إيران وبايدن ومستقبل الميليشيات في العراق

https://rasanah-iiis.org/?p=23229

بواسطةفاروق يوسف

لطالما خُيّل إلى إيران أن حربها المحتمَلة مع الولايات المتحدة ستقع في العراق، لذلك فإنها هيَّأت نفسها لتلك الحرب عن طريق توسيع قاعدة ميليشياتها التي يتخطّى وجودها المباشر المؤسسة العسكرية التي يمثّلها «الحشد الشعبي». فـ «الحشد الشعبي» تغلغل في الدولة العراقية حتى صار جزءًا منها، وهو لا يحتاج بعد ذلك إلى بطاقة تعريف. أما الميليشيات الصغيرة التي صارت تلتحق بالحشد من غير أن تحظى بقبول الدولة العراقية فإنها أكثر من أن تُحصَى.  

وإذا ما كان الحديث يتصاعد عن حشد العتبات المقدسة أو حشد المرجعية الذي صار ينافس «الحشد الشعبي» في ولائه المذهبي، فإن ذلك الحشد لا يقترب من الدولة على صعيد التمويل. لذلك فإنه لا يدخل في تنافس معه إلا على مستوى القرب من مرجعية النجف. وهو ما لا يمكن أن يشكّل خطرًا إلا في حدود ضيقة. ولأن الدولة صارت حذرة من الاقتراب من فصائل «الحشد الشعبي» الرسمية بعد الصدام الذي كاد ينشب بين الطرفين بسبب اعتقال الدولة عددًا من منتسبي كتائب «حزب الله» وإطلاق سراحهم لاحقًا، فإن صمت «الحشد الشعبي» عن اعتقال الأجهزة الحكومية لأي شخص كان محسوبًا عليه يُعَدّ تحولًا لافتًا في الموقف الإيراني الذي يمكن أن ينتقل من التشدُّد إلى المرونة في ما يتعلّق بالهيمنة على القرار السياسي في العراق.

قبل أشهر كان النظام الإيراني متفائلًا بإمكانية رفع العقوبات إذا ما حدث تغيير في الإدارة الأمريكية يُستبعَد من خلاله الرئيس دونالد ترامب عن سدة الرئاسة، غير أنه اليوم يبدو حذرًا في تفاؤله بعد أن حُسم الموقف في واشنطن لصالح جو بايدن الذي بدا مترددًا في مسألة العودة إلى الاتفاق النووي بصيغته السابقة.

 من خلال خبرته السابقة نائبًا لرئيس الولايات المتحدة، يعرف بايدن أنَّ إيران قد مُنحت إمكانية التوسع والتمدد في العراق، وقد كانت تلك الخطوة لخدمة غرضٍ أمريكيٍّ بأن تمنح الولايات المتحدة فرصةً في تغيير جيو-سياسة منطقة الشرق الأوسط؛ ولكن أشياء كثيرة تبدلت؛ فلم تعد الحال كما كانت أيام فترة الرئيس باراك أوباما، وذلك بأن أصبحت إيران تقود ميليشياتها بالوكالة ليس في العراق وحدها وإنَّما في سوريا ولبنان واليمن. أما إيران فتحلم بأن يهب لها بايدن فرصة تتمثَّل، في هذا الإطار، في أنَّ الولايات المتحدة راهنت من قبل على تفوقها العسكري، ولكن عقب انسحابها من العراق وأفغانستان، وعدم ورود احتمالٍ لشنها حربًا أخرى في الشرق الأوسط، عدَّت إيران ذلك فرصةً لها، ولكن بايدن ذكر أنَّ لديه طرقه الخاصة لمواجهة أي تهديدٍ للمصالحِ الأمريكية.

أصبحت إيران تشكّل خطرًا على المصالح الأمريكية في المنطقة، إضافةً إلى بروز العامل الإسرائيلي، إذ لدى الإسرائيليين وجهة نظر في ما يجري من حولهم لا تتطابق كليًا مع وجهة النظر الأمريكية، ولكن ذلك لا يمنع من تبادل الأدوار بمراعاة كل طرف لمصالح الآخر.

وهذا ما يجسّده موقف الطرفين من الميليشيات في العراق، سواء تلك التي تُعتبر رسمية، وهي المنضوية تحت لواء «الحشد الشعبي»، أو تلك التي ترتبط مباشرة بإيران من غير أن تمرّ بقنوات الدولة العراقية. فمن المؤكَّد أن جزءًا من الهدنة الأمريكية-الإيرانية في العراق يقوم على اتخاذ الجانب الأمريكي موقف الحياد من نشاط الميليشيات تحاشيًا لاستفزازها ودفعها إلى إزعاج المواقع التي تمثّل الحضور الأمريكي رمزيًّا، كالسفارة ومحيطها والقواعد العسكرية التي تتقاسمها القوات العراقية والأمريكية، تلك المواقع التي سبق وتَعرَّضت للقصف.

أما الإسرائيليون فإنهم غير مُلزَمين بخطوط حمراء إذا قرّروا أن يمارسوا عملياتهم الغامضة داخل العمق الإيراني من غير أن يستثنوا العراق.

بناءً على ذلك يمكن اعتبار العراق نقطة تماسٍّ حسَّاسةً بين إيران من جهة، ومن جهة أخرى الولايات المتحدة وإسرائيل، من غير أن يشكّل الطرف الثاني جبهة واحدة. وإذا ما سلمنا بأن العامل الإسرائيلي لا يمكن ضبطه داخل منطقة إيقاع واحدة يمكن التحكُّم في مداخلها ومخارجها، فإن الولايات المتحدة كانت مضطرة على الدوام إلى اتخاذ موقف الحذر من أجل استبعاد العراق من أن يكون ساحة حرب محتمَلة بينها وبين إيران، وهو واحد من أهمّ أهداف الهيمنة الإيرانية عليه.  

لقد سعت إدارة الرئيس دونالد ترامب لإضعاف تلك الهيمنة من خلال إرخاء القبضة الإيرانية، غير أن مسعاها جاء متأخرًا. فظهور ميليشيا جديدة في العراق لم يكُن في حاجة إلى أوامر إيرانية، لا على مستوى التنظيم ولا على مستوى الدعم والإسناد.  فالحماية المضمونة التي كرّسها وجود «الحشد الشعبي» شجّعَت كثيرًا من العاطلين عن العمل على أن ينظّموا أنفسهم في مجاميع، تتخذ كل واحدة منها اسمًا طائفيًّا أو يوحي بالانتماء الطائفي. لم يكن التسلُّح ليشكّل مشكلة في بلد هو عبارة عن مِشجَب سلاح، أما مسألة التمويل فإن عمليات التسليب كانت كفيلة بذلك في ظلّ خوف الأجهزة الأمنية من الصدام مع كل ما يمكن أن يشير إلى الحشد من قريب أو بعيد.

وهكذا يكون عصر ترامب قد شهد انتشارًا غير مسبوق للميليشيات في العراق، وكلها تتسابق في إظهار ولائها لإيران بطريقة أو بأخرى، وهو ما كان يضيّق الخناق على الدور الهامشي الذي تلعبه الدولة في السيطرة على الوضع الأمني. فلم يكن في إمكان الأجهزة الحكومية أن تتحرك إلا في وجود إشارة واضحة من الحشد تنصّ على التخلي عن هذا الطرف المسلح أو ذاك. وهي أطراف تكون عادةً وقعت في خطأ تَناقُض المصالح مع الحشد من خلال المبالغة في الحصول على المغانم. في ظل تلك الفوضى كانت إيران مطمئنّة إلى أن شيئًا مما خططت له الإدارة الأمريكية على مستوى إضعاف وجودها إقليميًّا لن يتحقق ما دام كل شيء قد بلغ أقصاه، إذ حلّت الفوضى محلّ النظام ولم يعُد في إمكان الدولة أن تستعيد هيبتها على أسس صحيحة.

كل ذلك نتج عن الإهمال الذي مارسته الإدارة الأمريكية أيام الرئيس أوباما. لقد جرى التخلِّي عن العراق يومها بحيث صار الموقف في العراق محسومًا لإيران، وهو ما يدفعها اليوم إلى أن تشعر بأن أي ثمن تدفعه في انتظار مجيء بايدن لن تكون كلفته عالية مقابل ما تتوقعه من أرباح.

غير أن كل التوقعات لا تذهب في الاتجاه الذي يتمناه الإيرانيون، فبايدن لن يكون في كل الأحوال أوباما ثانيًا، كما أن الرؤية الأمريكية لمسألة العراق تغيرت بحضور العامل الإسرائيلي.

ولكن المشكلة تبقى قائمة في العراق ما دامت العسكرة تسود الحياة مستظلة بمظلة طائفية، لن يكون التخلص منها يسيرًا إلا إذا وضعت الولايات المتحدة برنامجًا حكوميًّا قويًّا ينجو بالدولة القائمة في العراق من هيمنة «الحشد الشعبي» عليها.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

فاروق يوسف
فاروق يوسف
كاتب وباحث عراقي