: الدولة الفلسطينية، المستوطنات، اللاجئين، القدس، فضلاً عن مفاقمتها حجم التحديات في الداخل، والتأثير على فرص إسرائيل نحو التطبيع في الخارج.

وعلى ما يبدو أن حجم العملية التي نفذتها حماس، يجعل من رد الفعل الإسرائيلي انتقامي بشكل غير مسبوق تتجلى في عدد القتلى اليومي للفلسطينيين في قطاع غزة وفي المقار المدنية ودور العبادة والمدارس والمستشفيات وآلاف الأهداف التابعة لحماس، ويطيل أمدها بشكل غير مسبوق مقارنة بفترات الجولات السابقة من المواجهات، ما لم تتدخل أطراف إقليمية ودولية تكون قادرة على ممارسة الضغط على إسرائيل لوقف الحرب.

إجمالاً، تعد هذه العملية نوعية في توقيتها وفي حجمها، وفي قواعدها ونتائجها وآثارها، فهذه أول مرة منذ نشأة إسرائيل قبل أكثر من 75 عامًا، يتسلل فيها مقاتلون فلسطينيون إلى داخل مناطق 1948م.

ثانياً: الأسباب والسياقات

لا تختلف أسباب عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة حماس ضد الاحتلال الإسرائيلي عن غيرها من العمليات السابقة التي تكون عادة كرد فعل عن الانتهاكات المتواصلة للاسرائيليين ضد الفلسطينين ومقدساتهم، فقد أعلن محمد الضيف القائد العام لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، بدء عملية “طوفان الأقصى”، “رداً على عربدة الاحتلال في المسجد الأقصى، وسحل النساء في باحاته”. وأيضا رفض الاحتلال الإسرائيلي عقد صفقة تبادل أسرى انسانية، وهي لا ترتبط بحدث معين بذاته، كون حجم العملية وتعقدياتها يتطلب استعدادات كبيرة تستغرق فترة زمنية طويلة نسبيا، ولكن توقيت العملية يأتي في سياق فلسطيني واسرائيلي واقليمي تتمثل أهم سماته فيما يلي:

  • الهدوء النسبي لجبهة تنظيمات المقاومة في قطاع غزة خاصة حركة حماس التي أبدت قدرا من الانضباط في تعاملها مع عمليات إطلاق الصواريخ من قطاع غزة باتجاه اسرائيل، كان أبرزها عدم المشاركة في المواجهة الأخيرة بين حركة الجهاد الإسلامي وإسرائيل عندما شنت الأخيرة في اطار عملية “السهم الواقي” هجمات استهدفت قيادات عسكرية من سرايا القدس الجناح العسكري للحركة. وقد نقلت وسائل إعلام عن مسؤول من حركة حماس أن ذلك كان مقصودا في إطار خطة خداع استراتيجي مارستها حماس لتباغث بهجومها الجيش الإسرائيلي الذي كان يستبعد عملية في هذا التوقيت، وتصور أن حركة حماس بات أقرب للإدارة السياسية منها إلى الفعل المقاوم.
  • استمرار تردي الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة نتيجة الحصار المستمر منذ قرابة العقدين، والذي فاقم المشكلات المعيشية لسكان القطاع. 
  • استمرار تقويض دور السلطة الفلسطينية وتهميشها من طرف الحكومة الإسرائيلية وهو ما جعل تأثيرها محدودا جدا في المشهد السياسي والأمني الفلسطيني، واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات الإسلامية، وتمكين المستوطنين المتطرفين من انتهاكها، وهو ما شكل عامل استفزاز كبير لقوى المقاومة التي كانت بحاجة لاستعادة الفلسطينيين الثقة فيها، وفي قدرتها على الرد على الانتهكات الإسرائيلية.
  • استمرار اقتحام الجيش الإسرائيلي للمدن والقرى والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية، وشن حملة اعتقالات وهدم للبيوت ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، وقيامه بممارسات استفزازية لها رمزية كبيرة جدا على غرار ما كشفت عنه صحيفة هاآرتس الإسرائيلية من اقدام مجندتين اسرائيليتين على ارغام خمس سيدات فلسطينيات في الخليل على نزع ثيابهن وهو ما كان محل ادانة شديدة وتهديد من فصائل المقاومة أنه لن يمر دون رد.
  • تصاعد وتيرة مبادرات التهدئة في المنطقة التي أعقبت الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين، حيث برزت إلى الواجهة في الفترة الأخيرة مبادرة جديدة لاحياء عملية السلام من خلال النافذة السعودية؛ والتي تحدثت عن وجود مفاوضات عبر الولايات المتحدة الأمريكية لاقامة علاقات بين المملكة وإسرائيل، وقد أبدت الخارجية السعودية انفتاحها على الموضوع بشروط يأتي في مقدمتها منح الفلسطينيين حقوقهم.
  • توقيت عملية “طوفان الأقصى” يتزامن مع ذكرى حرب أكتوبر 1973 بدلالتها التاريخية المتنوعة، والتي تذكر بالانتصار العربي على الاحتلال الإسرائيلي، خاصة مع وجود نقاط مشتركة عديدة بينهما، أبرزها المبادرة العربية في الهجوم، والمباغتة
  • ▪       وممارسة الخداع الاستراتيجي ما شكل صدمة للإسرائيليين في الحالتين، وحجم الخسائر البشرية الكبيرة في الجانب الإسرائيلي.

ثالثًا: تداعيات حملة طوفان الأقصى وتأثيراتها

لن تمر عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس ومعها فصائل المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل دون عواقب على القضية الفلسطينية، وعلى الشرق الأوسط ككل، وربما العالم، لقد اعادت الحرب القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وكشفت عن تآكل حاد في قوة الردع الإسرائيلية، وربما إخفاق في الحسابات التي ظنت أنه يمكن حشر شعب بكامله في الزاوية إلى الأبد، ويمكن التطرق إلى بعض التأثيرات والتداعيات المتوقعة للحرب التي شنها الفلسطينيون على إسرائيل على النحو الآتي:

1. تآكل الردع الإسرائيلي وتغيير المشهد السياسي الداخلي:

لقد نجحت العملية التي قامت بها الفصائل الفلسطينية بقيادة حركة حماس في إلحاق هزيمة كبري بالجيش الإسرائيلي، فقد أكدت العملية على فشل استخباراتي وفشل عسكري كبير، حيث لم تتوقع أجهزة الأمن الإسرائيلي التي تدعي تفوقها الفائق في التنبؤ بالهجوم الذي غير قواعد الاشتباك بين إسرائيل وفصائل المقاومة، وتحول الفصائل من حرب الرشقات الصاروخية المحسوبة، إلى الهجوم الميداني برا وبحرا وجوا، لقد كشفت العملية أيضا عن أن قوة الردع الإسرائيلي باتت محل شك، فهناك انكشاف واسع للقوة، واحتاجت إسرائيل إلى قوة الردع الأمريكية لكي تستعيد توازنها النفسي، ولكي تعيد استجماع قوتها، وربما ستبقى هذه العملية بعد حرب أكتوبر 1973 من الهزائم الكبرى لإسرائيل، لهذا فإن إسرائيل سيكون همها خلال المعركة الحالية هو استعادة زمام المبادرة، ورفع تكلفة الصراع على حماس واستغلال رخصة القتل التي تمنحها إياها الولايات المتحدة تحت مقولة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها لعملية عسكرية لا تراعي أي اعتبارات إنسانية ضد قطاع غزة في محاولة لإحراج الفصائل بما في ذلك قطع الغذاء والوقود كما أعلن الجيش الإسرائيلي، لكن ربما لن يمحو أثر هذه الهزيمة أي تصعيد واستخدام مفرط للقوة تجاه القطاع وبقية الأراضي الفلسطينية.

ولربما تكون العملية قد وضعت حدا للدور السياسي لنتنياهو الذي يواجه صعوبات في قيادة حكومته الحالية منذ تشكيلها، فسياساته التي تأثرت بتشكيل أكثر حكومة تطرفا في تاريخ إسرائيل، والادعاء بأنها الحكومة القادرة على توفير الأمن للإسرائيليين وقمع الفصائل الفلسطينية، وتبنى هذه الحكومة لنهج شديد التطرف، ثبت أنه كان مسار خطر وفاشل، لهذا دعا نتنياهو جميع أطياف المعارضة الإسرائيلية إلى الانخراط في حكومة وحدة، لكن هذا لن يغني في تغيير الواقع، وربما يحدث كما حدث بعد حرب أكتوبر من محاسبة مع جولد مائير ووزير الدفاع موشيه ديان وكثير من القادة، وبالنظر إلى فداحة خسائر المعركة النفسية قبل السياسية والعسكرية، فإن مستقبل نتنياهو سيكون على المحك، وسيتحمل نتائج هذه الهزيمة، لكن بعدما ينتهى من غسيل سمعته بالعملية التي يقودها ضد غزه، لكن أيا ما كانت التداعيات التي ستحملها حربه على غزة، فإنه لن يفلت من المحاسبة وغالبا الإقصاء ومعه الكثير من القيادات السياسية والأمنية والعسكرية والاستخباراتية، وهذا قد يتيح المجال إلى عودة للتيارات الأكثر اعتدالا في إسرائيل.

2. استعادة القضية الفلسطينية زخمها وتعزيز موقع حماس وتحريك ملف الأسرى:

لقد أعادت العملية قضية فلسطين إلى واجهة الأحداث، وذلك بعد سنوات من الجمود والإهمال، وحصرها في القضايا الأمنية، فردود الفعل الدولية والإقليمية تشير إلى أن القضية ستكون في قلب الصراع الجيوسياسي الذي تشهده المنطقة، وربما تأخذ القضية زخما أكبر في ظل التنافس الدولي القائم، ففي مجلس الأمن حاولت الولايات المتحدة تشكيل رأي عام يدين حركة حماس ويتضامن مع إسرائيل، لكن الصين وروسيا كان موقفهما متوازنا ومساويا بين الجانبين.

بقدر ما تواجهه حماس من تحدي في ظل رغبة إسرائيل في تغيير الوضع في غزه للأبد، غير أن العملية لا شك كان لها مردود مهم بالنسبة لحماس سواء على الساحة الفلسطينية أو على المستوى العربي والإسلامي، خاصة أن العملية تأتي في توقيت يتحول الرأي العام الفلسطيني نحو معسكر المقاومة المسلحة، وهو ما ظهر خلال الفترة الأخيرة من مواجهات في الضفة الغربية، وفي القدس، وبينما تبدو السلطة الفلسطينية معزولة، وتعاني من أزمة مصداقية في ظل التعنت الإسرائيلي وفشل مسار السلام بالكلية، فإن صعود حماس على المدى المنظور ربما يكون السيناريو الأقرب للحدوث.

وبينما كان من الواضح تركيز الفصائل الفلسطينية على حصد أكبر عدد من الأسري في صفوف الجنود والمدنيين الإسرائيليين، ونقلهم إلى القطاع، وقد نجحت الفصائل في أسر العشرات بالفعل، فإن هذا الملف سيكون ورقة مهمة للضغط على إسرائيل من أجل تخفيف هجماتها على قطاع غزه، وسوف يكون ورقة مهمة في المفاوضات التي قد تعقب وقف القتال، فعلى الرغم من ان إسرائيل رفضت أن تستجيب لضغوط هذه الورقة خلال الفترة الأخيرة، لكن مع هذا العدد الكبير من الأسرى والضغوط من ذويهم قد تضطر إسرائيل إلى الدخول في صفقة جديدة لتبادل الأسرى، وربما تكون الصفقة كبيرة لتطال آلاف المعتقلين في إسرائيل.

3. صعود البعد العقائدي وجاذبية الخطاب الديني وتأثيراته:

ظهر البعد العقائدي للعملية العسكرية منذ بداتيها حيث بدأت حملة أو معركة “طوفان الأقصى” بسبب التعديات المستمرة على المسجد الأقصى، واقتحامه، ففي السابع والعشرين من يوليو 2023م اقتحم وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير باحات المسجد الأقصى وسط حماية أمنية إسرائيلية، قائلا: “هذا المكان هو الأهم لشعب إسرائيل وإليه يجب أن نعود ونظهر سيادتنا عليه“. واعتبر المتحدث باسم حماس حينئذ أن هذه الخطوة “تصعيد خطير للحرب الدينية“، وفي أول هذا الشهر أكتوبر 2023م، اقتحم مئات المستوطنين باحات المسجد الأقصى، وسط حماية من قوات الأمن، وكررت حماس تأكيدها أن هذه الخطوات بمثابة تصعيد للحرب الدينية.

وأثناء العملية برز الخطاب العقائدي لدى قادة حماس، فخطاب محمد الضيف الذي مهد به للعملية وبعد أن أرجع سببها إلى تنكر إسرائيل للمواثيق الدولية، وما سماه “جرائم الاحتلال”، “عربدة إسرائيل”، وفتح ملفات الأسرى والمعتقلين واللاجئين والاقتحامات المستمرة للقرى والبلدات الفلسطينية، قال: “مجاهدونا الأبرار..، اقتلوهم حيث ثقفتوهم..، لا تقتلوا الشيوخ والأطفال، قاتلوا والملائكة سيقاتلون معكم.”

وقد جذب هذا الخطاب الديني المتعاطفين ويظهر تأثير الإلهام في حادث الإسكندرية، إذ يبدو أن تلك العملية ألهمت بعض المتحمسين، فقام شرطيٌّ مصري بإطلاق النار على فوج سياحي إسرائيلي في الإسكندرية شمال مصر، مما أسفر عن مقتل سائحَيْن اثنين، وإصابة آخرين. وقد أشار محمد الضيف في كلمته إلى: “يا إخواننا في المقاومة الإسلامية في لبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا، هذا هو الوقت الذي تلتحم فيه مقاومتكم مع أهلكم في فلسطين..” ثم أعلنت عدة فصائل وميليشيات شيعية عراقية دعمها ومباركتها للعملية، ويشير هذا إلى عقائديين جدد قد يدعمون حركة حماس.

4. اتجاه إيران لتبني مزيد من سياسات المقاومة:

ربما تقود العملية العسكرية التي تقوم بها إسرائيل ضد قطاع غزة، إلى تدخل من جانب فصائل أخري في لبنان، أو تدخل من حزب الله اللبناني، وفصائل أخرى في المنطقة كالفصائل المحسوبة على إيران في العراق وسوريا واليمن، فعلى الرغم من أن هذا يحمل مخاطر كبيرة على لبنان تحديدا وهذه الدول، وعلى الرغم من أن تهديدات هذه المليشيات تستخدم ورقة التدخل من أجل الضغط على الجانب الإسرائيلي لوقف عمليته، لكن توسيع العملية قد يدفع بهذه الأطراف إلى التدخل في الصراع، وذلك لتخفيف الضغط عن الفصائل الفلسطينية في الداخل والدفع باتجاه التهدئة، وتحسين شروط تفاوض حماس مع إسرائيل، وربما تدفع إيران بهذا الاتجاه، وذلك لإثبات مصداقيتها وتعزيز حضورها في العالم العربي والإسلامي، فضلا عن هدفها الرئيسي في وقف قطار التطبيع مع دول الخليج، والذي تنظر إليه على أنه تهديد لأمنها ومصالحها، لا سيما التطبيع مع السعودية، ويضاف إلى ذلك، تثير المعركة الشكوك حول مشروع ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا، والذي تعد إسرائيل شريك أصيل فيه، فالعملية العسكرية أظهرت تحدي أمني لنجاح هذا المشروع، وذلك بخلاف طرق أخرى أكثر أمنا ومنها الطريق التقليدي للتجارة بين آسيا أوروبا عبر قناة السويس.

5. مزيد من واقعية السعودية:

بينما يلاحظ أن السعودية تتبنى نهجا واقعيا في سياساتها الخارجية، وفي ظل وجود وجهة نظر لدى بعض النخب العربية بأن المقترحات القديمة لحل القضية الفلسطينية باتت لا تواكب الواقع، فمن المتوقع أن يتم طرح مبادرات جديدة للتسوية، أو تطوير المبادرة العربية، بحيث تتماشى مع التطورات والتحولات وتضمن للفلسطينيين جزء من الحقوق، قد تلعب السعودية دورا في هذا الإطار بوصف دورها الراهن على الصعيد العربي والإقليمي.

من جهة ثانية أثبتت المعركة صحة وجهة نظر السعودية في الإصرار على عقد اتفاق دفاعي مع الولايات المتحدة بصورة ثنائية، بدلا عن مشاركة غير مباشرة في هياكل أمنية إقليمية ترى المملكة انها لا يمكن أن تكون بديلا مناسبا، وذلك حتى لا تكون تحالفاتها الاستراتيجية عرضة لأى تداعيات للصراع في الأراضي المحتلة ولسياسة التعنت الإسرائيلي، كما ان السعودية قد تتحسب إلى مكانتها التي قد تتأثر بشدة في العالمين العربي والإسلامي في حالة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، والذي ستستغله إيران لتقويض دور المملكة، لا سيما إذا كانت الحدود التي وضعتها إسرائيل في صفقة التطبيع والتي تخص القضية الفلسطينية محدودة وتتخطى الخطوط الحمراء الفلسطينية، وذلك بحسبان المكانة الدينية للسعودية وللرباط المقدس لدي عموم المسلمين بين الحرمين والمسجد الأقصى وعدم إمكانية الفصل بينهما، وهو رباط يمتد إلى القضية برمتها بحسبان قضية فلسطين قضية عامة وليست مقتصرة على فلسطين والفلسطينيين.

رابعا: السيناريوهات المحتملة

في ظل استمرار التصعيد العسكري بين حركة حماس واسرائيل وإعلان رئيس وزراء الأخيرة بأن اسرائيل في حالة حرب والدعم الغربي الكبير الذي تلقاه من الدول الغربية، تبرز مجموعة من السيناريوهات التي قد يتحقق أحداها في مستقبل هذه الأحداث الجارية:

السيناريو الأول: ذهاب اسرائيل في اتجاه اجتياح كامل قطاع غزة واحتلالها، وقد تكون إسرائيل قد رصدت العملية وتركت حماس تقوم بتنفيذها لتجد المبرر لاجتياح غزة والسيطرة عليها كأحد كروت الحل المستقبلي لأي حل للقضية الفلسطينية. هنا يمكن القول بأن حدوث هذا السيناريو يعني تحول العمليات العسكرية إلى حرب طويلة، لكن تحقق هذا السيناريو يبقى محفوفا بالمخاطر لأن تكلفة خطوة من هذا القبيل ستكون كبيرة جدا في مقابل احتمالات نجاح ضعيفة جدا بحكم التجارب التاريخية السابقة، كما أن حركة حماس تمتلك أوراق ضغط كبيرة على اسرائيل لمنعها من التوجه لهذا السيناريو أهمها وجود عدد كبير من الأسرى الإسرائيليين الذين قد يتعرضوا للقتل اذا ما خاطرت اسرائيل باجتياح القطاع وهو ما سيعرضه لضغوط شديدة من قبل أهالي الأسرى والمجتمع الإسرائيلي.

السيناريو الثاني: اتساع رقعة الحرب بدخول إيران وحزب الله والجماعات الموالية لإيران في سوريا والعراق. لكن تحقق هذا السيناريو يعني أنه سيجر المنطقة الى حرب واسعة ولا يبدو أن لأحد الأطراف الاقليمية مصلحة بالدخول في حرب مع إسرائيل خلال الفترة الراهنة ولا حتى إيران قادرة على الدخول في حرب مباشرة مع اسرائيل نظرا لاعتبارات كثيرة منها الدعم الغربي القوي لإسرائيل في حربها مع حماس. أما اسرائيل فلا يبدو أنها حريصة على فتح عدة جبهات للقتال لأن ذلك سيكلفها الكثير من الخسائر البشرية والمادية. كما أن حزب الله وغيره من الجماعات المسلحة المحسوبة على إيران يعلن بعد انخراطه في الحرب، وكان من الواضح تأكيد حزب الله على أن الضربات التي وجهها لقواعد عسكرية اسرائيلية كان كرد فعل على مقتل بعض من عناصره نتيجة للقصف الإسرائيلي. يضاف إلى ذلك أن الحزب أستهدف مئات المرات في سوريا من طرف اسرائيل خلال السنوات الماضية ولم يقم بأي رد فعل دفاعي عبر تحريك الجبهة اللبنانية.

السيناريو الثالث: قيام الجيش الإسرائيلي بإعادة ترتيب صفوفه والقيام بهجوم مضاد على قطاع غزة واحتلال بعض المناطق منه مع محاولة اسرائيل الوصول الى الاهداف التي رصدتها والتي ترى أنها أهدافا عسكرية لحركة حماس وذلك بهدف شل قدرة حماس وتدمير إمكاناتها العسكرية وإخلاء غلاف غزة من مقاتلي حماس بالكامل، قبل القبول بأي وساطة لوقف الحرب وتبادل الأسرى. مع القيام بشكل متقطع بتنفيذ هجمات تستهدف بها قيادات حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية التي سيكون من الصعب عليها القيام بهجمات كبيرة مثل عملية طوفان الأقصى لافتقادها لعنصر المباغتة، وستكتفي بالرد بهجمات صاروخية مضادة؛ بمعنى العودة للوضع القائم قبل العملية الفلسطينية الأخيرة.

السيناريو الرابع: هو سيناريو التهدئة، أي أن ينجح الوسطاء الاقليميين والدوليين في احتواء التصعيد عبر اقناع الطرفين بوقف التصعيد والدخول في تفاوض بغرض تبادل الاسرى، وقد أعلنت حركت حماس أنها حققت أهدافها من العملية واستعدادها للحرب الطويلة مع الاشارة إلى انفتاحها على مقترحات التهدئة واشتراط بدء عملية التفاوض على تبادل الأسرى على توقف الهجوم الإسرائيلي، لكن على الضفة المقابلة يبقى هذا السيناريو من الممكن ألا يتحقق هذا السيناريو في الوقت الراهن نظرا لحجم الخسائر البشرية والمعنوية التي منيت بها اسرائيل جراء عملية طوفان الاقصى واهتزاز صورة جيشها واستخباراته لدى الرأي العام الإسرائيلي، ويمكن أن تقبل به بعد أسابيع عندما تشعر أنها حققت بعض الإنجازات التي تحفظ لها ماء الوجه داخليًا.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير