السلطات الإيرانية تفشل في معالجة أزمة الانتحار

https://rasanah-iiis.org/?p=33645

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

على الرغم من أن الانتحار ظاهرة غير طارئة، تنتشر في مختلف البلدان بما فيها إيران، فإن الأخبار المتعلقة بالانتحار في محافظة عيلام الواقعة غربي إيران في الأيام القليلة الماضية كانت لافتة للانتباه بالفعل، إذ تحدثت تقارير عن انتحار عدد من التلميذات من ناحية، وعدد من العمال من ناحية أخرى، في غضون مدة زمنية محدودة.

شهدت مدينة آبدانان الواقعة جنوب محافظة عيلام والبالغ عدد سكانها نحو 50 ألف نسمة، انتحار 5 من التلميذات والتلاميذ في غضون أقلّ من شهرين، وكانت أربع من التلميذات اللواتي أقدمن على الانتحار يعشن في حيّ واحد ويدرسن في مدرسة واحدة ومن فئة عمرية محدَّدة، وانتحرن بطريقة واحدة، ما أثار الرعب وسبّب القلق والخشية على الصحة النفسية لبقية التلميذات في المدرسة والخوف من تكرار هذا النوع من الأحداث في الأيام والأسابيع المقبلة. والحقيقة أن الانتحار ليس غريبًا على هذه المدينة، التي شهدت في العام الماضي وحده أكثر من 120 حالة انتحار، فيما أقدم 11 تلميذًا على الانتحار فيها بين شهرَي أبريل وأكتوبر الماضيين. وعلى الرغم من تفاقم هذه الظاهرة، حاول مدير التربية والتعليم في المحافظة علي درويشي التقليل من وقعها، من منطلق أن الانتحار لم يحدث داخل المدرسة، وأن بعض التلميذات أنهين المرحلة الثانوية، معتبرًا الحديث عن كثرة حالات الانتحار في المنطقة غير صحيح. وبينما لا تزال الأسباب الحقيقية الكامنة وراء انتحار التلميذات في هذه المدينة  التي كانت من أبرز المدن التي انضمت إلى الاحتجاجات العامة في خريف العام الماضي في ما عُرف باسم ثورة “المرأة، الحياة والحرية”، غير واضحة تمامًا، يبدو أن جذور هذه الظاهرة متعددة، من أبرزها التعارُض بين الجيل الشابّ والأجيال السابقة، والفجوة بين الأجيال، ورغبة بعض الفتيات في العيش بمزيد من التحرُّر وسط معارضة الأسر المحافظة، وحتى المشكلات الأسرية والضغوط المتعلقة بالحصول على درجات عُليا في الاختبارات والخشية من عدم الحصول عليها، والتأثير المحتمَل لألعاب مثل «الحوت الأزرق» و«ماري الدموية»، وصولًا إلى «عدوى الانتحار»، إلا أنه لا شيءَ يؤكِّد أيًّا من هذه الأسباب في أحاديث أُسَر الضحايا، والمؤكَّد فقط أن الأمر يتعلّق بالصحة النفسية. 

من جهة أخرى، حاول اثنان من العمال في منشأة مدينة تشوار للبتروكيماويات الواقعة في هذه المحافظة في الأسبوع الماضي، الانتحار احتجاجًا على فصلهما من العمل، ما رفع عدد حالات الانتحار في المصنع نفسه إلى ست على الأقل في غضون أقلَّ من عامين. خلال السنوات الماضية احتجّ العاملون في هذه المنشأة مِرارًا اعتراضًا على الفصل من العمل وانخفاض رواتبهم وأوضاعهم المعيشية السيئة أو تخفيض مدة عقودهم أو عدم تمديدها، لكن السلطات لم تكتفِ بعدم الاستجابة لمطالبهم، بل حكمت محكمة الثورة في المحافظة عام 2018 على سبيل المثال، على 15 عاملًا من المحتجِّين في المنشأة بالسجن بما مجموعه 15 عامًا، والجَلْد بما مجموعه 1100 جلدة، بتهمة الإخلال بالنظام العامّ. كما أن الشركة نفسها لم تكتفِ بعدم تنفيذ الوعود بعد انتحار أول عامل من عمالها، بل منعت بعض العمال المحتجِّين من دخول الشركة وفصلتهم هم أيضًا من العمل. وبينما وقعت محاولتا الانتحار الأخيرتان داخل المصنع كي لا يقال إن الانتحار لا علاقة له بالمنشأة، نفَتِ العَلاقات العامة في شركة البتروكيماويات أن تكون طردت أي عامل، وذكرت أن هذين العاملين تابعان لشركة للمقاولات، لا لشركة البتروكيماويات نفسها، ولم تكن تربطهما علاقة عمل مباشرة مع شركة البتروكيماويات. والحقيقة أن ما قالته الشركة يمثِّل جوهر المشكلة، إذ يلجأ مديرو المنشأة في ظلّ كثرة اليد العاملة والبطالة في المحافظة، إلى توظيف عدد من الشباب العاطلين عن العمل عن طريق متعهدين وبعقود مؤقتة ورواتب ضئيلة، وبمجرد أن تنتهي عقودهم يُستغنى عن خدماتهم، ويوظَّف عمال آخرون للتنصل من الأعباء المترتبة على العمالة الدائمة.

تتصدر المحافظات الغربية في إيران، على رأسها عيلام، باقي المحافظات من حيثُ معدلات الانتحار، وحسب عالِم الاجتماع علي موسى نجاد، حافظت عيلام -وهي إحدى المحافظات الثلاث الأولى من حيث معدل الفقر المدقع- على الصدارة في معدلات الانتحار طوال العقود الثلاثة المنصرمة تقريبًا. وبينما بلغ معدَّل الوفيات الناتجة عن الانتحار في إيران بين عامَي 2016 و2020 حسب الأرقام الرسمية -وهي أرقام يُعتقد أنها بعيدة للغاية عن الواقع- 5,1 حالة بين كل 100 ألف نسمة، وارتفع في عام 2022 إلى 7,4 شخص من كل 100 ألف نسمة، إذ بلغ عدد حالات الوفيات الناجمة عن الانتحار في ذلك العام أكثر من 6000 حالة من بين 120 ألف محاولة انتحار حسب حميد بيروي نائب رئيس الجمعية العلمية للوقاية من الانتحار، بلغ هذا المعدل في عيلام خلال العقدين الماضيين 17,3 حالة من بين كل 100 ألف نسمة.

وبدلًا عمل السلطات على دراسة أسباب الانتحار والقضاء عليها أو التقليل منها، لجأت كعادتها إلى التستُّر على المشكلة، ومحاولة إخفاء الأرقام أو التقليل منها، حالها كحال عدد حالات الطلاق والإدمان والعلاقات الجنسية غير المشروعة وغيرها من المشكلات الاجتماعية، بالإضافة إلى فرض رقابة على حديث وسائل الإعلام عنها، واعتقال الصحفيين الذين يتناولون هذه الظواهر الاجتماعية بتهم شَتَّى، من بينها تعكير الصفو العامّ وتقديم معلومات مغلوطة وتعريض الأمن النفسي للمواطنين للخطر، ما أدى في نهاية المطاف إلى تفاقم هذه الظاهرة وارتفاع أعدادها بشكل «يثير القلق»، حسب رئيس رابطة الرعاية الاجتماعية حسن موسوي تشيلك الذي شدّد على أن بين الأرقام المسجلة والعدد الحقيقي لحالات الانتحار بونًا شاسعًا.

والحقيقة أن الانتحار لم يعُد مقتصرًا على فئة معينة أو شريحة محددة، فقد تحدثت تقارير في الشهور الماضية عن انتحار عدد من الشبان والشابات الذين أُفرجَ عنهم بُعَيد احتجاجات السنة الماضية. وتحدثت مصادر عن انتحار 13 طبيبًا في مرحلة التخصص في سنة واحدة، ناهيك بانتشار الانتحار بين شرائح أخرى في المجتمع.

وعلى الرغم من أن معظم حالات الانتحار في العالم يقع في سن تتراوح بين 18 و35 عامًا، فإن إيران باتت تشهد انتحار أطفال لا يتجاوزون الخامسة عشرة من عمرهم، بما يدقّ ناقوس الخطر. لكن أداء السلطات يُظهِر أنها لم تأخذ هذه الظواهر على محمل الجِدّ، ومن المرجَّح أن التقليلَ من شأنها يعود إلى خشية النظام من ظهور انعدام كفاءته وإخفاقه في التعامل مع المعضلات الاجتماعية.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية