الفجوة بين الأجيال وهوية المجتمع والدولة في إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=22033

بواسطةد. محمد حسن القاضي

    بعد أربعين عاماً من الثورة يشهدُ المجتمع الإيراني حراكاً اجتماعياً وسياسياً واسعاً، يحملُ في طياتِه خلافاً متنامياً بين الأجيال القديمة والأجيال الشابة. إذ يصرُّ جيلُ الكبار الذي قامَ بالثورة ثم قادَ الدولة، لا سيما جيلُ الحرس القديم المتمثِّل في رجال الدين المُتحكمين في مقاليد السُلطة، على ذات الخطاب الأيديولوجي الثوري المتمسك بشدة بالشعارات الدينية، محاولاً الحفاظ على سيطرته ووصايته على جوانِب المجتمع والدولة كافة. بينما في المُقابل يسعى قطاعٌ واسعٌ من جيل الشباب، الذي يمثِّل النسبةَ الأكبر في إيران، إلى أخذِ زِمام المبادرة، والتعبيرِ عن ذاتِه بحرية، وإسماعِ صوتِه بقوةٍ للنُخبة الحاكِمة، طارحاً خطاباً مختلفاً، ومتبنّياً قيماً وتوجهاتٍ مغايرة في الغالب لقيم الجيل القديم وتوجهاته. الأمرُ الذي أفضَى إلى حدوثِ فجوةٍ جيلية انعكست بدورِها على الهوية الإيرانية، مضيفةً مزيداً من التعقيد لوضعيتها الجدلية المُتأزمة، من خلال مساهمة تِلك الفجوة الجيلية، مع غيرها من العوامل المُرتبطة بعملية بناء الأُمة وبالتعددية العرقية والجهوية، في إعاقةِ بناءِ هويةٍ وطنيةٍ جامِعة تتجاوزُ الانقسامات والاختلافات، وتُحقق التلاحُم المجتمعي.

 وفي هذا الإطار، تسعى هذه الدراسة إلى استكشاف قضية هوية المجتمع والدولة في إيران من منظور الاختلافات الجيلية والعلاقة بين الأجيال، وليس من منظور التنوع الجهوي والتعددية العرقية، استناداً إلى أربع فرضيات، هي:

– أن التغيرات الكبيرة والمتسارعة التي شهدتها إيران خلال العقود الأخيرة ساهمت في تعرض الأجيال المختلفة لظروفٍ وخبراتٍ متباينة، ما أدى إلى اختلافٍ في القيم والتوجهات بين الأجيال القديمة والأجيال الجديدة، وبالتالي حدوث فجوةٍ متناميةٍ بينها.

– أن الفجوة الجيلية في إيران ذات مستويين، أحدهما رأسي (بين جيل الكبار وجيل الشباب)، والآخر أفقي (على مستوى كل جيل)، حيث لا تشترك جميع الفئات العمرية التي تندرج تحت أحد الجيلين في القيم والتوجهات نفسها، وإن كانت الفجوة أكثر وضوحاً على المستوى الرأسي.

– ثمة علاقةٌ جدلية (تأثير وتأثر) بين الفجوة الجيلية والهوية في إيران. حيث أدى إخفاق النظام في الاستيعاب الكامل للأجيال الشابة في إطار هويةٍ جامعة إلى حدوث فجوةٍ جيلية أدَّت بدورها إلى استمرار الخلاف حول طبيعة الهوية الإيرانية.

– أثرت الفجوة الجيلية على الهوية الإيرانية وطبعتها بلمحة واضحة من الازدواجية، ما بين هوية أيديولوجية إسلامية أممية يتبنّاها الجيل القديم المهيمن على الحكم، وهوية قومية حداثية علمانية يتبناها قطاعٌ كبير من الأجيال الشابة.

وفي ضوء الفرضيات السابقة، تتناول هذه الدراسة الفجوة بين الأجيال وتأثيرها على هوية المجتمع والدولة في إيران، من خلال أربعة محاور: الأول: مقاربة مفاهيمية لمفهومي الفجوة الجيلية والهوية، والثاني: نظرة عامة على البنية الجيلية للمجتمع الإيراني، والثالث: أسباب ومظاهر الفجوة الجيلية في إيران، والرابع: انعكاسات الفجوة الجيلية على هوية المجتمع والدولة.

أولاً: مقاربة مفاهيمية للفجوة الجيلية والهوية

1. مفهوم الفجوة الجيلية

يشير مفهوم الجيل إلى مجموعةٍ من الأقران الذين تشكلت خبرتهم الجماعية من خلال حدثٍ بارز أو وقائع تاريخية معينة([1]). ويعتبر الجيل أكثر من مجرد مجموعة من الأفراد تنتمي إلى نفس العمر البيولوجي، فهو أيضاً بمثابة وحدة اجتماعية تتشابه ظروف نشأتها وتجاربها وخبراتها، وتشترك في القيم والأفكار والتوجهات نفسها، ويجمعها وعيٌ عام بالترابط والتضامن بين أعضائها.  

 أما الفجوة الجيلية فتشير بشكلٍ عام إلى التباين بين الأشخاص المنتمين إلى جيلين مختلفين فيما يتعلق بالأفكار أو الآراء والقيم والتوجهات المرتبطة بمختلف الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية؛ وبشكلٍ أكثر تحديداً، تتعلق الفجوة الجيلية بالاختلافات في السلوكيات والمعتقدات والميول بين أعضاء الأجيال الشابة، مقابل الأجيال الأكبر سناً([2]).

 ويمكن القول إن مفهوم الفجوة الجيلية يتأسس على ثلاثة افتراضات رئيسة هي:

أ. أن المجتمعات تنقسم بالضرورة إلى أجيال، استناداً إلى العمر البيولوجي، والخبرات المشتركة التي تطبع كل جيلٍ بسماته الخاصة التي تميزه عن الأجيال الأخرى.

ب. لكل جيلٍ تعريفٌ للذات ووعيٌ جمعي بأن له هويةً خاصة تميزه عن الآخرين، وتُكسبه نوعاً من التضامن بين أعضائه في مقابل الآخر.

ج. أن انتماء الشخص إلى الأجيال الأصغر سناً يعني أن تكون توجهاته واهتماماته وأنماطُ سلوكه مختلفةً كثيراً عن توجهات الأجيال الأكبر واهتماماتها وأنماطِ سلوكها.

 وترتبط نشأة الفجوة بين الأجيال في الغالب بطبيعة انتقال القيم الثقافية من الأجيال القديمة إلى الأجيال الجديدة. حيث تنتقل الثقافة من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق من خلال عملية التنشئة الاجتماعية. لكن بعض العوامل، مثل التغيير الاجتماعي المتسارع، والأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى، وتأثيرات وسائل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات، قد تؤثر بشدة على عملية التنشئة الاجتماعية بحيث لا يتم نقل النَسق الثقافي من جيل الكبار إلى الجيل التالي بشكلٍ كاملٍ ودقيق؛ ونتيجةً لهذا يحدث الاختلاف في القيم والأفكار والتوجهات والمعايير وأنماطِ السلوك بين الأجيال المختلفة، وتنشأ الفجوة بينها.

 كما ترتبط الفجوة بين الأجيال كذلك بأنماطِ عدم المساواة والصراع في المجتمعات. فمثلما هي الحال في الطبقات الاجتماعية، هناك أجيالٌ مختلفة لها مصالحُ متضاربة، وبينها صراعاتٌ تعود بجذورها إلى عدم المساواة في السُلطة والثروة اللتين يسيطر عليهما الجيل الأكبر سناً، ونتيجةً لهذا، فإن صراع الأجيال ليس ظاهرةً جديدة، بل عاملاً هيكلياً اجتماعياً يعود إلى قرونٍ مضت، ويستند إلى الصراع بين الصغار والكبار في مختلف مجالات المجتمع؛ وبناءً على هذا النهج، يتم بناء الجيل كوحدةٍ اجتماعية من قِبل الجيل القديم من أجل الحفاظ على تفوقه ومصالحه. مع الأخذ في الاعتبار أن جميع الفئات العمرية التي تندرج تحت جيلٍ واحد ليس لها بالضرورة مصالح متشابهة، لأنها تنتمي إلى فئاتٍ اجتماعيةٍ مختلفة([3]).

 ومن حيث العلاقة بين الأجيال هناك ثلاثة أنواعٍ من المجتمعات. الأول: المجتمعات التي يتَّبع فيها الجيلُ الجديد الجيلَ السابق بشكلٍ تام، وتنتقل ثقافة الأجيال السابقة أو ثقافة الأسلاف دون تغييرٍ كبير إلى الجيل التالي. والثاني: المجتمعات التي تتعرض لتحولاتٍ اجتماعية بحيث تتغير على نحوٍ يصبح معه نمطُ حياة الجيل السابق غير مناسبٍ للجيل اللاحق، وبحيث يبدو الجيلان وكأنهما يعيشان في حياتين مختلفتين، ويحدث نقل ثقافة الجيل السابق إلى الجيل اللاحق بقصورٍ شديد، لذلك يَعتبر أفرادُ الجيل الجديد الأقرانَ الآخرين من جيلِهم كنموذجٍ ثقافي، ولا يحدث هذا الموقف فقط عن طريق تحديث المجتمعات أو تحولها إلى نمط التصنيع، بل يحدث أيضاً في ظروفٍ مثل الهجرة من الريف إلى المدن، أو حدوث ثورةٍ اجتماعية أو التحول إلى عقيدةٍ جديدة. والثالث: المجتمعات التي تحدث فيها تغييرات هائلة بحيث يضطر جيلُ الكبار لتعديل قيمِه وقواعِده القديمة وفقًا لثقافة الجيل الجديد، وفي الوقت نفسه لا يكون لدى الجيل الجديد أيضاً نموذجٌ ثقافيٌ محدد، ويتحتم عليه إدارة حياته في ظروفٍ غامضةٍ ومحفوفةٍ بالمخاطر([4]).

 ويمكن القول إن إيران، شأنها شأن العديد من الدول النامية التي تعرضت لتطوراتٍ متلاحقة في إطار تحولها من مجتمعاتٍ تقليدية إلى مجتمعاتٍ حديثة، تندرج في إطار النوع الثاني. حيث شهدت إيران تغييراتٍ كبيرة وسريعة في قِيمها وهياكِلها السياسية والاجتماعية، على نحوٍ أحدث انفصالاً كبيراً وفجوةً متنامية بين الأجيال الأكبر سناً والأجيال الشابة.

2. مفهوم الهوية

 بشكلٍ عام تُعَرَّف الهوية بأنها وصفُ أو تعريفُ الوجود والانتماء([5])؛ وتُعد الهوية بمثابة تصورٍ أو إدراكٍ للأنا من خلال الآخر، فهي عاملٌ ديناميكي لفهم الأشخاص لأنفسهم وللآخرين، وهي نتيجةٌ للتوافقات والخلافات. حيث تكتسب جميع المجتمعات هوياتِها من خلال آلياتِ مناقَضة الآخرين المنافسين أو الخصوم (بمعنى التباين أو الاختلاف عنهم)، في مقابل الإحساس بالتماثل والتضامن مع الموالين داخل تلك المجتمعات. لهذا فإن أحد المكونات المحورية للهوية السياسية هو التمييز بين الذات والآخر. إذ تُصنِّفُ الهوية السياسية الناسَ والأُممَ وفقًا لاتجاهاتِهم السياسية أو انتماءاتهم أو خصومهم، والأهم من هذا أنها تُقسِّم الناسَ بين «نحن» و«هم»، أو ترسم الحدودَ بين الأنا والآخر([6]).

 وللهوية مستوياتٌ ومضامينُ متعددة، فردية واجتماعية أو جمعية ووطنية ومدنية. فالهوية الفردية هي بمثابة تعبيرٍ عن الشخص، وكيفية تعريفه لذاته، ومن أين يستمد إحساسه بالانتماء (إلى مجموعة معينة)؛ وهي هويةٌ متغيرة وليست جامدة، ويمكن التأثير فيها والتلاعُب بها من خلال عمليات التفاعل الاجتماعي. فهي إذاً مرنة وقابلة للتغيير والتعديل([7])، وتتقاطع الهوية الفردية مع الهوية الاجتماعية، التي تعبر عن ذلك الجزء من مفهوم الذات لدى الفرد والذي ينبع من معرفته بانتمائه إلى مجموعةٍ اجتماعية (أو مجموعات)، مع إدراك القيمة أو الأهمية العاطفية المرتبطةِ بالعضوية في هذه المجموعة([8]).

 أما الهوية الوطنية فهي الشعور بالانتماء إلى أمةٍ أو دولةٍ أو كيانٍ جيو-سياسي؛ وتتأسسُ في الغالب على الأصل أو اللغة المشتركة أو التاريخ أو الانتماء العرقي([9])، وهي ذاتُ طابعٍ سياسيٍ بالأساس، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بعملية بناء الأمة والدولة.

 والهوية المدنية هي شكلٌ من أشكال الهوية، في إطاره تكون العضوية في كيانٍ جيو-سياسي، غير مقيدة بالعِرق أو الثقافة، وبدلًا من هذا تقوم تِلك العضوية على مجموعةٍ من القِيم المشتركة حول الحقوق وشرعية مؤسسات الدولة للحكم؛ وهي الشرعية التي تُستمَد من مشاركة المواطنين في العديد من المؤسسات السياسية والجمعيات التطوعية والنقابات وما إلى ذلك([10]).

 ويمكن تصنيف الهويات، ولا سيما الهويات السياسية، إلى نوعين: هوياتٌ نخبوية: وهي هوياتٌ هشّة، تتبنّاها نُخبٌ تمثل قطاعاتٍ مجتمعيةً صغيرة، نتيجةً لكون الواقع السياسي والاجتماعي لا يُؤسِّس لهذه الهويات ولا يُساعد على وجودها وانتشارها. وهوياتٌ عامة: وهي هوياتٌ واسعة الانتشار بين مختلف الطبقات والشرائح، وذلك لكونها هوياتٍ أكثر واقعية يُمليها الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي على المنتمين إليها، ويمكن تقسيم الهويات السياسية أيضاً إلى: هوياتٍ ترتبط بالإطار الوطني أو القومي، وتُعدُ أكثر قرباً إلى الواقع. وهوياتٍ أمُمية: وهي أقربُ إلى كونها متخيلًة وغير عملية، وهو ما يبقيها في إطار الشعارات([11]).

 وإجمالاً، تتحرك الهوية في إطار ثلاثة مستويات أو دوائر متداخلة ذات مركزٍ واحد، فردية وجمعوية ووطنية، وتتحدد العلاقة بين هذه المستويات وفقاً لنوعِ «الآخر» الذي تواجهُه: فالفرد داخل الجماعة الواحدة، طائفةً كانت أو جماعةً مدنية، هو عبارةٌ عن هويةٍ مميزةٍ ومستقلة، أو «أنا» لها «آخر» داخل الجماعة نفسها. والجماعات داخل الأمة، هي كالأفراد داخل الجماعة الواحدة، لكلٍ منها ما يميزها داخل الهوية الثقافية المشتركة، ولكل منها «أنا» خاصة بها، و«آخر» من خلاله تتعرفُ على نفسها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأمة الواحدة إزاء الأمم الأخرى. غير أنها أكثر تجريداً، وأوسع نطاقاً، وأكثر قابليةً للتنوع والاختلاف. والعلاقة بين هذه المستويات ليست ثابتة، حيث تتغير حسب الظروف وأنواع الصراع واللا صراع، والتضامن واللا تضامن، التي تحركها المصالح الفردية والجمعوية والوطنية أو القومية([12]).

 وتكتسب الهوية أهميةً كبيرة في المجال السياسي، حيث تُستخدَم الهوية السياسية من أجل توحيد أفراد المجتمع، من خلال إرساءِ الأساس للشعور العام بالتضامن والتلاحُم داخل كيانٍ إقليميٍ معين. كما أن تحديد الكيان السياسي أو المجتمعي لهويته يتأسس عليه تحديدُ توجُّهاته وأهدافه وبرامجه السياسية، إذ إن التوافق حول هويةٍ موحدة يُمَكِّنُ الأشخاص، سواء ًكانوا حكاماً أو محكومين، نخبةً أو جماهير، من تحديدِ ومواءمة مواقفهم وتوجهاتهم إزاء واقع المجتمع وقضاياه وأهدافه ومصالحه العامة، على نحوٍ يَحولُ دونَ حدوث التوترات المجتمعية العنيفة، ويعزز الاستقرار.

ثانياً: نظرة عامة على البنية الجيلية للمجتمع الإيراني

 يمكن استيضاح البنية الجيلية للمجتمع الإيراني، ولا سيما في بُعدها المتعلق بالعمر البيولوجي، من خلال هيكل الهرم السكاني الذي يشير إلى الأحجام النسبية للفئات الرئيسة لأعمار السكان، ويبين ما إذا كان المجتمع شاباً أو هرِماً، وفي هذا الإطار يتَّسم الهرم السكاني في إيران (كما يتَّضح من الشكل رقم 1) بأنه مُتَّسِعٌ عند المنتصف، ما يعني أن حجم الفئات العمرية الشابة كبيرٌ نسبياً. كما أن قاعدة الهرم متوسطة الحجم، أي أن هناك نسبةً متوسطة من الفئات العمرية الأصغر سناً (الأطفال والمراهقين). في مقابل الصغر النسبي لقمة الهرم، والذي يعني أن حجم الفئات الأكبر سناً صغيرٌ بالمقارنة مع الفئات العمرية الشابة والصغيرة. وهو ما يشير إلى أن المجتمع الإيراني مجتمعٌ شاب. حيث يتَّضح من إجمال نِسَبِ الفئات الشابة والصغيرة (المبينة على نحوٍ تفصيلي في الشكل رقم 1) أن نسبةَ السكان دونَ سن الأربعين تبلغ 66%، وأن نسبةَ من هم في المراحل العمرية ما بين 15 و39 عاماً تبلغ 41.2%.

شـكل رقـم 1: هيـكل الهــرم السـكاني في إيـران (عـدد الســكان: 83.992.953 العـام 2020م)

Source: PopulationPyramid.net Population Pyramids of the World from 1950 to 2100, Iran (Islamic Republic of) 2020, https://bit.ly/2Xs5b0X

أما من حيث البُعد المتعلق بالظروف الاجتماعية والتجارب والخبرات التاريخية لكل جيل، فتنقسم أجيال المجتمع الإيراني الموجودة حالياً إلى ثلاث مجموعات رئيسة، لكلٍ منها خصوصيتُها فيما يتعلق بظروف التنشئة الاجتماعية، والخبرات التاريخية، والتوجهات، والوعي العام، والأنماطِ السلوكية.

 تضم المجموعة الأولى الأشخاصَ الذين وُلِدوا خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وقد عاش هؤلاء الأشخاص فترات التنشئة الاجتماعية في مرحلة الحكم الملكي، والتي اتسمت في الغالب بالتوتر وبالمناخ السياسي السلطوي. مما يعني أن أفكارهم وتوجهاتهم قد تأثرت بالظروف التي سادت في هذه المرحلة، وهم يمثلون جيلَ ما قبل الثورة، وهو الجيل الذي خطَّط للثورة وقادها، وتضم المجموعة الثانية أولئك الذين ولدوا خلال الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، وقد عاشوا سنواتهم الأولى في وقت الثورة، وشاركوا بشكلٍ أو بآخر في هذه الثورة، كما شاركَ هذا الجيل فيما بعد في الحرب بين إيران والعراق (1980م-1988م)؛ ولهذا يُعد هذا الجيل جيلَ الثورة والحرب. أما المجموعة الثالثة فتشمل أولئك الذين ولدوا خلال الفترة من أواخر السبعينات وحتى التسعينات من القرن الماضي ومطلع الألفية الحالية، وقد عاش هذا الجيل ونشأ اجتماعياً في ظل الثورة، لكنه تعرَّض في الوقت ذاته لتأثير الثقافات العالمية في ظل انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات([13]).

 وتمثل المجموعة الأولى والمجموعة الثانية أجيالَ الكبار، وتتشابه هاتان المجموعتان إلى حدٍ كبير في ظروف التنشئة الاجتماعية والخبرات التاريخية، حيث عايش أعضاؤهما أحداثَ الثورة وما تلاها من وقائع وخبراتٍ تاريخية، الأمر الذي يعني أن المنتمين إلى هاتين المجموعتين يتشاركون، بشكلٍ عام ومع استثناءاتٍ قليلة، نفسَ التوجهات والأفكار والوعي العام، كما يتشابهون إلى حدٍ معقول في أنماطِ السلوك المحافظة في الغالب. أما المجموعة الثالثة فتمثِّل أجيالَ الشباب، والتي من الملاحظ أنه على الرغم من أن المنتمين إليها وُلِدوا ونشأوا اجتماعياً في ظل الأنظمة الاجتماعية والسياسية للثورة، فإن أفكارهم وتوجهاتهم وأنماطَ سلوكِهم متحررة في الغالب، وتتشابه في معظمها مع توجهات وأنماطِ سلوك أقرانِهم من الشباب العادي في بقية دول العالم، لا سيما في الدول الغربية؛ وبالتالي لا تشترك قطاعاتٌ واسعة من أجيالِ الشباب الإيراني مع أجيالِ الكبار في الوعي الجمعي نفسه، ولا في الأفكار والتوجهات وأنماطِ السلوك. هذا التباين الواضح بين أجيال الكبار والأجيال الشابة يُعدُ مؤشراً على أن ثمةَ فجوةً كبيرة بينهما.

ثالثاً: أسباب ومظاهر الفجوة بين الأجيال في إيران

 تتمثَّل أهم أسباب الفجوة بين الأجيال بالمجتمع الإيراني في: التغييرات الاجتماعية والسياسية الكبيرة والمتسارعة التي شهدتها الساحة الإيرانية خلال القرن الماضي، وتعرُض الأجيال المختلفة لخبراٍت وظروفٍ اجتماعية واقتصادية وسياسية شديدةِ التباين، وإخفاق النُخبة الحاكمة التقليدية في استيعاب الأجيال الجديدة في إطار هويةٍ موحَدةٍ وجامعة.

1. التغييرات الاجتماعية والسياسية المتسارعة

 شهدت إيران، على مدى القرن الماضي، سلسلةً من التغييرات الاجتماعية والسياسية الحادة، والتي حدثت على نحوٍ أقربَ إلى الطفرات أو الانقطاعات التاريخية، وترتبت عليها تحولاتٌ جذريةٌ وشاملة، وكان لها انعكاساتُها القوية على مختلف جوانب الحياة في إيران، لا سيما على العلاقة بين الأجيال، ومن بين هذه التغييرات تكتسب عملية تحديث الدولة، وثورة العام 1979م أهميةً بارزة.

 فمن ناحية، جَرت عملية التَحضُّر وتحديث الدولة الإيرانية بسرعةٍ كبيرة خلال العقود الأخيرة في إطار تحولِ المجتمع الإيراني من مجتمعٍ تقليدي إلى مجتمعٍ حديث، وترَتَّب على هذا تزايُد عدد المدن وتطورها ونمو أحجامها، مما جعل النسبة الأكبر من سكان البلاد مستقرين في المدن أو المناطق الحضرية، بينما كان معظمُهم يعيشون في المناطق الريفية في الماضي، وقد أدى التحضُّر والتحديث، والأبعادُ الاقتصادية والاجتماعية المختلفة المرتبطة بهما، إلى تزايُد تقسيم العمل في المجتمع، والفصل النسبي بين المؤسسات المختلفة مثل مؤسسات التعليم والمؤسسات الاقتصادية، وقد نجَمَ عن هذا تنامي دور المؤسسات التعليمية كمؤسساتٍ للتنشئة الاجتماعية، وتطوُر التعليم العالي، على نحوٍ أتاح لكثيرٍ من الشباب مستوياتٍ علميةً مرتفعة لم تكُن متاحةً لآبائهم؛ ونتيجةً لهذا أصبح نَسَقُ القيم للأجيال الجديدة مختلفاً عن الجيل السابق، ما ساهم في حدوث الفجوة بين أجيالِ الكبار والأجيالِ الجديدة([14]).

 ومن ناحيةٍ أخرى، مثَّلت الثورة العام 1979م وما أعقبها من تفاعلاتٍ ووقائعَ معقدة، كالحرب الإيرانية – العراقية، ظاهرةً استثنائيةً فارقة، وتجربةً جماعية للمجتمع الإيراني شاركت فيها جميع الفئات وتأثرت بها، وقد أحدثت هذه الظاهرة بعض الذكريات الجماعية والأفكار والمواقف الفريدة لأولئك الذين كانوا في مرحلة التنشئة الاجتماعية في تلك الفترة، وأدت التغييرات الأساسية التي حدثت في إطار الثورة إلى تحولٍ أو بالأحرى انفصالٍ تاريخي في المجتمع. حيث غُيِّرت فجأةً جميع المبادئ والأنظمة القائمة في الدولة. وهكذا، فإن الجيل الذي عايش هذه الثورة اختلفَ عن الأجيالِ السابقة في القواعد والقيم، ومع انخراط إيران في الحرب بعد الثورة بفترةٍ وجيزة، كانت هذه الحرب حدثاً كبيراً وواسعَ النِطاق أنتَجَ تأثيراتٍ اجتماعية غيرَ مسبوقة، وخلَقَ جيلاً مختلفاً بقيمٍ وقواعد جديدة، وبعد أن مرّت إيران بتجارب الثورة والحرب، بدأت فترةٌ جديدة بظروفٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ مختلفة، وتَشكَّلَ فيها جيلٌ جديد بأسلوبٍ مختلف، وقيمٍ وأعرافٍ وتوجهاتٍ مختلفة([15]).

 هذه التغييرات والأحداث الاجتماعية والسياسية المتسارعة ساهمت في الحيلولة دونَ انتقال نَسَقِ القيم الثقافية والسياسية من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة بشكلٍ طبيعيٍ وتدريجيٍ ومستقر، حيث أدَّت التغييرات التي حدثت على شكلِ طفراتٍ مفاجئة إلى اختلاف القيم التي اكتسبها كل جيلٍ في فترة تنشئته الاجتماعية، ما أفضى إلى اختلاف الوعي الجمعي لكل جيل، وتبايُن أفكاره وتوجهاته.

2. تعرُّض الأجيال المختلفة لخبرات وظروف عامة شديدة التباين

  من الطبيعي أن تتباين الخبرات التاريخية والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بالأجيال المختلفة بتباين المراحل التاريخية التي تمر بها المجتمعات في مسيرة نموها وتطورها، وطالما بقيت درجةُ التباين في الخبرات التاريخية والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مستوياتٍ معقولة تظلُّ الاختلافات بين الأجيال في حدودٍ طبيعية لا تصل في الغالب إلى درجة التنافر والصراع والفجوة الجيلية. لكنَّ الوضع في حالة إيران بخلاف ذلك. حيث تعرَّضت الأجيال المختلفة لخبراتٍ تاريخية وظروفٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ شديدةِ التباين على نحوٍ أحدَثَ نوعاً من الانفِصام بين هذه الأجيال.

 فبالنسبة إلى أجيال الكبار، فقد عاشت المجموعة الأولى منهم، والتي تسمى بجيل ما قبل الثورة، في ظلِّ ظروفٍ سياسية اتسمت بمناخٍ سُلطويٍ ضاغط (نظام الحُكم البهلوي)؛ وفيما يتعلق بالظروف الاقتصادية، فقد نشأ المنتمون إلى هذه المجموعة في الفترات التي تلت مرحلة التحديث الأوَّلي لإيران (في عهد محمد رضا بهلوي)، وقد شهِدَ هذا الجيل في مراحل عُمره الأولى فتراتٍ من الرفاهية الاقتصادية على مدى ما يقربُ من عقدٍ من الزمن (1961م-1968م)، وهذا يعني أن خبرتهم المشتركة ومعتقداتهم وأفكارَهم قد تأثرت بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي سادت في هذه المرحلة([16]).

 ويمكن القول إن الظروف العامة التي نشأ فيها هذا الجيل، والتي اتسمت بالطابع التسلُّطي القمعِي، المترافق مع إجراءات التغريب وخطوات العصرنة المتسارعة، التي كان الهدف منها إحداث قطيعةٍ شبه كاملة مع قِيم المجتمع الإيراني التقليدية ذات الصِبغة الإسلامية الشيعية، قد أثَّرت على توجهات هذا الجيل، وأدت إلى اتخاذ قطاعاتٍ واسعة منه لرد فعلٍ مضاد تمثَّل بالانخراط في الثورة الإيرانية العام 1979م، والتي كانت بمثابة خبرة تاريخية فارقة لهذا الجيل والجيل الذي يليه مباشرةً.

 وبالنسبة إلى المجموعة الثانية من أجيال الكبار، والتي تسمى بجيل الثورة والحرب، فقد عايش أفرادُها أحداثَ الثورة، كما عاصروا فيما بعد الحرب بين إيران والعراق؛ وبالطبع فإن كثيراً من الجنود الذين شاركوا في القتال كانوا من المنتمين إلى هذا الجيل الذي تأثر وعيُه الجمعِي كثيراً بهذه الحرب. كما بذل هذا الجيلُ جهوداً كبيرة خلال السنوات الأولى من الثورة والحرب، وقام بتصميم وتنفيذ الثقافة الثورية الجديدة بالتعاون مع الجيل السابق([17]).

 وقد عايشت المجموعتان السابقتان اللتان تُمثلان أجيالَ الكبار الصراعَ العنيف الذي أعقَب الثورةَ الإيرانية العام 1979م بين أجنحة هذه الثورة من الإسلاميين والليبراليين واليساريين، وحتى على مستوى معسكر الإسلاميين أنفسهم، وهو الصراع الذي استمر لسنوات، وأدى إلى مقتل كثيرٍ من قيادات الثورة. وبالطبع كان لهذا الصراعُ الدامي انعكاساتُه القوية على توجهات أجيال الكبار ووعيها الجمعي([18]).

 وإجمالاً، تشابهت خبراتُ المجموعتين السابقتين إلى حدٍ كبير، ولهذا يتشارك أفرادُهما في الغالب نفس الأفكار والتوجهات، وذلك في مقابل الاختلاف الشاسِع مع المجموعة الثالثة التي تمثِّل جيلَ الشباب، على نحوٍ يبدو معه الطرفان وكأنهما ينتميان إلى عالمين مختلفين.

 فقد نشأ جيلُ الشباب في جوٍ ثُنائي القطب. فمن ناحية، يمكن اعتبارُه ينتمي إلى الثورة، حيث نشأ في ظلِّ تعليم وتدريب منظماتِ ومؤسساتِ الثورة الإسلامية، وقضى كل فترة التنشئة الاجتماعية في وقت ما بعد الثورة، وفي الوقت نفسه ليس لديه خبرة بأحداث هذه الثورة ومشكلات الحرب التي تلتها. إذ يمكن القول إن هذا الجيل كان مرتبطاً فقط بوعود الثورة الإيرانية وذكريات الحرب. ومن ناحيةٍ أخرى، تعرَّض هذا الجيل لتأثير الثقافات العالمية والغربية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وأصبحَ على علاقةٍ وثيقة بالنظام العالمي([19]). وفي الوقت ذاته عايشَ هذا الجيل الظروفَ الاقتصادية والاجتماعية الصعبة المترافقة مع استمرار انغلاق النظام السياسي، ما أفقده القناعة بشعارات الثورة وقيمها التي يحملُها جيلُ الكبار المُهيمن على السلطة، والذي لا يزال مصراً على تنفيذ هذه الشعارات وعلى التمسك بهذه القيم.

وفي هذا الإطار، فإن التغييرات التقنية السريعة في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، والتي أتاحت لجيل الشباب الوصولَ الواسع إلى الإمكانات والوسائط الإعلامية الحديثة مِثل الإنترنت والأقمار الصناعية، قد وضعت هذا الجيل في ظروفٍ مختلفة عن الجيل السابق. إذ أثرت بشدة على عملية التنشئة الاجتماعية، وساهمت في تشكيل نَسَقِ قيم الأجيال الجديدة على نحوٍ مختلف عن نَسَقِ قِيم أجيال الكبار؛ وفي هذا السياق أشارت بعض التقارير إلى أن 72.8% من الأُسر الإيرانية لديها اتصالٌ بالإنترنت، أي ما يمثل 69.7% من السكان([20])، وأن 40% من مستخدمي الإنترنت الإيرانيين تشمل الفئة العمرية من 20 إلى 29 عاماً، وتشمل 30% الفئةَ العمرية من 30 إلى 44 عاماً، وتشمل 10% الفئة العمرية ما بين 10 و19 عاماً([21]). كما تزايَد استخدام أجهزة استقبال القنوات الفضائية الخارجية بشكلٍ كبير في جميع المدن الإيرانية، وتضاعَفَت أعدادُ هذه الأجهزة رغم الحظر الرسمي لها([22]).

 هذا الانفتاح الإعلامي والتقني الذي خبرته الأجيال الجديدة في ظلِّ تطور وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، مقابل الانغلاق الثقافي الذي عاشته الأجيال القديمة في ظلِّ الإعلام الرسمي الأُحادي الموجه والتلقين الأيديولوجي الثوري المكثف، نجم عنه اتجاه القطاعات الأوسع من أجيال الشباب إلى تبنّي نموذجٍ ثقافيٍ مختلف كثيراً عن النموذج الثقافي السائد لدى أجيال الكبار. مما أدى إلى تزايد الفجوة بين الطرفين.

3. إخفاق النُخبة الحاكمة باستيعاب الأجيال الجديدة في إطار هوية جامعة

 في مرحلة ما قبل الثورة، سعى نظام الحكم البهلوي إلى إحياء التقاليد الفارسية القديمة، في محاولةٍ لبناء وفرض هويةٍ قوميةٍ إيرانية أكثرَ قرباً من النمطِ العلماني الغربي، وأكثر انفصالًا عن تُراث إيران الإسلامي الشيعي. حيث جرى التنكُّر للقيم والأفكار الإسلامية، مع التركيز على تفوق الحضارة الفارسية وعلى التمسك بالتراث الفارسي لفترة ما قبل الإسلام([23])، وقد ساهمت هذه التوجهات في تفاقُم الانقسامات حولَ طبيعة الهوية الإيرانية، كما ترتَّبت عليها ردودُ فعلٍ عكسية من قِبل قطاعاتٍ شعبيةٍ واسعة، وكانت من بين أهم أسبابِ اندلاع الثورة العام 1979م.

 وبعد الثورة، ومع قيام نظام حُكمٍ جديد ذي صبغةٍ إسلامية، اتَّضح أن قدومَ هذا النظام لم يؤدِ إلى تهدئة الانقسامات المتعلقة بالهوية الإيرانية، بل على العكس فاقمَ التصدعات القائمة. حيث إن الأمل في أن تعمل الهوية الإسلامية -التي صاغها قادةُ النظام الجديد- كقوةٍ مُوحِدة لكل الإيرانيين قد خاب على نطاقٍ واسع، وانعكس هذا في الجدالات القوية حول الحُكم الدينـي في مقابل العلمانية، وحقوق الجماعات العرقية في مقابلِ الحقوق الفردية، والتنازُع على معنـى الحداثة بالنسبة إلى إيران وشعوبها([24]).

 فقد عملت الحكومة الثورية الإسلامية على محوِ كلِّ مظاهر القومية العلمانية، وسعى النظام الجديد إلى إحلالِ الهوية الإسلامية ذاتِ الصِبغة المذهبية الشيعية، باعتبارها أساسَ الهوية الإيرانية (وفقاً لتصورات النظام وتوجهاته)، محلَ الهوية القومية. مع التأكيد على مفهوم الأُمة باعتباره النقيضَ التام للقومية، واعتبار أن المقاربة القومية غير الإسلامية للمجتمع والحُكم التـي تبنّاها النظامُ البهلوي تمثِّل رِدةً عن الإسلام؛ ومع ذلك جرى لاحقاً توظيف الاعتبارات القومية الفارسية أو إتاحة المجال لها بهدف ملء ثغرات الهوية الإسلامية الشيعية، أو خدمةً لأهداف النظام، على غِرار ما جرى في مرحلة الحرب الإيرانية – العراقية من تبنّي شكلٍ مُعدلٍ من القومية بغرضِ توحيد الإيرانيين خلفَ النظام في هذا الصراع، وقد استمر النظام في حشدِ الجماهير وراء أيديولوجيته الجديدة. لكنَّ دولةَ ما بعد الثورة شهِدت، بسبب طابعها القمعِي، إحباطاً متزايداً فيما يخصُ أفكارها وهويتها، وبالتالي تعرَّضت الأفكار الإسلامية للنظام الحالي للتحدي المتزايد من قِبل فئاتٍ مجتمعيةٍ مختلفة، وخاصةً من الشباب، حيث انجذبت هذه الفئات إلى الماضـي القومي القديم الذي أصبح مصدرَ المشاعر غير الإسلامية والمعادية للنُخبة الحاكمة المتمثلة في رجال الدين([25]).

 لقد وقعت النُخبة الحاكمة التي تنتمي إلى الجيل القديم في نفس خطأ نظامِ الحُكم البهلوي بتبنِّيها مقاربةً فوقية لإنشاء الهوية، من خلال سعيها لفرض أفكارها وتصوراتها عن طبيعة هذه الهوية على كامل المجتمع، الأمر الذي أحدثَ ردَّ فعلٍ مضاد من قِبل قطاعاتٍ مجتمعية ليست بالقليلة، وخاصةً من جيل الشباب، تمثَّل في تبنّي هويةٍ مُغايرة لهوية النُخبة الحاكمة، ما فاقَمَ من الفجوة بين الأجيال.

 فقد عملت النُخبة الحاكمة، في إطار سياساتها ومساعيها لأسلمة الدولة والمجتمع، على تشكيلِ الوعي الجمعي على نحوٍ يتوافق مع تصوّراتها للهوية الإيرانية، وذلك من خلال العمل على قولبة هوية المجتمع وثقافته العامة عبرَ ما يُعرف بـ«الثورة الثقافية»، والتعليم المؤدلج، وتسخير المؤسسات الدينية للترويج للتوجهات الرسمية، واحتكار السيطرةِ على وسائل الإعلام كافة، والتحكُّم الصارم في مضامين الإنتاج الثقافي والإعلامي. ما أدى إلى أثرٍ عكسي تمثَّل في نفور قطاعاتٍ واسعة، خاصةً من أجيال الشباب، من الثقافة الرسمية، وظهورِ توجهاتٍ ثقافية مُغايرة لهذه الثقافة الرسمية التي تبثُّها مؤسسات الدولة بشكلٍ مكثفٍ ومُتواصل، وتتبنَّاها النُخبة الحاكمة المُنتمية إلى جيل الكبار.

 إجمالاً، أدَّت الأسباب السابقة إلى تشكيل وعي الأجيال الإيرانية بطرقٍ وأوجهٍ متباينة، الأمر الذي أفضى إلى حدوث فجوةٍ جيليةٍ متنامية بين أجيال الكبار وأجيال الشباب، أي على المستوى المجتمعي الرأسي. مع الأخذِ في الاعتبار أن ثمةَ فجوةً جيلية على المستوى الأفقي أيضاً، أي على مستوى كل جيل على حِدَة، وإن كانت أقل وضوحاً وتأثيراً، وهي ناتجةٌ عن عدم اشتراك جميع الفئات العمرية التي تنتمي إلى الجيل نفسه في القِيم والأفكار والتوجهات نفسها. حيث إن الأجيال القديمة تعرَّضت لمؤثرات عهد الشاه وعهد الثورة، وتأثرت بمختلف التوجهات الإسلامية والقومية والعلمانية والليبرالية واليسارية التي تنازعت خلال هذين العهدين؛ ولهذا، رغم غَلَبة التوجهات الإسلامية الثورية على هذا الجيل، فإن ثمة قطاعات محدودة مِنه ذات توجهاتٍ مغايرة. كما أن الأجيال الشابة تلقَّت مؤثراتِ مؤسساتِ الثورة الإيرانية وتلقينها الأيديولوجي، وتعرَّضت لمؤثراتِ ثورةِ تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات؛ ولهذا، وإنْ كانت القطاعات الأوسع من هذه الأجيال ذات توجهاتٍ حداثيةٍ تحررية، إلَّا أن ثمة فئاتٍ أُخرى منها، وإن كانت محدودةً نسبياً، ذات توجهاتٍ محافظة.

 أما مظاهر الفجوة الجيلية في إيران، فهي تتمثّل في التباين الواضح في القِيم بين أجيال الكبار والأجيال الشابة. حيث تشير بعض الدراسات إلى أن أجيال الشباب الإيراني تُولي مزيداً من الاهتمام لقيمة التحفيز الذي يعني الرغبة في التغيير والابتكار واكتساب خبراتٍ مختلفة وتجربة بيئاتٍ جديدة، والاستمتاع بالحياة. كما تُولي هذه الأجيال أيضاً اهتماماً متزايداً لقيمة التوجيه الذاتي الذي يعني تحديد الأهداف والاستقلالية في اتخاذ القرارات، ويدلُ تزايُد الميل نحوَ التوجيه الذاتي والتحفيز على أن الشباب أكثر استعداداً لإجراء التغيير في أنفسهم أو على المستوى الشخصي، وفي المجتمع أو على المستوى العام، وفي المقابل تميلُ أجيالُ الكبار إلى عدم التغيير، وتُولي اهتماماً متزايداً لقِيم الامتثال أو الطاعة والتقاليد والأمان الاجتماعي، وهي تُعد مؤشراتٍ للميول المحافظة([26]).

  كما تَظهَرُ الفجوة الجيلية أيضاً في التباين الحاد بين أجيال الكبار والأجيال الشابة في أنماطِ السلوك. حيث يتضح أن الأجيال الأصغر سناً أقل اهتماماً بالقواعد والسلوكيات الدينية من أجيال الكبار([27]). وفي هذا الإطار تُشير بعضُ التقارير إلى تنامي النزعة اللا دينية، وانتشار ظاهرة الإعراض عن الدين أو الإلحاد في أوساطِ الشباب الإيراني؛ وذلك كرد فعلٍ من قِبل بعض قطاعاتِ أجيال الشباب على إساءة استخدام السُلطات الحاكمة للدين في مختلف جوانب الحياة اليومية. حيث دفَعَ النموذج الإسلامي الذي صاغه النظام وتروج له مؤسساتُ الدولة كثيراً من الإيرانيين إلى الإعراض عن الدين([28])، وعلى الرغم من أن ثمةَ رأياً يذهب إلى أن هذه القطاعات من الشباب الإيراني لا ترفض الدين في حدِّ ذاته بل ترفض التحكم المفرط من قِبل النخبة الحاكمة في مختلف جوانب حياتهم باسم الدين، فإن تنامي ظاهرة الإلحاد في أوساط بعض قطاعات الشباب يُعد مؤشراً واضحاً على مدى عُمق الفجوة بين أجيال الكبار التي تتسمُ بالميول المحافظة وتولي اهتماماً ملموساً للاعتبارات والسلوكيات الدينية في الغالب، وأجيال الشباب التي تبدو قطاعاتٌ واسعةٌ منها أقلَّ اهتماماً بهذه الاعتبارات والسلوكيات.

 وكذلك تتمظهرُ الفجوة الجيلية بوضوح في التباين الكبير بين أجيال الكبار وأجيال الشباب في التوجهات، وخاصةً التوجهات السياسية. فبينما تميل أجيال الكبار في الغالب إلى احترام السُلطة القائمة والإذعان لها، تميل القطاعاتُ الأوسع من الأجيال الشابة إلى الاستهانة بهذه السُلطة وعدم الامتثال لها، كما تميل إلى الاهتمام بالإصلاح السياسي والديمقراطية والتعددية وحرية الرأي والتعبير، وهو ما يتضحُ من ممارسة قطاعاتِ الشباب دوراً مهماً في انتخاب رجل الدين الإصلاحي، محمد خاتمي، رئيساً عام 1997م، ومشاركتهم في تظاهرات جامعة طهران العام 1999م. كما يتضح أيضاً من انضمام كثيرٍ من الشباب إلى «الحركة الخضراء» الإصلاحية، التي عارضت التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية العام 2009م، وكذلك مشاركتهم في الاحتجاجات الشعبية أواخر العام 2017م، وأوائل العام 2018م، والتي بدأت لأسبابٍ اقتصاديةٍ واجتماعية، وتحوَّلت إلى المطالبة بتغيير النظام السياسي، وأيضاً مشاركتهم في احتجاجات نوفمبر 2019م.

رابعاً: انعكاسات الفجوة بين الأجيال على هوية المجتمع والدولة

على مدى القرن الماضي، واجهت إيران العديدَ من الأحداث الكبرى التي استدعت تشكيل أو إعادة تشكيل هويتها باستخدام مصادرَ متعددةِ الأبعاد من أجل بناءِ هويةٍ وطنية؛ وقد حاولت هذه الهوية مبدئياً إنشاء الصِلات بين الثُنائيات المتباعدة والمثيرة للجدل، والتي تتمثَّل في الاعتبارات الإسلامية والاعتبارات القومية، وتراث ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام، والموالاة للغرب ومناهضة الإمبريالية، وقد تعايشت مكونات الهوية الإيرانية الثلاثة (القومية، والإسلاموية، ومعاداة الإمبريالية) المعبرة عن الثُنائيات السابقة، في تمازجٍ أو توافقٍ أحياناً، وفي تنافسٍ أحياناً أُخرى. لكن بشكلٍ عام شهِدَ التاريخُ الإيراني الحديث زيادةً مطردة في التنازع بين هذه المكونات، على نحوٍ أحدثَ ارتباكاً في الهوية الوطنية الإيرانية. وعقِب حدوث الثورة العام 1979م تزايَد هذا الارتباك([29])، ومع تنامي الفجوة بين جيل الكبار الذي قام بالثورة وأمسك بزمام السُلطة، وأجيال الشباب المهمّشة في الغالب، أُضيف مزيدٌ من التعقيد لهذا الارتباك.

  فقد أدت الفجوة بين الأجيال إلى إحداث فجوةٍ بين هوية الدولة وهوية قطاعاتٍ واسِعة من المجتمع، حيث أفضى التباين الحاد في القيم والتوجهات والأفكار بين أجيال الشباب وأجيال الكبار التي تنتمي إليها النُخبة الحاكمة، إلى ثُنائيةٍ أو ازدواجيةٍ في الهوية، ما بين هويةٍ أيديولوجية ذاتِ صِبغةٍ إسلاميةٍ أُممية يتبناها النظام الحاكم وبعض الفئات، سواء من المقتنعين بتوجهات هذا النظام وشعاراته وقِيمه، أو المنتفعين منه. في مقابل هويةٍ حداثية قومية ذات صبغةٍ علمانية تتبنّاها قطاعاتٌ مجتمعيةٌ واسعة، وخاصةً من الأجيال الشابة، سواء كان تبني هذه الهوية المغايرة عن اقتناعٍ بمكوناتِها وقِيمها وأفكارِها، أو كان بمثابة نوعٍ من التعبير عن الرفض أو المخالفة للنُخبة الحاكمة، التي أدَّت خيبةُ الأمل في أدائها السياسي إلى فقدان كثيرٍ من الشباب الثقةَ بالشعارات والقيم التي تحملُها، كما أدَّت إلى رفضهم الهوية التي تتبنَّاها.

 وبهذا ساهمت الفجوةٌ المتنامية بين الأجيال في استمرارية حالة التنافس أو التنازع بين الثُنائيات التي تتضمنها الهوية الإيرانية، من خلال نشوء بُعدٍ جديد لهذه الثُنائيات، وهو البُعد الناجم عن الثنائية الجيلية القيمية (جيل الثورة بقِيمه الأيديولوجية المحافظة، في مقابل جيلِ ما بعد الثورة بقِيمه الحداثية المتحررة)، وهي الثُنائية التي انبثقت منها ثُنائية هوية الثورة في مقابل هوية ما بعد الثورة. فمن ناحية، ثمةَ هوية الثورة، والتي هي بمثابة الهوية الرسمية للدولة، وهي تحتل الواجهة السطحية، إذ تمثّلها المؤسساتُ والهياكل الحكومية التي تحمل سِمَت الثورة الإيرانية وشعاراتها ومبادئها، وتُعبرُ هذه الهوية بالأساس عن توجهات أجيال الكبار لا سيما عن توجهات النُخبة الحاكمة، ولهذا فهي هويةٌ ذاتُ طابعٍ نخبوي في الغالب، حيث صاغتها الطبقة الحاكمة على نحوٍ يضمن استمراريةَ حُكمها ويعزز سيطرتها على مختلف جوانب المجتمع، كما أقامتها على أُسسٍ واعتباراتٍ سياسية أيديولوجية تفتقر إلى القبول على نطاقٍ واسع، وفرضتها بأسلوبٍ فوقي تحكُمي يُغفل تنوعَ عناصر الهوية الواقعية للمجتمع، ومن ناحيةٍ أخرى، ثمة هوية ما بعد الثورة، والتي تُعد بمثابة هوية المجتمع أو بالأحرى القطاعات الأوسع من المجتمع، لا سيما القطاعات الشبابية التي تشعر بحالةٍ من الاغتراب إزاءِ السُلطة الحاكمة والمؤسسات الرسمية، وهي هويةٌ ذات طابعٍ عام، حيث إنها واسِعة الانتشار بين مختلف الشرائح والطبقات العليا والمتوسطة والدنيا، كما أنها أكثر تعبيراً عن الواقع الاجتماعي والثقافي للمنتمين إليها؛ وتحتل هذه الهوية، رغم القيود السُلطوية، حيزاً كبيراً في المجال المجتمعي العام بجانبه الواقعي المتمثِّل في الجامعات والمدارس والشوارع وأماكن الترفيه والتجمع، وجانبه الافتراضي المتمثِّل في شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.

 هذا الازدواج في الهوية يتَّضح من خلال العديد من المظاهر، والتي من أهمها التعبئة والتعبئة المضادة من قِبل المنتمين إلى الهويتين المتنازعتين. حيث تعمل النُخبة الحاكمة الممثِلةِ لهويةِ الثورة أو الهوية الأيديولوجية الإسلامية الأُممية، على حشدِ الدعم لهذه الهوية بتكثيف التلقين الأيديولوجي من خلال محتوى المناهج التعليمية ووسائل الإعلام الرسمية وغيرها من المؤسسات والهياكل الحكومية، فضلًا عن تظاهراتِ ومسيراتِ الذكرى السنوية لانتصار الثورة. وفي المقابل كثيراً ما تُعبِّر القطاعات الممثِلةُ لهوية ما بعد الثورة أو الهوية ذات الصِبغة القومية الحداثية العلمانية عن نفسها من خلال التعبئة السياسية المضادة التي تتمثَّل في الاضطرابات والاحتجاجات العديدة التي شهدتها إيران خلال الأعوام الماضية، والتي غالباً ما كانت تحمل شعاراتٍ مفادُها رفض الفئات المشارِكة فيها للنظام القائم باعتباره لا يمثِّلها أو لا يُعبِّر عن هويتها، مِثل اضطرابات جامعة طهران عام 1999م، والتظاهرات الرافضة لنتائج الانتخابات الرئاسية العام 2009م، والاحتجاجات الشعبية أواخر العام 2017م وأوائل العام 2018م، واحتجاجات نوفمبر 2019م؛ والتي كان يتبعُها في الغالب تسيير الفئات المتبنية للنهج الأيديولوجي المحافظ لتظاهراتٍ مضادة مُؤيدة للنظام.

 والمظهر الآخر المُعبِّر عن ازدواجية الهوية أو ثُنائيتها هو التعبير العلني عن التوجهات الثقافية والاجتماعية المعادية للتقاليد القائمة على مبادئ الثورة الإيرانية وقِيمها، من خلال تبنّي بعض القطاعات المجتمعية، وخاصةً من فئات الشباب، توجهاتٍ قومية أو علمانية مُتعارضة مع التوجهات الرسمية المحافظة، ومن الأمثلة الدالة في هذا الإطار، ظاهرةُ الاحتشاد لإحياء ذكرى بعض الشخصيات الفارسية التاريخية، كالملك كورش، مع ترديد شعاراتٍ قومية أو شعاراتٍ مناهضة للنظام الحاكم([30]). وكذلك التجمع للاحتفال ببعض المناسبات ذات الجذور الفارسية القديمة مثل «أربعاء النار»([31])، وظاهرة ما يُعرف بالزواج التقليدي الفارسي، والتي تتمثَّل في رغبة بعض الشباب بإقامة مراسم زواجهم وفقَ التقاليد الفارسية القديمة ومن دون النصوص الدينية، وخصوصاً تِلك التي تُتلى وتُكتب باللغة العربية([32])، وأيضاً ظاهرةُ ما يُسمى بـ«الزواج الأبيض»، وهو علاقةٌ زوجية تستندُ إلى اتفاقٍ ثُنائي بين الرجل والمرأة من دونِ أي عقدِ زواجٍ مكتوبٍ أو عُرفي، على غِرار نمطِ العلاقات السائد في الدول الغربية([33])؛ وذلك بالإضافة إلى إظهار بعض الشباب أنماطَ معيشتهم المتحررة والمتمردة على القِيم الإيرانية المحافظة، والمشابهة لنمطِ الحياة في الغرب، وهو ما يتضح من خلال العديد من المجموعات على بعض مواقع التواصل الاجتماعي([34]).

 هذه الظواهر وإن كان بعضها محدوداً، وإن كان مُعظمها ذا طابعٍ اجتماعي بالأساس، إلَّا أنها لا تخلو من الدلالةِ ولا من المضمونِ السياسي. حيث تُعبِّر عن التناقُض الصارخ بين الهوية الرسمية للدولة وهوية بعض فئات المجتمع.

 بيدَ أنَّ المظهرَ الأبرَز للازدواجية أو عدمِ الاتِّساق بين هوية الدولة وهوية المجتمع في إيران هو الاختلاف حولَ طبيعة الأهداف والمصالح الوطنية العامة. حيثُ من المُفترض أن يكون تحديد هذه الأهداف والمصالح بمثابة نِتاجٍ للتوافق العام حولَ هويةٍ موحَدة للكيان الجيوسياسي، وهو ما لا يتوافر في الحالة الإيرانية. فمن ناحية، تنزع النُخبة الحاكمة، التي تنتمي إلى جيل الكبار والتي تُعبِّر عن الهوية الرسمية للدولة، إلى تبنّي أهدافٍ عابرةٍ للحدود الوطنية، وذاتِ طابعٍ عدائي في الغالب، ومرتبطة ببناء النفوذ في الجوار الإقليمي من خلال دعمِ الجماعات الموالية للنظام الإيراني في الخارج، مع التركيز على الهواجس الأمنية والتصارُع مع الخُصوم الخارجيين والداخليين سواءً كانوا حقيقيين أو وهميين.

 وفي المقابل تميلُ غالبية أجيال الشباب، والتي تُعبِّر عن هوية القِطاع الأوسع من المجتمع، إلى التركيز على الأهداف والقضايا الداخلية بالأساس؛ وفي هذا الإطار ينصبُ اهتمامُ أجيال الشباب على مجموعةٍ من الأهداف والمطالب من أهمها: الإصلاحُ السياسي، وتوسيعُ هامِش الحرية والمشاركة السياسية، وممارسةُ دورٍ أكبرَ في مختلف جوانب المجتمع وفي تحديد مصير بلدهم، وتحقيقُ العدالة والازدهار على المستوى الوطني، وتحسينُ الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وتوفيرُ فُرص العمل، والارتقاءُ بمستوى المعيشة، مع الرغبةِ في التفاعُل مع العالم والثقافات المختلفة، بمعنى إقامة علاقاتٍ إيجابية وتعاونية مع العالم الخارجي والاندماج معه([35]).

خلاصة  

 إن تناولَ موضوعَ الفجوةِ المُتنامية بين الأجيال وانعِكاساتِه على هوية المجتمع والدولة يُثيرُ التساؤلَ عن المسارات التي سوفَ تنتهِجُها الهوية الإيرانية على المديين المتوسط والبعيد. هل ستستمرُّ حالةُ الثُنائية التي اتَّسمت بها هذه الهوية على مدى العقودِ الطويلةِ الماضية، أم ستتمكَّنُ إحدى الهويتين المُتنازعتين مِن تنحيةِ الأُخرى تماماً، أم ستزولُ حالةُ الازدواجيةِ والتنازُع بين الهويتين لتحلَّ محلَّهما هويةٌ توافقية تستوعبُ جميعَ فئات الدولة والمجتمع؟ وتكمُن الإجابة على هذا التساؤلِ في أنَّ القِيم الفردية والاجتماعية التي تتأسسُ عليها الهويات لا تختفي أو تزولُ بسهولةٍ في الغالب، كما أنه يصعُب أنَّ تتمكَّن قيمةٌ فرديةٌ أو اجتماعية من تنحِية قيمةٍ أُخرى بشكلٍ تام لتحلَّ محلَّها. إلَّا أنَّ الهوية شأنُها شأنُ الظواهرِ الإنسانية كافة غيرُ جامدة، حيثُ إنها قابلةٌ للتغيير والتطور سواءٌ من خلال التحوّلات البطيئة والتراكُمية عبرَ فتراتٍ زمنيةٍ طويلة، أو من خلال الطفرات الاستثنائية في حالةِ الأحداث التاريخية الفارِقة والتحولات السياسية والاجتماعية الكبيرة، وإنْ كان هذا التغييرُ لا يتمُ فجأةً أو بين ليلةٍ وضُحاها، بل يجري في الغالب على نحوٍ تدريجيٍ ومُستقرٍ نسبياً، وهو قَد يحدثُ على نطاقٍ واسع عندما تحلُّ الأجيالُ الأصغر، بقيمِها وتوجهاتِها الجديدة، محلَّ الأجيالِ الأكبرِ سناً في المجتمع؛ وبناءً على هذا، على الأرجحِ لن تشهَدَ طبيعةُ هوية الدولةِ والمجتمعِ في إيران تغييراتٍ جذرية في القريبِ العاجل، بل ستستمرُّ حالةُ الثُنائية والتنازُع بين التوجهاتِ الثورية الأيديولوجية ذاتِ الصِبغة الإسلامية والتوجهاتِ القومِية الحداثية ذاتِ الصِبغة العلمانية في إطارِ الهوية الإيرانية، سواءٌ على المدى القصير أو المتوسط.

 لكن على المدى الطويل من المُحتمل أنْ تشهدَ الهويةُ الإيرانية بعضَ التغييرات نتيجةً لضغوطِ الأجيالِ الجديدة، وحِراكِها الاجتماعي والسياسي المستمر، هذه الضغوط قَد تُسهِم في إعادةِ تشكيل هياكلِ القوى القديمة في النظام السياسي، على نحوٍ يُفضي إلى حصولِ الأجيالِ الشابة على تمثيلٍ سياسيٍ أفضل يعكسُ رغباتِ هذه الأجيال وتوجُّهاتِها، ما يؤدي بالتالي إلى تغييراتٍ وتطوراتٍ في الهوية الإيرانية عبرَ اتخاذِها شكلاً توافقياً وأكثرَ استيعابيةً تتعايشُ في إطارِه بعضُ القِيم والأفكارِ الحداثية والقومية إلى جانب القِيم الإسلامية المُحافظة التي قَد يتناقصُ نُفوذُها، لكن لن تتم تنحِيتُها تماماً أو اختزالُ تأثيرها على المجتمع والدولة في أضيقِ الحدود، ومن المُحتمل أنْ تُسهمَ تِلك التطورات في تقليلِ التوتراتِ بين الرؤيتين الإسلامية والقومية للهوية الوطنية الإيرانية، كما ستُؤدي إلى التقليلِ من حدةِ التوجُّهات الرادِيكالية للنُخب الحاكِمة.


[1] Nicholas Abercrombie & Stephen Hill, The Penguin Dictionary of sociology, (London: Penguin Books, fourth edition, 2000), p. 150.

[2] Will Kenton, Generation Gap, Investopedia, (August 21, 2019), accessed on: 1 Apr 2020. https://bit.ly/2VkXWp3

[3] Mohammad Hossein Panahi, «Intergenerational Conflicts in Iran: Myth or Reality?», Cultural Encounters, Conflicts, and Resolutions, (Cleveland: Cleveland State University, Vol. 1, No. 1, 2014), pp. 6-7.

[4] Margaret Mead, Culture and Commitment: The New Relationships between the Generations in the 1970s, (New York: Anchor Books, 1978), pp. 13-19.

[5] Hüsamettin İnaç & Feyzullah Ünal, «The Construction of National Identity in Modern Times: Theoretical Perspective», International Journal of Humanities and Social Science, (New York: Center for Promoting Ideas (CPI) Vol. 3, No. 11, June 2013), p. 224.

[6] Alam Saleh, Ethnic Identity and the State in Iran, (New York: Palgrave Macmillan, 2013), pp. 49-50.

[7] Ibid, p. 49.

[8] Henri Tajfel, Differentiation between social groups: Studies in intergroup relations, (London: Academic Press, 1978), P. 63.

[9] Richard R. Verdugo & Andrew Milne (eds.), National Identity: Theory and Research, (Charlotte, North Carolina: Information Age Publishing, 2016), pp. 2-4.

[10] Ibid., p. 5.

-[11] خالد بشير، مفهوم الهوية السياسية: ما الذي يبرر انتماءك لهوية ما؟، مصر العربية، (31 يوليو 2015م)، تاريخ الاطلاع: 02 أبريل 2020م.  https://bit.ly/3b3z7o7

[12] محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية: عشر أطروحات، مجلة حكمة، (14 نوفمبر 2015م)، تاريخ الاطلاع: 02 أبريل 2020م. https://bit.ly/34wHGoU

[13] Reihaneh Tamizifar & Mahdi Tamizifar, «Changes in Values and Its Relationship with subjective Welfare (Case Study of Three Generations in Iran)», PEOPLE: International Journal of Social Science, (Malviya Nagar: Global Research & Development Services Publishing, Vol. 3. No. 3, February 2018), pp. 1526-1527.

[14] Habibollah Karimian & Mehrdad Navabakhsh, «ICT and Urban Family Generation Gap in Iran», International Journal of Social Sciences, (London: The International Institute of Social and Economic Sciences, Vol.6, No.2, 2016), p. 5.

[15] Reihaneh Tamizifar & Mahdi Tamizifar, Changes in Values and Its Relationship with subjective Welfare. p. 1532.

[16] Ibid., p. 1526.

[17] Ibid., pp. 1526-1527.

[18] لمزيد من التفاصيل حول ملابسات هذا الصراع، راجع: فهمي هويدي، إيران من الداخل، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الرابعة، 1991م)، ص 183-196.

[19] Reihaneh Tamizifar & Mahdi Tamizifar, Changes in Values and Its Relationship with subjective Welfare, p. 1527.

[20] Some 64% of Iranians are internet users: report, Tehran Times, January 11, 2019, accessed on: 5 Apr 2020. https://bit.ly/3ehcvmj

[21] Habibollah Karimian & Mehrdad Navabakhsh, ICT and Urban Family Generation Gap in Iran», p. 7.

[22] Ibid., p. 10.

[23] Alam Saleh, Ethnic Identity and the State in Iran, (New York: Palgrave Macmillan, 2013), pp. 53-54.

[24] علم صالح وجيمس وارل، بين دارا والخميني: استكشاف إشكالية الهوية القومية في إيران، (ترجمة: محمد العربي)، (الأسكندرية: مكتبة الأسكندرية، وحدة الدراسات المستقبلية، 2016م)، ص 16.

[25] المرجع نفسه، ص ص 35- 42.

[26] Reihaneh Tamizifar & Mahdi Tamizifar, Changes in Values and Its Relationship with subjective Welfare, pp. 1533-1534.

[27] Mohammad Hossein Panahi, «Intergenerational Conflicts in Iran: Myth or Reality?»,  pp. 12-14.

[28] Ali Sadrzadeh, Turning away from Shia in Iran ”A Tsunami of Atheism”, Qantara.de, (7 Feb 2013), accessed on: 4 June 2020, https://cutt.us/DvahQ

[29]Alam Saleh, Ethnic Identity and the State in Iran, pp. 55-56.

[30] BBC عربي، آلاف الإيرانيين يتحدون السلطات ويشاركون في إحياء «يوم كورش»، (29 أكتوبر 2016م)، تاريخ الاطلاع: 04 أبريل 2020م. https://bbc.in/2V2WY1D

[31] آیدا قجر، چهارشنبه‌سوری از کجا می‌آید؟، BBC فارسي، (24 اسفند 1395 – 14 مارس 2017م)، تاريخ الاطلاع: 02 أبريل 2020م. https://bbc.in/2UZtMbQ

[32] الزواج التقليدي الفارسي.. ظاهرة هامشية ترفض القيود الدينية؟، دويتشه فيله (DW)، (03 سبتمبر 2019م)، تاريخ الاطلاع: 02 أبريل 2020م. https://bit.ly/3a91gZW

[33] ازدواج سفید در ایران و پیامدهای آن، (09 أبريل 2019م)، پژواک جامعه، تاريخ الاطلاع: 02 أبريل 2020م. https://bit.ly/2Rul4QE

[34] CNN بالعربية، «أبناء طهران الأثرياء»..تمرد على القيم الاجتماعية أم مجرد استعراض للحياة الفاخرة؟، (16 نوفمبر 2014م)، تاريخ الاطلاع: 02 أبريل 2020م. https://cnn.it/3c8Fp6b

[35] لمزيد من التفاصيل حول مطالب أجيال الشباب في إيران، راجع: عليرضا محمدى، انقلاب نسل ها: انقلاب اسلامی ومواجهه با نسل سوم، پرتال جامع علوم انسانی، تاريخ الاطلاع: 02 يونيو 2020م، https://cutt.us/a5cv0

د. محمد حسن القاضي
د. محمد حسن القاضي
باحث في الشؤون الإيرانية والإقليمية