رحيل جون بولتون.. ما تأثيرُه على ملفّ إيران؟

https://rasanah-iiis.org/?p=17877

عبر تغريدة على «تويتر» في العاشر من سبتمبر 2019، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إقالة مستشاره للأمن القومي جون بولتون. على الفور، استقبل المسؤولون في إيران الخبر بترحاب، وبالَغ بعضهم في وصفه بأنه هزيمة لواشنطن. فهل إقالة بولتون تحمل معها تغييرًا فعليًّا في السياسة الأمريكية تجاه إيران؟ وهل تستحقّ هذا الترحاب من جانب إيران؟

بولتون وتاريخ من المواجهة مع إيران
أسباب عديدة خلف ترحيب إيران بإقالة بولتون من منصبه، فبدايةً عُيِّن بولتون في سياق قيام ترامب في مارس 2018 بإحداث تغييرات مهمة على بعض عناصر إدارته، الذين كان لديهم تحفظات على بعض توجهات ترامب الخارجية، وعارضوا علنًا بعض مواقفه، ومن ضمنها خيارات ترامب المتشددة تجاه إيران، وتحديدًا رغبته الملحّة في الانسحاب من الاتفاق النووي الذي أُبرم بين إيران ومجموعة 5+1 في 2015، والعمل على إبرام اتفاق جديد، إذ اختار ترامب اثنين من الصقور المؤيدين لتوجهاته، وهما: مايك بومبيو وزيرًا للخارجية بدلًا من ريكس تليرسون في 13 مارس 2019، وجون بولتون مستشارًا للأمن القومي خلفًا لهاربرت ماكماستر في 22 مارس 2017.
ويحمل بولتون سجلًّا حافلًا بالمواجهة مع النظام في إيران، فعندما كان الرجل سفيرًا للأمم المتحدة، قال: «إنّ سلوك النظام الإيراني وأهدافه لن تتغير، وبالتالي فإنّ الحل الوحيد يكمن في تغيير النظام نفسه». وفي أثناء التفاوض على الاتفاق النووي، كتب بولتون مقالَ رأيٍ تحت عنوان «لنقصف إيران قبل أن تقصفنا»، وكتب مقالًا آخر في أغسطس 2017 بعنوان «كيف ندمِّر الاتفاق النووي؟»، ولدى بولتون صلات بالمعارضة الإيرانية في الخارج، وقد صرّح لجمع من المعارضة الإيرانية في باريس في صيف 2018 بأنه يجب أن تكون السياسة المعلنة للولايات المتحدة هي الإطاحة بنظام رجال الدين في طهران، وأعاد طرح رؤيته بقوله إنّ سلوك النظام الإيراني وأهدافه لن تتغير، وبالتالي فإنّ الحلّ الوحيد هو تغيير النظام نفسه، وعندما عُيِّين ضمن إدارة ترامب شجع الرئيس على الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، فضلًا عن أنه كان من أهمّ المحرِّضين على استخدام القوة ضد النظام في إيران، وضد وجودها في بعض دول المنطقة. وقد لعب دورًا مهمًّا في دفع الاستراتيجية الأمريكية عبر عدة جولات مكوكية شملت دولًا أوروبية وآسيوية وبعض دول جوار إيران، من أجل إحكام تطبيق استراتيجية الضغوط القصوى، وتضييق الخناق على إيران.
لهذا يعتقد بعض رموز النظام في إيران أنّ واحدًا من ألدّ أعدائها ضمن إدارة ترامب قد رحل، ورحلت معه دعوات استخدام القوة ضد إيران ودعوات تغيير النظام، ويأمل آخرون في أن يكون ذلك مقدمة لعملية تغيير في تعاطي إدارة ترامب مع الملف الإيراني، لا سيّما تحريك ملف التفاوض.

ما تأثير بولتون على ملف إيران؟
يُعَدّ منصب مستشار الأمن القومي واحدًا من عدة مناصب مهمّة تحيط بالرئيس الأمريكي، وتؤثر على مواقفه، لكنه ليس الوحيد بين عدة مؤسسات وأفراد يلعبون دورًا رئيسيًّا في تحديد طبيعة السياسة الأمريكية على الصعيد الخارجي.
في الحقيقة، رغم مواقف بولتون فإنّه لم يؤثر على خيارات ترامب تجاه إيران ولا على قراراته، فالرجل جاء إلى منصبه بعد عام ونيِّف مِن تولي ترامب مهامّه الرئاسية في مطلع 2017، بل إنّ اختيار ترامب لبولتون بالأساس جاء في سياقِ سعْيِ ترامب لإعادة تشكيل فريقه للأمن القومي ليكون أكثر توافقًا مع توجهاته وميوله.
إنّ استراتيجية ترامب وقراراته تجاه إيران كانت تنفيذًا لوعود ترامب الانتخابية، وقبل مجيء بولتون أبدى الرئيس الأمريكي إصرارًا على الانسحاب من الاتفاق إذا لم يُعَدَّل، وعمليًّا أسهمت توجهاته بصورة أساسية في تقويض الاتفاق وإفراغه من مضمونه.
وحتى بعد مجيء بولتون، فإنّ دوره بات محدودًا بعدما أسند الملف الإيراني إلى وزارة الخارجية بقيادة بومبيو، الذي حدّد بدوره المطالب ووضع ملامح الاستراتيجية الأمريكية تجاه إيران، والتي ركزت بصورة أساسية على ممارسة أقصى ضغط ضد إيران. وبعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي ودخول الحزمة الأولى من العقوبات الأمريكية على إيران حيِّزَ التنفيذ في مايو 2018، أعلن وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو عن تشكيل مجموعة عمل بشأن إيران في 16 أغسطس 2018، وهذه المجموعة تولت مهمّة وضع السياسات الخاصة باستراتيجية «الضغوط القصوى» من أجل تغيير سلوك إيران، وتَرأَّس المجموعةَ مديرُ دائرة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية برايان هوك، الذي أصبح الممثل الخاصّ لوزارة الخارجية الأمريكية بخصوص إيران.
وبدوره حدّد هوك خريطة العمل تجاه إيران بعدما أعاد ترامب الثقة إلى وزارة الخارجية في ممارسة مهمتها تجاه هذا الملف، واتضح من الاستراتيجية التي حدّدها هوك أنها على مسافةٍ ما من خيارات بولتون.
حتى عندما وصلت الأزمة إلى ذروتها في إطار التصعيد المتبادل بين الولايات المتحدة وإيران، واستهداف إيران لناقلات النفط في الخليج، وضرب طائرة أمريكية مسيرة، قالت إيران إنها اخترقت مجالها الجوي، وتهديد تمركزات القوّات الأمريكية في العراق، وضرب المنشآت النفطية في بعض دول الخليج، وتهديد حرية الملاحة في مضيق هرمز، في ما بدا معه أن أفكار بولتون يمكن تسويقها لدى ترامب، فإنّ قرار ترامب بإلغاء القيام بضربة عسكرية ضد أهداف إيرانية قبل تنفيذها بساعات، كانت بمثابة خطوةٍ تُناقِض التوجهات المتشددة لبولتون، وتحدِّد تواضع تأثيره على سياسة إدارة ترامب تجاه إيران، وهذا ما يفسره تصريح ترامب بحسب ما نقله موقع «مشرق نيوز» عن شبكة «إن بي سي» الأمريكية بعد إلغاء الضربة الأمريكية على إيران، بقوله: «إنّ بولتون يرغب في محاربة العالم أجمع، وإنه شخص يدعو إلى الحرب»، وهذا ينسجم أيضًا مع نص التغريدة التي أقال فيها ترامب بولتون بقوله: «لقد عارضتُ بشدة عديدًا من اقتراحاته».

نتائج وتداعيات.. على ملف إيران
التداعيات على السياسة الأمريكية: كان واضحًا منذ البداية أن سياسة ترامب متوافقة إلى حدٍّ ما مع بعض توجهات بولتون المتشددة، ولا يمكن إنكار دوره ضمن هيكل صناعة القرار ضد إيران منذ تولِّيه منصبه، ودوره في طبيعة السياسة المتشددة تجاه إيران، لكن عمليًّا لن تؤثر إقالته على السياسة الأمريكية تجاه إيران، إذ لا يزال للرئيس من خلال وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الخزانة ووكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع التأثير الأهمّ في تحديد تلك السياسة، وهذه الجهات قدمت استراتيجية الضغوط القصوى كخيار رئيسيّ واستراتيجيّ، من أجل إجبار النظام الإيراني على التفاوض على اتفاق جديد دون شروط، ويرى ترامب أنّ هذه الاستراتيجية تحقق نجاحًا متواصلًا وأنها سوف تحقق غايتها إنْ عاجلًا أو آجلًا، وبالتالي لا عَلاقة لإقالة بولتون باحتمال دخول تغيير على استراتيجية الضغوط القصوى كما أكد ترامب.
التأثير على مسار التفاوض: قد يفسر البعض إقالة بولتون بأنها رسالة إيجابية من الجانب الأمريكي تحديدًا في ما يتعلق بالتفاهم مع إيران، خصوصًا أن هناك ضغوطًا أوروبية من أجل فتح نافذة للحوار بين الجانبين الأمريكي والإيراني، لكن في حقيقة الأمر حتى في وجود بولتون فإنّ ترامب واضح في ما يتعلق برغبته في التفاوض مع إيران، فبولتون لم يكن عقبة في بدء مسار التفاوض على الرغم من معارضته محادثات محتملة بين ترامب والقيادة الإيرانية، حتى يمثل رحيله فرصة للشروع فيه، بل إنّ التفاوض معلَّق بالأساس في ظلِّ الموقفين الإيراني الذي يرى في التفاوض في ظل العقوبات انتحارًا سياسيًّا، والأمريكي الذي يرى أن العقوبات ستؤتي ثمارها مع استمرار العقوبات والضغوط وتلاشي قدرة إيران على التأثير مع الوقت.

التأثير على خيار المواجهة العسكرية مع إيران: قد تشير إقالة بولتون إلى تقليل عدد الصقور في إدارته الذين يدعمون خيار التدخّل العسكري ضد إيران في حالة وصول الأزمة إلى طريق مسدود، ومِن ثَمّ إعادة الاعتبار لمبدأ الانعزالية المعلنة من جانب ترامب.

التأثير على موقف إيران: بطبيعة الحال لن يؤثر غياب بولتون على موقف النظام الإيراني من الولايات المتحدة، فإيران تسعى إلى وجود تغيير في السياسات الأمريكية، وليس تغييرًا في الأشخاص، إذ ما فائدة أن يرحل أمثال بولتون بينما لا تزال العقوبات والضغوط قائمة؟
إضافة إلى ذلك، يوظف النظام الإيراني إقالة بولتون في الداخل ضمن دعايته للتأثير على الرأي العام، باعتبار أن إقالة بولتون أو استقالته تعكس فشل استراتيجية الضغوط الأمريكية في التعامل مع إيران.
لكن على أي حال، لم يجلب وجود بولتون ضمن إدارة ترامب كثيرًا في ما يخصّ ملفّ إيران، على الرغم من مواقفه المتشددة، كما لن يؤثر رحيله كثيرًا مع التأثير المتسع لجهات متعدّدة ضمن إدارة ترامب في صناعة القرار الخاص بإيران، ولا سيّما وزارة الخارجية، وتحديدًا مهندس استراتيجية الضغوط القصوى ومنسق ملفّ إيران داخل إدارة ترامب، برايان هوك.

مَن يخلُف بولتون؟
بعد إقالة بولتون سُمِّيَ تشارلي كوبرمان مستشارًا مؤقتًا للأمن القومي، بينما قال السيناتور لينزي جراهام إنّ ترامب استعرض أمامه عدّة أشخاص لشغل المنصب، هم: كيث كيلوغ، مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس مايك بنس، وبرايان هوك، المستشار السياسي لوزير الخارجية مايك بومبيو، وريك واديل مسؤول الأمن القومي السابق.
قد لا يوافق ترامب على تولي كوبرمان المنصب بصفة دائمة، لأنه كان مساعدًا سابقًا لبولتون، وقد ينتمي إلى الأفكار الآيديولوجية ذاتها، التي لا تناسب توجهات ترامب خلال هذه المرحلة، وفي ما يخص إيران فإنها لا ترحِّب بتوليه المنصب لأنه محسوب على التيار المعادي لإيران.
أمّا الجنرال المتقاعد، كيث كيلوغ، فقد سبق وعيَّنه ترامب قائمًا بأعمال مستشار الأمن القومي بعد استقالة مايكل فلين، الذي واجه اتّهامات بالتورّط في اتّصالات مع الروس، لكن لم يثبته ترامب في موقعه وسمّى ماكماستر خليفة لمايكل فلين، ومِن ثَمّ فإنه حظوظه قد تكون قليلة، وبالنسبة إلى إيران فإنّ شخصًا مثل كيلوغ متماهٍ مع خطاب ترامب وتوجهاته، ربما بصورة أقل حدّة من كوبرمان، لكنه لن يحدث تأثيرًا أو تغييرًا في ما يخصّ ملفّ إيران.
وفي ما يخصّ ريك واديل فقد كان هو الآخر نائبًا لمستشار الأمن القومي السابق ماكماستر، وهو ما يقلل حظوظه في الوصول إلى المنصب بالنسبة إلى ترامب، كما هو حال ماكماستر نفسه، الذي ترشحه بعض الدوائر للمنصب، لكن من وجهة نظر إيران فإنّ كلًّا منهما خيار جيّد، نظرًا لأنه كان مساعدًا لماكماستر الذي كان لديه اعتراض على سياسة ترامب تجاه إيران، وكان متحفظًا على الانسحاب من الاتفاق النووي.
يبقى هناك برايان هوك، وهو مسؤول التخطيط في وزارة الخارجية، ومسؤول ملف إيران ورئيس مجموعة العمل الخاصة بإيران، ويُعَدّ أبرز الخيارات التي قد يذهب إليها ترامب، بينما تعتبره إيران واحدًا من أكثر الدبلوماسيين خطورة على النظام الإيراني، إذ إنّه ينسّق ملفّ إيران بين مختلف الجهات المعنية بالملفّ داخل إدارة ترامب، ولعب دورًا بارزًا في ممارسة أقصى ضغط على إيران.
إضافة إلى هؤلاء المرشحين الأبرز، هناك عدة أسماء أخرى، على سبيل المثال يوجد دوغلاس ماغريغور، وهو عميد متقاعد في الجيش وله مؤلفات مهمة، وقد لعب دورًا في تراجع ترامب عن توجيه ضربة عسكرية إلى إيران في يونيو 2019، باعتبار أنها ستسبِّب كارثة سياسية لترامب، ويقال إنّ اتصالًا جرى معه بشأن منصب مهمّ في البيت الأبيض، لكنه رفض التعليق على ذلك، ولا شك أنه خيار مناسب لإيران كونه لا يحبِّذ التصعيد والمواجهة.
كذلك هناك السفير الأمريكي لدى ألمانيا ريتشارد غرينيل، وهو مقرَّب من ترامب ولديه موقف متشدد تجاه إيران، لكن رغم أنه كان مرشحًا لمنصب السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة فإنّ ترامب لم يختَره، وشغلته السفيرة الأمريكية لدى كندا، كيلي نايت كرافت، وهو ما يقلل حظوظه، لكنه بالنسبة إلى إيران ضمن الوجوه المتشددة تجاه إيران.
وتشير بعض التقارير إلى احتمال تكليف ترامب لبومبيو بمباشرة مهامّ مستشار الأمن القومي إلى جانب الاحتفاظ بمنصبه وزيرًا للخارجية على غرار تجربة هنري كيسنجر في عهد الرئيس نكسون، إذ شغل كيسنجر المنصبين معًا لعامين، عندما عيَّنه الرئيس في حينها وزيرًا للخارجية، لكن يبدو هذا صعبًا، أن يسند إلى وزير الخارجية وظيفة ربما هو يقوم ببعض مهامها بحكم منصبه بالأساس، وبالنسبة إلى إيران لو حدث هذا فسيكون الاختيار الأسوأ، إذ يُعَّد بومبيو من الصقور الذين لديهم وجهة نظر شديدة السلبية تجاه إيران، وتنفَّذ استراتيجية الضغوط الحالية من خلال وزارته.
في النهاية كل الأسماء المرجح وصولها إلى المنصب تتوافق مع سياسة ترامب تجاه إيران، ومن المؤكد أنه لن يختار عناصر سبق ووقع معها في خلافات وتناقض في التوجهات، وتظل الوجوه الجديدة هي الأقرب للحصول على المنصب، وأهمّها برايان هوك، أو ريتشارد غرينيل، لأنهما أكثر انسجامًا مع توجهات ترامب وسياساته الخارجية. وعلى أي حال، لا يجب أن تنتظر إيران تغييرًا يصبّ في صالحها ما دامت مُصِرَّة على مواصلة سياسة التحدي والانتظار.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير