سياسات باكستان المستقطبة بحاجة إلى علاج

https://rasanah-iiis.org/?p=30771

بواسطةد. علي عسيري

لطالما تخيَّل محمد علي جناح، مؤسِّس باكستان، أن تنعم بلاده بالديمقراطية والتقدمية، إلا أنّ التاريخ المتقلب الذي عاصرته البلاد عرقل تحقيق هذه الرؤية. وبعيدًا عن الخيارات التي اتُّخِذَت في الجغرافيا السياسية العالمية أو العلاقات مع الهند، فإنّ الصراع الداخلي كان سِمةً سائدةً في حياة باكستان السياسية، وهو الصراع الذي يمزق الأمة إربًا الآن.

وقد قضيتُ مؤخرًا أسبوعًا في إسلام أباد لأتناقش عن الاتجاهات الناشئة في الشرق الأوسط في أحد مراكز الأبحاث، وحول العلاقات الدائمة بين السعودية وباكستان في مركز آخر. هذا وأتاحت لي الزيارة أيضًا فرصة إجراء محادثات معمقة مع زملاء وأصدقاء قدامى حول الأحداث الجارية في باكستان.

وقد أُصِبْتُ بخيبة أمل كبيرة حين علمتُ بحجم الاستقطاب السياسي في البلاد على الرغم من انتشار أزمة اقتصادية غير مسبوقة، والواقع أنّ هذه التحديات المزدوجة تضرب بجذورها في العمق الباكستاني، ولكن على حدّ علمي قد كانت باكستان تسير على نهج ثابت نحو التحول الديمقراطي منذ بضعة أعوام، كما صُنِّفَت عالميًّا بأنها أحد الاقتصادات الناشئة في العالم، فما الذي حدث إذًا؟

لقد خدمتُ سفيرًا للسعودية في باكستان في الفترة من 2001م إلى 2009م، أي في الفترة التي كانت فيها الحرب على الإرهاب في أفغانستان في أوجها، وكنت آنذاك قد تفاعلتُ -بناءً على تعليمات وإرشادات قيادتي- بشكل وثيق مع القيادة الباكستانية بشأن جميع المسائل ذات الاهتمام المشترك، وكانت أُولى أولويات المملكة العربية السعودية تتلخص في ضمان السلام والاستقرار في باكستان. ومن خلال وضع هذه الغاية نُصب أعيننا تمكّنّا من تعميق التعاون الأمني والاقتصادي، وحاولنا أيضًا [في السابق] وبحُسن نيةٍ التوفيق بين الخلافات القائمة ضمن النخب في الحكومة.

ولطالما سعت المملكة العربية السعودية من منطلق كونها معقلًا للإسلام إلى تحقيق الوحدة بين البلدان الإسلامية وبين أفراد الأمة الإسلامية، فعلاقتنا مع باكستان تحفزها في الأساس العلاقات الإنسانية، وبالتالي فهي محصنة ضد أي تحديات تواجه الحكومة أو القيادة. هذا وتعززت الرابطة العسكرية بين قيادتنا على مَرّ السنين، وما زالت تسعى المملكة العربية السعودية إلى إقامة علاقات وثيقة مع جميع الأحزاب السياسية [الباكستانية] وقادتها، لضمان أن تبقى باكستان مستقرة سياسيًّا ومزدهرة اقتصاديًّا.

ولا يمكن لأي دولة أن تحرز أيّ تقدُّم اقتصاديّ ما لم يكن نظامها السياسي مستقرًّا، فالاستقرار السياسي يضمن استمرار السياسات الاقتصادية، وهذا بدوره يعزز ثقة المستثمرين وحيويتهم في كل القطاعات الاقتصادية. وعلى النقيض من ذلك فإنّ التقلب السياسي يقوّض احتمالات النمو الاقتصادي، وإذا انعكس التدهور الاقتصادي على الشعب فإنّ أيّ سياسة باسم الديمقراطية تكون فاقدة لمعناها.

وتنقسم المشكلة في باكستان حاليًّا إلى شِقَّين: فمن ناحية، أدّت الاحتجاجات الباكستانية الأخيرة إلى استقطاب السياسة والمجتمع، ومن ناحية أخرى فإنّ أيّ اقتصاد يعتمد على عمليات الإنقاذ الأجنبية سيحتاج إلى إصلاحات بنيوية يصعب تنفيذها في أعقاب الاستقطاب السياسي.

ولا يمكن أن تكون النتيجة النهائية في هذا الصدد إلا كارثية مع تعزيز الصراع السياسي والأزمة الاقتصادية بعضهما لبعض. ولتفادي هذا الاحتمال لا بد من أن تجدد روح المصالحة وضبط النفْس من جانب كل الأطراف السياسية ومؤسسات الدولة.

ولا يساورني أدنى شك في قدرة الأمة الباكستانية على الخروج بنجاح من الأزمة الحالية، فقد تمكّنت من فعل ذلك عدة مرات من قبل، ومثال ذلك بعد أن قُطِعَت أوصال باكستان الشرقية في عام 1971م، وفي أثناء الحروب المتعاقبة في أفغانستان، وفي أعقاب الكوارث الطبيعية مثل الزلزال المدمِّر الذي ضرب البلاد في عام 2005م، وفي أعقاب الفيضان الكارثي العام الماضي.

وأقترح -بصفتي صديقًا لباكستان أحمل معي منها عديدًا من الذكريات الجميلة من سنوات خدمتي الدبلوماسية هناك، وبصفتي الحالية باحثًا مستقلًّا- مسارَين قابلَين للتطبيق يمكن للقادة الباكستانيين العمل بهما.

أولًا وقبل كل شيء، هناك حاجة مُلِحّة إلى الوصول إلى درجة من الإجماع بشأن القضايا الرئيسية في جدول الأعمال الوطني المتعلق بالاقتصاد والأمن القومي والسياسة الخارجية، ولا بد من الوصول إلى هذا الإجماع بعد تسوية الخلافات في الرأي بين أصحاب المصلحة الرئيسيين.

أمّا في ما يتصل بالاقتصاد فلا بد من أن تُعيد باكستان إحياء اتفاق «صندوق النقد الدولي»، وبطبيعة الحال سيتطلب ذلك الوفاء ببعض الشروط، وقد يوافق «صندوق النقد الدولي» [على إعادة إحياء الاتفاق] بعد بعض المساومة التي قد تخسر الحكومة على إثرها بعض رأسمالها السياسي، ولكن مسألة إنعاش الاقتصاد وسط الأزمة الحالية تُعَدّ خيارًا ضروريًّا لا بد من الالتفات إليه. ويتبع ذلك الدعم الذي تقدمه الدول الصديقة مثل المملكة العربية السعودية، ولكن على المدى البعيد لا بد من أن توجِّه الاستثمارات والإنتاجية والابتكار أجندة الحكومة الإنمائية.

وفي ما يتعلق بالأمن الوطني، فقد حدث في الماضي وفي حادثة نادرة في عام 2014م أن اجتمعت الأحزاب السياسية لوضع «خطة العمل الوطنية» لمكافحة الإرهاب، وفي غضون تلك الفترة شنَّت باكستان حملة نموذجية ضد الإرهاب، والآن بات «بُعبُع» الإرهاب يلوح هذا في الأفق الأفغاني مجددًا، وعليه لا مانع يمنع كل الزعماء المعنيين من الاتفاق مرة أخرى في سياق مماثل للتعامل مع هذا الخطر المحدق.

وأمّا في ما يتصل بالسياسة الخارجية، فلا بد من تحصين مجالاتها الرئيسية من تأثير القوى المحلية، ومن بين جملة العلاقات هذه نذكر على سبيل المثال الولايات المتحدة التي ارتبطت معها باكستان بشكل دوري بشراكة إستراتيجية، والصين التي يكمل برنامجها الرائد المتمثل في «مبادرة الحزام والطريق» و«الممرّ الاقتصادي الصيني-الباكستاني» عقدًا هذا العام، والمملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج التي ترتبط معها باكستان بتاريخ حافل وروابط أخوية.

أمّا المسار الثاني المقترح فهو متعلق بالقواعد الأساسية للعبة التي يتعيَّن على جميع أصحاب المصلحة السياسيين الاتفاق عليها والتزامها، ويُعَدّ قرار ابتعاد القيادة العسكرية أخيرًا عن السياسة أمرًا جيدًا، ولكن بات أمام الساسة الآن مسؤولية ضخمة تتلخص في العمل بنضج واحترام بعضهم بعضًا والعمل من أجل المصلحة العامة، وبالمثل يتعين على الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية التابعة للحكومة أن تعمل في إطار مجالاتها الدستورية من خلال نظام فعال للتدقيق وإحقاق التوازن.

ويتعين على الأحزاب السياسية أن تجتمع وتضع معًا مدوَّنة لقواعد السلوك لتنظيم المنافسة السياسية، وحل الصراعات السياسية من خلال التسوية بروح المصالحة الوطنية الحقيقية، فباكستان لا تتسم بالتنوع العرقي فحسب، بل إنها تضمّ فوارقَ إقليميةً، وينبغي لهذا التنوع أن يكون مصدرًا للوحدة، إذ لا يمكن معالجة أوجُه الاختلاف إلا من خلال التوزيع العادل للموارد وتقاسم السلطة.

ويتعين علينا أن نفهم أن القضايا الحقيقية التي يواجهها الناس في الدول النامية مثل باكستان تدور دومًا حول رغيف الخبز وما إلى ذلك، وعليه يتعيَّن على كل الأحزاب السياسية وقادتها أن تتنافس وأن تتعاون من أجل معالجة هذه القضايا بدلًا من الانخراط في حلقة مفرغة من الصراع السياسي على حساب الآخر، ولا بد لهم بدلًا من ذلك أن يتحلَّوا من أجل المصلحة الوطنية بالشجاعة اللازمة للغفران والنسيان ودفع البلاد قُدُمًا.

ومعلوم أن هناك أسبابًا وجيهةً تجعل باكستان تعاني من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي اليوم، في حين تعمل دول أخرى في جنوب آسيا مثل الهند وبنغلاديش على إضفاء بصمتها السياسية والاقتصادية على مستوى العالم، ولكن باكستان اليوم في أمسّ الحاجة إلى العلاج، وبوسعها في هذا السياق أن تعتمد على المملكة العربية السعودية التي ترغب في الاستثمار في مستقبل باكستان، ولكن الدافع الحقيقي للانتعاش الاقتصادي والاستقرار السياسي لا بد من أن يأتي من الداخل، وكلما بكَّرَت باكستان في ذلك كان أفضل.

المصدر:عرب نيوز


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د. علي عسيري
د. علي عسيري
نائب رئيس مجلس أمناء معهد رصانة