على الولايات المتحدة أن تتقبل عواقب سياساتها في الشرق الأوسط

https://rasanah-iiis.org/?p=18187

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

تتمتع منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ عام ومنطقة الخليج العربي على وجه الخصوص بموقعٍ جغرافيٍّ وجيوسياسيٍّ حيويٍّ وإستراتيجيٍّ في العالم من جوانب اقتصادية وعسكرية وسياسية ودينية وغير ذلك. هذا الموقع الجغرافي وتاريخ المنطقة على إثر الحضارات المتعاقبة التي شهدتها عبر التاريخ يُعد نقطةً إيجابيةً كبيرةً للمنطقة لكن في الوقت ذاته جعلها وللأسباب ذاتها منطقة صراع على النفوذ والهيمنة والاحتواء.
خلال القرن العشرين شهد العالم صراع القطبين الأوحدين في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وقد نتج عن ذلك التنافس الكثير من الصراعات معظمها دارت رحاها في منطقة الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا. وقد عانت دول وشعوب المنطقة من ذلك لعقود من الزمن وقد انتهى الصراع بانتصارٍ أمريكيٍّ وأفولٍ سوفيتي وأصبح هناك قطبًا وحيدًا يدير العالم ويتحكم في كثيرٍ من قراراته. وقي بداية القرن الواحد والعشرين برز التنين الصيني بشكلٍ متصاعد ونموٍ استثنائيٍّ ثم أخذت روسيا الاتحادية في العودة تدريجيًا إلى الساحة الدولية والتنافسية العالمية، وَجدت مع بروز موجة ما يسمى بالربيع العربي في ظل الانكفاء أو التردد الأمريكي فرصةً ذهبيةً للعودة مجددًا إلى المياه الدافئة عبر بوابة الأزمة السورية. وقد كان موقف أوباما ساذجًا نسبيًا من ذلك، إذْ عدَّ الانخراط الروسي في الأزمة السورية بمثابة المستنقع الذي قد لا تخرج منه روسيا بسهولة. لكن وبعد قرابة خمس سنوات من ذلك نجد أنَّ القراءة الأمريكية لم تكن دقيقة وأنَّ روسيا وضعت قدمًا قوية وراسخة في المنطقة لم تكن لتحلم بتحققه لولا تردد الإدارة الأمريكية حينها في موقفها من الأزمة السورية ورسم خطوطٍ حمراء لم تستطع المحافظة عليها.
أما المارد الصيني فقد أخذ يتوغل بثبات وبأدوات مختلفة تمامًا عن الأدوات الغربية من حيث اعتماده على القوة الاقتصادية والمشاريع التنموية وتجنب الخوض في الأوضاع الداخلية للدول. كذلك اعتمدت الصين الجديدة في تعاطيها مع العالم بشكلٍ عام ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص على سياسة الأخذ والعطاء أو ما يمكن وصفه بإستراتيجية فوز-فوز (win-win strategy ). كذلك قدمت الصين منتجات صناعية متقدمة بأسعارٍ تنافسيةٍ للغاية مقارنةً مع المنتجات الغربية مما جعلها تستحوذ على معظم أسواق العالم مما أسهم في نموٍ اقتصاديٍّ كبير يهدد القوة الاقتصادية الأمريكية.
ترى الولايات المتحدة الأمريكية في بروز النجم الصيني مهددًا حقيقيًا لمصالحها في مناطق نفوذها في العالم ومن يستمع للخبراء والباحثين الأمريكيين وهم يسردون قوائم التذمر من النفوذ الصيني ثم بعد ذلك من الحضور الروسي يدرك جيدًا أنَّ بكين وبدرجة أقل موسكو تُشكل تهديدًا وتحديًا جادًا للهيمنة الأمريكية. في ظل هذا الواقع الجديد في العالم، وفي ظل الصراع الخشن والناعم على منطقة الشرق الأوسط وما تملكه من ثرواتٍ عظيمة وموقع جغرافيٍّ إستراتيجيّ، نجد أنَّ واشنطن تتراجع يوما بعد الآخر عن التزاماتها الأمنية وتحالفاتها الإستراتيجية في المنطقة بمزاعم التوجه إلى منطقة الباسيفيك لمواجهة الخطر الصيني بينما الصين الآن لم تعد محصورة هناك بل وصلت الى الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا وإفريقيا وكل مكان.
في ظل كل ذلك تبقى انعكاسات الصراع الشرقي-الغربي على دول المنطقة مخيفة، فـَ«إذا تصارعت الفيلة فإن أكثر من يعاني هو العشب» كما يقول المثل. وإذا احتدم الصراع وارتفعت وتيرته فإننا سنشهد مجددًا محاولات استقطاب تستهدفُ دول المنطقة لتكون إلى جانب طرف ضد الآخر كما حصل مسبقا في الصراع الأمريكي-السوفيتي. لكن الواقع الذي نشهده اليوم وحقيقة أنَّ دول المنطقة مرتبطة اقتصاديًا بالشرق حيث يستهلك معظم صادرات النِّفط الخليجية، ومرتبطة بالغرب من حيث التقنيات المتقدمة والتسليح العسكري وبالتالي لا يمكن لها أن تكون تطبيقيًا طرفًا في هذا الصراع.
ختامًا، ترتبط دول الخليج العربي ومعظم دول الشرق الأوسط بعلاقاتٍ إستراتيجية وطيدة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، لكن في المقابل نجد حالة انكفاء وتململ أمريكي من الحضور الفاعل في المنطقة سياسيًا وعسكريًا، وأنَّ الانكفاء الأمريكي يخلق فراغًا كبيرًا في المنطقة، وهذا الفراغ من الطبيعي أنَّ دولًا مثل الصين وروسيا سوف تسعى لملئِه سريعًا، فإذا كانت واشنطن تشتكي حاليًا من الحضور لتلك الدولتين في المنطقة فإنَّ المستقبل سيكون أكثر صعوبة وأكثر تكلفة لأمريكا وأوروبا، وبالتالي لا ينبغي أن تعزف على فقدان النفوذ وانحساره وهي من قرر ذلك ولا يجب أن تلوم دول المنطقة إنْ فكرت في مصالحها مع الكتلة الشرقية. خلاصة القول، إنَّ المعادلة واضحة فإذا أردت أن تقود فعليك تحمل تكاليف ذلك أو عليك تسليم القيادة طواعية أو كراهية للآخرين ولكن لا تبكي في نهاية المطاف على اللبن المسكوب.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية