عاطفة أمريكا غير المبررة تجاه إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=16137

بواسطةكينيث بولاك

سألني مرةً أحد وزراء الخارجية العرب ما سر افتتان الأمريكان بإيران؟ وكأنها حبيبةُ أمريكا السابقة المجنونة، إذ يأخذ الولايات المتحدة دوماً الحنين لإيران رغم الإدراك أنها لا تريد سوى الإضرار بها وأن الحياة بدونها أفضل بكثير. أمّا نحن العرب فكأننا زوجة أمريكا التي تذوق الأمرّين من زوجها وتود أن تكون على وفاقٍ معه ولكن متى ما رمقته تلك الفارسية بنظرة فإنه يتخلى عن زوجته.
والحقيقة أن الآخرين يفهموننا أكثر من فهمنا لأنفسنا أحياناً. إذ يرى عديدٌ من الأمريكيين أن الثورة الإيرانية خلّفت عداءً مستمراً من جانب إيران تجاه الولايات المتحدة. وبالرغم من أن الإيرانيين يسعون جاهدين إلى تبرير هتافهم المعتاد أو ربما العقائدي «الموت لأمريكا» إلا أن تلك الكلمات بالنسبة للأمريكيين ما تزال جارحة. وعندما يتأمل الأمريكيون في السنوات الأربعين التي أعقبت الثورة فإنه يصعب عليهم معرفة السبب وراء استمرار عداء إيران لهم، ويصفه عديدٌ منهم بغير العقلاني وبغير المسؤول بل وبالصبياني. وبالرغم من أن هذا الوصف حقيقي إلا أنّ من الضروري أن ندرك أن ذلك العداء ليس اعتباطياً، ولم يأتِ نتيجةً لسوء فهمٍ أو ضياع فرصٍ بل هادفٌ ومتعمد.
وقد تذبذبَ رؤساء الولايات المتحدة في علاقاتهم بإيران بين الدفء والفتور إلا أنّ معظم الرؤساء الأمريكيين الذين خدموا خلال الأربعين سنة الماضية سعوا إلى تحقيق مصالحة حقيقية معها. وليس لفشلهم المتكرر في ذلك علاقة تذكر بهم بل يرجع السبب إلى حقيقة انعدام الرغبة عند القيادة الإيرانية في المصالحة.
الأمل الأخير والكبير:
تولّى باراك أوباما السلطة واضعًا تحقيق السلام مع إيران نصب عينيه. وقد أبدت إدارته سرًا وجهرًا نيتها منذ البداية في تحقيق التقارب مع إيران وإن كان عصياً، وحاولت الإدارة الأمريكية خلال الانتخابات الرئاسية المزورة في إيران عام 2009 جاهدةً أن تصمت عمّا يحدث لأطول فترةٍ ممكنةٍ اعتقاداً منها أن إصدارَ أي بيانٍ يعرب عن الدعم الأمريكي لملايين الإيرانيين الذين تظاهروا ضد النظام في إيران قد يقضي على محاولتها تحقيق المصالحة معه. وبعد أن تعالت أصوات الأمريكيين الغاضبة في الداخل والخارج إزاء صمت واشنطن جاء انتقاد الإدارة ناعمًا وشكليًّا بل وغير مثمر، غير أن طهران استغلته في إلقاء اللوم على أمريكا إزاء قيام ثورةٍ إيرانيةٍ ثانية.
ولكن أوباما واصل مسعاه، وضاعف جهوده في فترة ولايته الثانية بمساعدةِ وزير خارجيتهِ جون كيري الذي كان يشاطره العزم نفسه، وعندها ظهرت دلائل على وجود استجابةٍ من إيران مثل انتخاب الرئيس حسن روحاني الذي أبدى رغبةً واضحةً في انقاذ اقتصاد إيران بإبرام اتفاقٍ مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي حول برنامج إيران النووي، وبالتالي بدأت المفاوضات التي توّجت في نهاية المطاف بإبرام الاتفاق النووي الإيراني والمتعارف عليه رسمياً بــ «خطة العمل الشاملة المشتركة».
وقد طمح أوباما وكيري أن يمهّد الاتفاق النووي السبيل أمام تحقيق مصالحةٍ أوسع نطاقًا بين البلدين، ولا يمكن تفسير استعداد الرجلين للموافقة على بنود خطة العمل الشاملة المشتركة (التي لم تفرض قيودًا صارمةً على برنامج إيران النووي سوى لــ 10-15 سنة) إلا بأنهما كانا يتوقعان أن يُفضي الاتفاق النووي إلى إبرام تسويةٍ شاملةٍ للصراع الإيراني-الأمريكي وبالتالي يصبح الاتفاق في نهاية المطاف غير ضروري. ومن جهة روحاني فقد رغب أيضًا في ذلك التقارب إلى جانب وزير خارجيته محمد جواد ظريف الذي أقام علاقةً وثيقةً مع كيري وأمِل أن تكون خطة العمل الشاملة المشتركة بدايةً لإفساح المجال أمام تطبيع العلاقات.
إلا أنهم جميعًا شعروا بخيبة أمل، إذ قال كريم سجادبور وهو زميل في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي: «بينما كان يأمل أوباما وكيري وروحاني وظريف بأن تُحدث خطة العمل الشاملة المشتركة تغييرًا في العلاقات قرر خامنئي والتيار المتشدد في إيران أن تظلّ قائمةً على المعاملات فحسب».
وقد كان الاتفاق النووي بسيطــًا يتمثل في تقييد برنامج إيران النووي مقابل رفع العقوبات الأمريكية والدولية عنها فقط. وقبل أن يتولى ترامب السلطة ويُلغي الاتفاق بفترةٍ طويلة أوضح خامنئي أن الاتفاق لن يتجاوز ما هو عليه، إذ لن يسمحَ أن يشكّل الاتفاق نهايةً للصراع الإيراني-الأمريكي.
ولم يتولى رئاسة الولايات المتحدة قط رئيسٌ أكثر رغبة في تحويل إيران من دولة عدوةٍ إلى صديقة من أوباما وقد لا تتكرر هذه الرغبة في أي رئيسٍ بعده، إذ لم يكنّ أوباما أي احترامٍ لحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل وقَفَ إلى صف إيران ضدّهم في النزاعات الإقليمية إلى درجةِ أنّه قال إن على السعوديين أن يتعلموا كيف «يتقاسمون» الجوار في الشرق الأوسط مع إيران، وأبرَمَ خطة العمل الشاملة المشتركة متحديًّا ما واجهه من انتقادٍ سياسيٍ كبير. وقد كان أوباما وعديدٌ من كبار مستشاريه يأملون أن يكون التوصل إلى اتفاقٍ نوويٍ مع إيران بمنزلةِ بابٍ يفتح آفاقاً أخرى نحو تحقيق تقاربٍ أوسع نطاقاً، وكان كيري قد طرَق جميع الأبواب قبل المفاوضات النووية وأثناءها وبعدها في سبيل تحقيق ذلك.
وبالرغم من أن الإيرانيين لم يحظوا برئيسٍ أمريكيّ أكثر استعدادًا من أوباما لتلبية احتياجاتهم واستيعاب مخاوفهم إلا أنهم تجاهلوه، إذ لم يكن خامنئي وباقي رجال الدولة في إيران مهتمين بإقامةِ علاقةٍ أفضل كما كان يريد أوباما وكيري. ولا ينمّ عدم قبول إيران لما قدّمه الرجلان إلا عن إصرار رجال الدولة في إيران ومن يدير دفّة سياستها الخارجية على التعامل مع الولايات المتحدة كعدو بصرف النظر عمّا تفعله الأخيرة وعن السبب.
التأقلم مع الكراهية:
تعج العلاقات الإيرانية-الأمريكية في السنوات الأربعين التي تلت ثورة 1979 بالأخطاء وضياع الفرص والمغالطات، إذ أضرّ الطرفان ببعضهما، ولكلٍ منهما ذريعةٌ تبرر ما قام به ضد الطرف الآخر، إذ يقابلُ كل سياسة أمريكية تهدف إلى الإضرار بإيران مبررٌ أمريكي بإجراءٍ سابق اتخذته إيران بهدف الإضرار بالولايات المتحدة، والعكسُ صحيح.
غير أن ثمّة حقيقةٌ واحدة مهمة وهي أن أربعة ويُقال خمسة من رؤساء الولايات المتحدة السبعة الذين تولّوا الرئاسة بعد الثورة الإيرانية أرادوا إنهاء العداء مع إيران وبذلوا في سبيل ذلك جهودًا حقيقية، بل ودفعوا في معظم الأحيان ثمنًا سياسيًّا باهظًا، وتواجدت الرغبة نفسها عند عديدٍ من الإيرانيين ومن المسؤولين الإيرانيين وثلاثة رؤساء إيرانيين على الأقل بالرغم من أن النظام الإيراني ككل والرجلين اللذين شغلا منصب المرشد الأعلى وهو منصب نظير لمنصب الرئيس في الولايات المتحدة [الخميني وخامنئي] لم يبدوا أدنى رغبة في ذلك، بل باتوا يقطعون الطريق في وجه أي جهودٍ ترمي إلى تحقيق سلامٍ حقيقيٍ بين البلدين.
كما كانت معاداة الولايات المتحدة محل اعتزازٍ عند المرشديْن الإيرانييْن، ولم يكن هذا العداء وسيلةً لتحقيق هدفٍ أوسع بل أساسًا يقوم عليه حكمهم وفلسفتهم، ويخدم أهدافًا معينة، كما أن الرجلين لم يقبلا بإقامة علاقاتٍ أفضل مع الولايات المتحدة وخفض التوترات معها عندما مدّت عدّة إداراتٍ أمريكيةٍ يد المبادرة في سبيل تحقيق ذلك.
ولكن قد تساور قادة إيران يومًا ما الرغبة التي طالما راودت الولايات المتحدة في إقامة علاقاتٍ أفضل رغم أن الأربعين سنة الماضية توحي بأن ذلك الاحتمال محضَ حلم إلا في حال تولّي قادةٌ جدد زمام الأمور في إيران. وحتى ذلك الحين فإن أفضل مسارٍ تتخذه الولايات المتحدة هو أن تبتعد عن الإيرانيين قدر الإمكان وأن تعاملهم كأعداء عندما يتحتّم عليها ذلك، ليس لأن الولايات المتحدة ترغب في معاداة إيران بل لأن قادتها يصرون على تبنّيه بصرف النظر عمّا قد تفعله الولايات المتحدة.

المصدر: معهد بروكينغز الأمريكي


  الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد

كينيث بولاك
كينيث بولاك
خبير الأمن القومي والشؤون العسكرية والخليج العربي وباحث في معهد «أمريكان إنتربرايز»