السياسة الفرنسية تجاه الصراع الفلسطيني.. ما بين إرث ديجول والتهميش الدبلوماسي

https://rasanah-iiis.org/?p=33456

بواسطةكلمون تيرم

لا تزال السياسة الفرنسية تجاه الصراع الفلسطيني متجذرةً بعمقٍ في الرؤية التي جرى تأطيرها في عهد رئاسة الرئيس الفرنسي السابق شارل ديجول (1959م-1969ت)، مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة. ومنذ عام 1967م، تَستند الرؤية الفرنسية إلى التحليل التالي: من المستحيل ضمان أمن إسرائيل من خلال سيناريو سلام «يتجاهل وجود الفلسطينيين وحقوقهم». ويستند موقف الرئيس إيمانويل ماكرون من الصراع في غزة إلى هذا الإرث التاريخي الذي يُتداول الآن تحت راية تبني «سياسة متوازنة» في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في الخطاب الفرنسي. وَحَسبما أفاد وزير الخارجية الفرنسي، من الممكن أن نكون متضامنين مع كل من الإسرائيليين والفلسطينيين في نفس الوقت. وفي هذه المقاربة، يُعد عدم انحياز فرنسا إلى أي طرف في الصراع، على الرغم من كونها فاعلًا في الحوار وكذلك وسيطًا دبلوماسيًّا محتملًا في الصراع، من المحركات الرئيسية للسياسة الفرنسية تجاه القضية الفلسطينية منذ 7 أكتوبر 2023م.

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الموقف الدبلوماسي الذي يرفض بوضوح تصاعد الأعمال العدائية، يجب على المرء أن يأخذ في الاعتبار المؤيدين لإسرائيل من الأحزاب السياسية اليمينية واليمينية المتطرفة في المشهد السياسي الفرنسي منذ نهاية رئاسة جاك شيراك في عام 2007م. إذ يمكن تفسير هذا النهج الفرنسي اليميني الجديد تجاه الصراع بصورةٍ أفضل من خلال منظور نخبة اليمين المتطرف تجاه البُعد الداخلي لمفهوم الصراع ومخاطره المتصورة المحتملة التي قد تؤثر أو تخترق المجتمع الفرنسي في حال تحوله إلى دعم القضية الفلسطينية. وتتجاوز الحساسية الداخلية لهذه القضية الفجوة التقليدية بين اليمين واليسار. وفي الواقع، فإنه في عام 2023م، انقسم المشهد السياسي حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى ما هو أبعد من وجود التفضيلات السياسية التقليدية. على سبيل المثال، يوجد تقارب في رؤية الزعيم السياسي اليساري جان لوك ميلانشون ورؤية رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلبان. إذ يبدو أن هذين الزعيمين السياسيين مؤيدان للفلسطينيين، بينما يمكن أن تبدو الأحزاب السياسية الأخرى من اليسار واليمين على حدٍّ سواء مؤيدة لإسرائيل.

وبالنظر إلى هذه الانقسامات الجديدة في المشهد السياسي الفرنسي، يحاول الرئيس ماكرون بناء سياسة خارجية تستند إلى شعار حملته الرئاسية «في نفس الوقت». وبينما من الصعب على الدبلوماسيين الفرنسيين تنفيذ سياسة إقليمية تقوم على الحوار بين الأطراف المتنازعة في وقت الصراع العسكري، يُعَد هذا الطموح المتمثل في بناء سياسة متوازنة هو السبب في دعوة الرئيس ماكرون في النهاية إلى وقف إطلاق النار، ووقف القصف الإسرائيلي العشوائي، وإنشاء مناطق آمنة.

يهدف هذا الموقف إلى تبْيان استقلالية فرنسا على الساحة الدولية، إذ تحاول باريس تقديم موقف حقيقي بخصوص هذه القضية. ويكمن هدف باريس في تعزيز رؤية فرنسا الحقيقية للاستقرار الإقليمي مع الأخذ في الحسبان الحقوق الفلسطينية ومشروع سياسي قائم على شرعية السلطة الفلسطينية. وتخشى النخبة السياسية الفرنسية من أنه في حال لم يحاول الرئيس ماكرون وضع فرنسا في قلب الصراع الفلسطيني من أجل النفوذ، فإن دور الوساطة سَتَلعبه قوى إقليمية ودولية أخرى مثل تركيا أو قطر أو الصين أو حتى روسيا. ولا يزال هذا الهدف الفرنسي بعيد المنال نظرًا لموقف باريس الرسمي من الصراع وصعوبة إجراء محادثات مع جميع الأطراف المعنية. ووفقًا لما صرحت به باريس، يمكن أن يكون الدعم المالي الأوروبي لإعادة إعمار غزة في مصلحة الظهور المحتمل لدور أوروبا السياسي في حل الصراع. على الرغم من أن الهدف الفرنسي هو تطوير موقف حقيقي، وحتى عرض خدماته الدبلوماسية من أجل قضية السلام، فمن الواضح أن فرنسا لا تزال لاعبًا مكمّلًا إلى جانب إدارة بايدن. ولا يزال هذا التهميش الدبلوماسي لفرنسا يمثل مشكلة نظرًا لخطر تصاعد التوترات الاجتماعية داخل المجتمع الفرنسي وخطر امتداد الصراع الذي يمكن أن يتكون له عواقب على أمن أوروبا نظرًا لقربها الجغرافي من الشرق الأوسط.

وتُواجه فرنسا تحدياتٍ عديدة كي تبرز وسيطًا دبلوماسيًّا في سياق الحرب في غزة. ولا يُعَد تهميش الدبلوماسية الأوروبية بالأمر الجديد. فقد كان هذا هو الحال منذ نهاية عام 1980م وصعود النفوذ الدبلوماسي الأمريكي خلال ما يسمى بعملية السلام في عام 1990م. منذ ذلك الحين، لم تكن الدول الأوروبية عامةً، وفرنسا خصوصًا، في قلب اللعبة الدبلوماسية في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وفي هذا السياق، يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكان باريس تقديم إسهام ملموس لتخفيفِ حِدّة الصراع، فقد يتمثل الإسهام الوحيد المتوقع الآن لفرنسا والدول الأوروبية في تقديمِ الدعم الإنساني والإعداد لإعادة الإعمار الاقتصادي لغزة في فترة ما بعد الحرب. وسيبقى هذا التحدي الاقتصادي على رأس الأجندة الدبلوماسية الفرنسية، لا سيما أنه يمثل التزامًا طويل الأمد. وعلى الرغم من هذا الدور الاقتصادي، فمن غير المرجح أن تلعب الدول الأوروبية بوجه عام، وفرنسا بوجه خاص، دورًا سياسيًّا مهمًّا في إدارة الصراع في الأشهر المقبلة.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

كلمون تيرم
كلمون تيرم
زميل غير مقيم في «رصانة» وباحثٌ مشارك في كلية الدراسات المتقدّمة في العلوم الاجتماعية في باريس