الكاظمي والميليشيات.. موازنات في سياق الحراك السياسي العراقي

https://rasanah-iiis.org/?p=22680

بواسطةفاروق يوسف

  عند تعيينه في 07 مايو 2020م حرص رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي على زيارة مقرِّ الحشد الشعبي، وهي الزيارة التي كانت مثار اختلافٍ بين العراقيين، فبينما عدَّها البعض زيارةً ودية، أثارت استياء البعض الآخر خصوصًا ارتداء الكاظمي لزيّ الحشد الشعبي الذي مثَّل استفزازًا لرغبةٍ شعبيةٍ متصاعدةٍ في الخلاص من التمثيلِ الطائفي المسلَّح.

  أخذت تلك الزيارة أبعادًا أوسع بالنظر إلى توقيتها، وارتباطها بما يعيشه العراق، وجاءت كمحاولةٍ من رئيس الوزراء العراقي لتجسير الثقة مع جهةٍ لا تثق به وهو الذي عاجلها في خطابه الأول بعد تسلمه منصبه بقوله: «إنَّ الأسلحة يجب أن تكون في أيدي الحكومة فحسب»، في إشارةٍ إلى أنَّ الأهداف الأساسية لحكومته تتمثَّل في محاربةِ الفساد وإعادة النازحين إلى ديارهم. ولأنَّ رئيس الوزراء العراقي من وجهةِ نظر الميليشيات هو غطاءٌ لمرحلةٍ انتقاليةٍ تمهِّد لانتخاباتٍ سيكون من شأنها إعادة انتاج النظام؛ فقد صرَّحت الميليشيا بعدم قبولها به. ومن ضمن التصريحات ما جاء في مطالبةِ زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي من الكاظمي بأن لا يتدخَّل في قضايا لا تعنيه، وهو يقصد تحديدًا مسألتي التصدي للفسادِ ومحاولة الإصلاح.

 وفي المقابل، فإنَّ الكاظمي لا يغيب عنه أنَّه غير مقبول من الأحزاب والميليشيات، على الرغم من عدم ظهور اعتراضٍ من جانب إيران على تعيينه. ولا يمكن أن يُقرأ ذلك على أنَّه قبولٌ إيرانيٌّ كاملٌ به، إذ إنَّه وجِّهت إليه تهمة المشاركة في مقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، من أجل الإيحاء، بأسلوبٍ مختلفٍ، بأنَّه رجل الولايات المتحدة في العراق. وفي نفس السياق، لعب تسنّمه منصب رئيس المخابرات السابق دورًا في إحاطته بهالة الاطلاع على خفايا كثيرة، يعتقد البعض أنَّها أهلته لهذا المنصب بناءً على جلوسه على منجم معلومات، غير أنَّها من ناحيةٍ أخرى قد تبدو غير مجدية، نظرًا للإطلاع عليها من جانب الولايات المتحدة، وإذا ما قرَّرت الميليشيات أن تشنَّ حرب شوارع ضد حكومته. ويبدو هذا الاحتمال وشيكًا في حال فشلت إيران في الوصول إلى تسويةٍ ولو جزئيةٍ من خلال التفاوض مع الولايات المتحدة بما يحفظ ماء وجهها، ويمكن أن يفضي إلى إنهاء العقوبات الاقتصادية أو على الأقل تعليق جزءٍ منها، خصوصًا أنَّ خيارات إيران لم تعد كثيرةً بالفعل.

  وفي الوقت الذي تتخذ فيه إيران مسارها المعتاد  باللعب على حافة الهاوية؛ تتخذ الميليشيات قرارها بالاستمرار في إزعاج الولايات المتحدة من خلال توجيه صواريخ إلى مناطق قريبة من السفارة الأمريكية وقواعد قوات الحلفاء أملًا في أن تؤدي تلك الضربات إلى انفتاحِ الولايات المتحدة على إيران بطريقةٍ قد تؤدي إلى حدوث تفاهماتٍ جانبية بين الطرفين. غير أن القرار المفاجئ الذي اتخذته الولايات المتحدة بنقل سفارتها من بغداد إلى أربيل قلب الطاولة على الجميع. قد يسهِّل هذا القرار عملية إسقاط حكومة الكاظمي الضعيفة حين يُرفع عنها الغطاء العالمي، مما يؤدي إلى سقوط النظام السياسي الهشّ برمته وهو نظامٌ قائم على نوعٍ مراوغٍ من بذل التراضي بين إيران والولايات المتحدة معًا، فإن انقطع الخيط بين الطرفين تهاوى النظام. ولذلك توقفت الميليشيات عن القيامِ بعملياتِ الإزعاج تلك وعادت لاستخدام الخيار «المقاوم» باغتيال الناشطين في المناطق ذات الأغلبيةِ الشيعية والاستمرار في عملياتِ الخطف والتصفيات الجسدية العشوائية بين أبناء المناطق ذات الأغلبية السنية.

  وقد سبق لهذه الميليشيات أن قامت باستعراضاتٍ علنيةٍ لمقاتليها وأسلحتها في الشوارع دون التنسيق مع الحكومة التي لم تعلِّق بشيء، لذلك فإنَّها حين تنفِّذ اغتيالاتها وتصفياتها فإنِّها تدرك أنَّ أحدًا لن يتمكَّن من الاقتراب منها. ويُتوقَّع أن يستمر هذا التأثير الذي أحدثته الميليشيات خصوصًا بعد قيام حزب الله العراقي بالإفراج القسري عن عددٍ من مقاتليه الذين تمَّ اعتقالهم بعد قيامهم باطلاقِ صواريخ في اتجاه المنطقة الخضراء حيث تقع السفارة الأمريكية. وباستنهاض هذه العمليات التي تعجز الأجهزة الأمنية من الإعلان عن مرتكبيها ناهيك عن ملاحقتهم، يبدو الكاظمي عاجزًا عن الوقوف في واجهةِ الصراع لايقافِ دورة العنف المتنامي، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى استياءٍ شعبيٍّ منه مما قد يضعه إلى جانب مَن سبقوه من رؤساء الحكومة الذين انصبَّ عليهم غضب الشباب. غير أنَّ التحول اللافت في هذه القضية هو أنَّ رئيس الحكومة الحالي لا يكرِّر ما كان الرؤساء السابقون للحكومة يحرصون على تأكيده بأنَّ الحشد الشعبي هو جزءٌ من القواتِ المسلحة العراقية التي تأتمر بأوامر القائد العام لها وهو رئيس الحكومة نفسه وِفق ما ينصُّ عليه الدستور العراقي.

 ولم يكن غريبًا أن يفضِّل الكاظمي الصمت في هذه النقطة، دون إشارةٍ إلى رغبته في الإعلان عن قناعته التي تتطابق مع الواقع، ومفادها أنَّ الحشد الشعبي يمثِّل كيانًا مسلَّحًا يعمل خارج نطاق الدولة وهو لا يمتثل لقوانينها. وهذا ما يوصل إلى استنتاجٍ تتقاطع فيه تلك القناعة مع ما تراه الأحزاب والكتل السياسية الشيعية مناسبًا لها بما يضمن مصالحها واستمرارها في الهيمنةِ على الحكم. وعلى الرغم من أنَّ هناك كتلًا تعاني من التهميش كما هو حال تيار «الحكمة» بزعامة عمار الحكيم الذي ليس له ميليشيا، إلَّا أنَّ تلك الكتل لا ترى مصلحةً في الوقوف مع رئيسِ الحكومة في مواجهةِ ميليشيا الحشد الشعبي، لا لشيء إلَّا وِفق رؤيتها بزوال حكومة الكاظمي وبقاء الحشد الشعبي. وهذا ما جعل رئيس الحكومة يقف وحيدًا في سعيه الدؤوب إلى معالجةِ الأزمات المالية دون أن يجروء على مسِّ امتيازاتِ الأحزاب والميليشيات التي تستهلك جزءًا كبيرًا من إيراداتِ الدولة الآخذة في التناقص بسببِ انخفاض أسعار النفط وجائحة «كورونا».            

 قد تفسر هذه الأحداث جانبًا من سوء العلاقة بين الطرفين، غير أنَّ أحدًا منهما لا يرغب في الإعلانِ عن ذلك بانتظار ما ستسفرُ عنه نتائج الانتخابات الأمريكية. وبغضِّ النظر عن ما يمكن أن تؤدي إليه، تبدو النقطة الأكثر أهمية متمثلةً في أنَّ الأمر كله مرتبطٌ برؤية إيران السياسية التي تشكِّل المنطلق النظري الذي تتعامل الأحزاب والميليشيات في العراق من خلاله مع الواقع. وعليه يمكن اعتبار الهدنة التي أبرمتها ميليشيات تابعة لإيران مع الولايات المتحدة هدنةً مع حكومة الكاظمي التي يعتقد كثيرون أنَّها لن يكون بوسعها الاستمرار بالزخم نفسه فيما لو غادر دونالد ترامب البيت الأبيض. ذلك رهانٌ إيرانيٌّ يمكن اعتباره نوعًا من ترحيلِ الأزمات إلى ما بعد نتائج الانتخابات الأمريكية، ومن ضمنها الأزمة العراقية التي تقف شاخصةً في مقدمة تلك الأزمات.

 لا يبدو أنَّ هذه الهدنة عابرة، إذ إنَّها استهوت الكاظمي أيضًا، فبينما كانت الحرب على الفساد مدخلًا واضحًا لحكومته، فقد صار يبطئ الآن من حركته في ما يتعلق بتلك الملفات وما تبعها من محاولاتِ إصلاح ما يمكن إصلاحه من شؤون الدولة. وهو ما يمكن اعتباره هدرًا للوقت نسبةً للحالة التي تعيشها الأحزاب والميليشيات في انتظار صفارة الانطلاق الإيرانية، مما يمكن أن يشكِّل فرصةً لتحقيقِ بعض المكاسب وبالأخصِّ على مستوى استعادةِ الأموال المنهوبة وإعادة ترتيب البيت الداخلي للحكومة.

يواجه الكاظمي ضغطًا آخر من طرف الأحزاب من خلال ممثليها في مجلس النواب نتيجة تبنيه سياسة الاقتراضِ وعدم ترشيد الانفاق الحكومي، إذ لم يوافق المجلس على قانونِ تعدُّد الرواتب للشخصِ الواحد. وتعرَّضت محاولة تمرير قانون الاقتراض الداخلي المتعثِّر إلى ضجةٍ إعلاميةٍ بسبب زيادةِ الانفاق الحكومي. وبعكس كل التوقعات فإنَّ الوضع المالي في العراق يبدو الآن أسوأ بكثيرٍ مما كان عليه من قبل، وهو ما يجعل المختصين على درجةٍ عاليةٍ من التشاؤم مما يدفعهم إلى دقِّ ناقوس الخطر خوفًا من الإفلاس الذي يهدِّد الدولة.

ربما سيكون الحكم صادمًا إذا ما صدَّقنا الواقع الذي يقول: «إنَّ الأحزاب ومن خلفها الميليشيات قد تمكَّنت من تحجيمِ طموحاتِ الكاظمي وحكومته من خلال الضائقة المالية».

ولكن ذلك الحكم لن يكون صحيحًا بالنظرِ إلى خطط رئيس الوزراء الاقتصادية التي لم تُبنَ على أسسٍ صحيحة تستند إلى تخفيضِ الانفاق الحكومي والتقشف ومراجعة القوانين التي يمكن أن تُحجِّم عمليات نهب المال العام.

  على كلٍّ، فإنَّ العراق يعيش الآن تحت ظلِّ الرهان المطروح بإرجاء هذه الملفات إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية. وأيًّا تكن النتائج فإنَّ الحقيقة الثابتة هي أنَّ رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي سيظلُّ في مواجهة الميليشيات، إذا لم يتمكَّن من قياس خطواته بدقةٍ وسط حقلِ موازنات الميليشيات.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

فاروق يوسف
فاروق يوسف
كاتب وباحث عراقي