الانتفاضة ضد الأيديولوجيا في إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=18659

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

عادت موجة الاحتجاجاتِ الشعبيَّة إلى منطقة الشرق الأوسط مُجدَّدًا ولكن هذه المرة من بوابةٍ مختلفةٍ عن سابقتها، حيث تعصفُ بمناطقِ النفوذِ الإيراني في المنطقة وإيران ذاتها. وإن كانت الاحتجاجات الإيرانية في عام 2009م أو ما يُسمى ب«الحركةِ الخضراء» إبان فوز الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد بدورةٍ رئاسيةٍ ثانيةٍ، قد سبقت مرحلة ما يُسمى بـ«الربيع العربي» بعامين؛ إلَّا أنَّ القوى الغربية وبخاصةٍ الإدارة الأمريكية الجديدة آنذاك «إدارة باراك أوباما» قد تجاهلت سياسيًّا وإعلاميًّا تلك الاحتجاجات ونتائجها الدموية تمامًا، فقد قدَّمت الدعم الكامل للثوراتِ العربية بعد أقل من عامين. واليوم تقف كثيرٌ من القوى الكبرى أيضًا مما يدور في الداخل الإيراني في موقفٍ ضبابيٍّ وغير متزنٍ.
تُعدُّ الاحتجاجات الراهنة في إيران استمرارًا للتذمُّرِ الشعبيِّ بين الأوساط المجتمعية الإيرانية بكافةِ شرائحها. ويُعتبر قرار الحكومة فجر الجمعة قبل الماضي برفعِ أسعار البنزين ثلاثة أضعاف السعر السابق رغم الوعود التي أطلقها الرئيس حسن روحاني مُسبقًا بعدم القيام بذلك؛ مُحرِّكًا أساسيًّا لرفعِ وتيرةِ الاحتجاجات الفئوية في البلاد واتساع رقعتها. لكن من الواضح أنَّ العقوبات الأمريكية على طهران قد أنهكت الميزانية الإيرانية مما جعلها تتجهُ نحو الخيارِ الأسهل وهو امتصاص الأموال من الداخل الإيراني.
وعلى الرغم من أنَّ خامنئي قد قذف بالكرةِ في مرمى الحكومة خلال كلمتيه التي ألقاهما في فترة الاحتجاجات إلَّا أنَّ كثيرين قرأوا في ذلك ضوءًا أخضرَ من خامنئي للحكومةِ بعدم التراجع عن القرار الذي من المتوقع أن يُغذِّي الميزانية للدولة بقرابة ١٦ مليار دولار تُؤخذ من جيوب الشعب الذي يعيش حالةً من الصعوبات المعيشية وانتشار الفقر والبطالة وتضخم الأسعار. وماهي إلَّا ساعاتٍ يسيرةٍ بعد تصريحاتِ خامنئي حتى خرج الرئيس روحاني في كلمةٍ متلفزةٍ قال فيها: «إنَّ الحكومة سوف تدفع تعويضاتٍ ماليةٍ للمتضررين من رفع أسعار البنزين». وبالفعل أعلنت الحكومة عن القيام بتحويلاتٍ بنكيةٍ على حساباتِ بعض شرائح المجتمع، وتتراوح قيمة كل حوالةٍ شهريةٍ ما بين (4-8) دولاراتٍ أمريكية تقريبًا فقط. بعد ذلك توالت التصريحات لتعزف على الوتر ذاته.
وعلى الرغم من ضآلةِ هذا المبلغ إلَّا أنَّه يمكن قراءته كمحاولةٍ لامتصاصِ حالة الغضب وتخفيف حدِّتها وما إذا كان ذلك سيكون مُرضيًّا للمحتجين قبل أن تتمَّ دراسة التراجع بشكلٍ كاملٍ عن قرار رفع الأسعار إذا ما استمرت الاحتجاجات، على الرغم من أنَّ المؤشِّرات الراهنة تؤكِّدُ بأنَّ الحكومة لن تتراجع عن قرار رفع أسعار الطاقة لاعتباراتٍ اقتصاديةٍ بحتة.
كثَّفَ المسؤولون الإيرانيون وعلى رأسهم المرشد الإيراني علي خامنئي، والرئيس حسن روحاني، ووزير الخارجية محمد جواد ظريف من تصريحاتهم التي تَصُبُّ في اتجاهٍ واحدٍ وهو أنَّ قرار رفع الأسعار كان بنيّةٍ حسنةٍ ليستفيد المواطن من عائداتِ الطاقة بشكلٍ أفضل، وادِّعائهم أنَّ الاحتجاجات في طريقها إلى النهاية أو انتهت فعليًّا في كثيرٍ من المدن لدفعِ المتظاهرين للعودةِ إلى بيوتهم. تنتهجُ الحكومة الإيرانية سياسةً واضحةً وجليَّةً في التعامل مع الاحتجاجات حيث تم قطع خدمة الانترنت أو اضعافها بشكلٍ كبير، وأيضًا التركيز على سياسة الهروب إلى الخارج بإلقائهم اللوم على أطرافٍ أجنبيةٍ تتهمها طهران بالوقوف خلف حالة الغضب التي اجتاحت شوارع المدن الإيرانية المختلفة، وذلك بتكثيف العمل الإعلامي الرسمي في هذا الصدد مع إصدار بيانٍ من الصف الثاني من المسؤولين يشيطن الاحتجاجات ويربطها بالأدلِّة المزعومة بالخارج.
وهنا ذكرت وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء أنَّ قائد الحرس الثوري الإيراني في طهران العميد محمد رضا يزدي حذَّر يوم الخميس الماضي قائلًا: «إنَّ البعض داخل إيران وخارجها يسعى لجعل طهران مثل بغداد وبيروت». ولإثبات ذلك أصدرت بعض الجهات الرسمية في إيران بياناتٍ تتحدَّثُ عن إلقاء القبض على أشخاصٍ من مزدوجي الجنسية في بعض المدن الإيرانية اعترفوا بتلقيهم تدريباتٍ من قِبل أجهزةٍ استخباراتيةٍ لنشر الفوضى والتخريب، وعُثر بحوزتهم على أجهزةٍ متطورةٍ للتجسُّس على حدِّ وصف البيان. ويبدو أنَّ إصدار مثل هذه البيانات والأخبار تنسجمُ مع المسارِ الذي رسمه النظام لقمع الاحتجاجات والقضاء عليها وتقديم مبرراتٍ مبكِّرةٍ لذلك.
وبغضِّ النظر عن مسارِ هذه الاحتجاجات ومدى إمكانية استمراريتها من عدمه، فإنَّ ما شهدته إيران وقبل ذلك موجة الاحتجاجات في العراق ولبنان ضد الفساد الإداري والمالي والسياسي والارتهان للأيديولوجيات وفي ظلِّ التسريبات التي نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، حول حجمِ التدخلات الإيرانية في صناعةِ القرار السياسي والأمني والاقتصادي في العراق، ووصول الاحتجاجات إلى الضاحية الجنوبية في لبنان، ورفع الهتافات ضد قيادات «حزب الله» يقودنا إلى نتيجةٍ واحدةٍ. تتمثّل هذه النتيجة في في أنَّ هذه الشعوب التي وقعت تحت وطأةِ سياسة الولي الفقيه وأيديولوجيته بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ وفي ظلِّ غياب أي نموذجٍ تنمويٍّ حقيقي، قد ضاقت ذِرعًا بالانسياق خلف الشعارات الكاذبة داخليًّا وخارجيًّا وترى الفساد يَنخرُ بلدانهم التي تتمتَّع في الغالب بثرواتٍ كبيرةٍ تحكمها سوء الإدارة والتبديد بسلَك مسارات الفساد، ومشاريع دعم الميليشيات، والضغط على المجتمعات على كافةِ الأصعدة، علاوةً على اعتماد المُحاصصة التي تزيد الضغينة والحقد بين أطيافِ المجتمع الواحد. إنَّ الخيط الناظم لكلِّ هذه الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان وإيران هو الأيديولوجيا التي انطلقت في عام 1979م عبر نظام الخميني وأنَّ معالجة ذلك والخلاص من هذا الداء المُعضِل يتمثَّل في الخلاص من عقليةِ الانقياد للأيديولوجيا العابرة للحدود أو تلك التي تتجاوز الحاضر لتغسل أدمغة الشعوبِ بالتفكير في مستقبلٍ مجهولٍ يرتهن لرموزٍ مجهولين ربما لو ظهروا في هذا الوقت لتبرأوا منهم قبل غيرهم.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية