وحده بايدن من يستطيع كسر الجمود الأمريكي السعودي

https://rasanah-iiis.org/?p=27740

بواسطةد. علي عسيري

لم يدِّخر الرئيس الأمريكي جو بايدن أي فرصةٍ لانتقاد المملكة العربية السعودية، خصوصًا ولي العهد السعودي محمد بن سلمان منذ يومه الأول في منصبه، وقد أدَّت هذه الحماقة إلى تكاليف لا يمكن تحمُّلها. لقد قفز متوسط سعر الوقود في الولايات المتحدة فوق 4 دولارات للجالون لأول مرةٍ منذ عام 2008م نظرًا لتأثير الحرب في أوكرانيا على أسعار النفط العالمية والتي ارتفعت إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. ومن المرجَّح أن تفرض دوامة التضخم تكلفةً سياسيةً باهظةً على الديمقراطيين قبل الانتخابات النصفية والرئاسية المقبلة.

 ولعله ليس بعيدًا عن الإدراك أنَّ المملكة العربية السعودية وحدها هي من يمكنها المساعدة، وذلك من خلال دعوة (أوبك+) (تكتُّل النفط المكون من 23 دولة بما فيها روسيا) لرفعِ إنتاج النفط الخام وخفض أسعار الوقود. لقد عملت المملكة العربية السعودية كمُنتجٍ بديلٍ من قبل، فخفَّضت أو زادت إنتاجها النفطي لتطويع الولايات المتحدة، وقد تجنَّبت أزمات الطاقة العالمية من خلال لعب هذا الدور الحاسم بناءً على طلب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بين عامي 2018 و2020م.

كانت الولايات المتحدة ودول الخليج سويةً في السراء والضراء لعقودٍ بعد هزيمة الشيوعية السوفيتية، ومحاربة الإرهاب العالمي معًا. يُعتقدُ أنَّ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هما المنتجان الرئيسان الوحيدان للنفط، وهما اللذان يمكنهما زيادة الإنتاج الاحتياطي بسهولةٍ نسبية. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، يقفز سؤالٌ إلى الذهن وهو لماذا تُحجم السعودية حاليًا عن إنقاذ الولايات المتحدة من مشاكلها الاقتصادية المتصاعدة؟ ما الخطأ الذي حدث حتى رفض محمد بن سلمان ونظيره الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان التحدُّث مع الرئيس جو بايدن كما تشير تقارير وسائل الإعلام الأمريكية؟

 في قانون العلاقات الدولية، يستغرقُ ترتيب العلاقات الودودة سنواتٍ، حيث يجب أن تقوم على أساسِ الاحترام المتبادل لاحتياجاتِ ومصالح الآخر الحيوية، ويهتزُّ هذا الأساس في اللحظة التي يفقد فيها أيٍّ من الجانبين الالتزام بذلك. وتواجه إدارة بايدن نفس المعضلة اليوم مع ممارستها هذه العلاقة التي تفتقر إلى الحصافة مع كلٍّ من السعودية والإمارات.

كانت الولايات المتحدة منفصلةً عن الخليج لأكثر من عقدٍ من الزمان، إذ بدأ الرئيس باراك أوباما العملية بالفشل في إدارة الاضطرابات التي أعقبت أحداث «الربيع العربي» في العراق وسوريا واليمن. وقد مكَّن الاتفاق النووي الذي عُقد في عام 2015م، إيران من تقويضِ أمن المملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى من خلال حرب الوكالة التي يشنّها الحوثيون و«حزب الله» والميليشيات الأخرى التابعة لـ«الحرس الثوري». حاولت إدارة ترامب معالجة المظالم الأمنية لشركائها من خلال التخلي عن «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2018م، لكنها فشلت في مواجهة إيران عندما ضربت طائراتها المُسيّرة وصواريخها منشآتٍ نفطيةٍ سعوديةٍ رئيسةٍ في عام 2019م.

 وبدا نهج بايدن أكثر وضوحًا في هذا الصدد، حيث ألقى ثأره السياسي من ترامب بظلاله على خياراته السياسية المعيبة في الخليج، ورفض التعامل مع الأمير محمد بن سلمان بحجة الادعاءات العبثية. كما شطب بايدن «ميليشيا الحوثي» في اليمن من قائمة المنظمات الإرهابية وسحب صواريخ باتريوت من السعودية، مما جعل المملكة العربية السعودية عرضةً لهجمات الطائرات المُسيّرة والصواريخ الإيرانية. جعلت إدارة بايدن إحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة» هدف سياستها الخارجية الأول، متجاهلةً المخاوف الإقليمية بشأن الصواريخ الباليستية الإيرانية وأنشطتها الخبيثة.

ونتيجةً لذلك، تشجَّعت إيران على تكثيف حرب الوكالة ضد المملكة العربية السعودية مرةً أخرى وتوسيع نطاقها ليشمل دولة الإمارات التي بدأت في مواجهة هجماتٍ صاروخيةٍ حوثيةٍ هذا العام. سعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا والهند بسبب خيبة الأمل التي تعرضوا لها من إدارة بايدن، وهذا بالضبط سبب اختيار السعوديين والإماراتيين الحياد في الحرب الروسية الأوكرانية. وقد امتنعت الإمارات، مثلما فعلت الهند عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي ضد روسيا.

 لذلك، نصح الأمير محمد بن سلمان بايدن في مقابلةٍ أخيرةٍ مع مجلة الأطلنطي، بالتركيز على «مصالح أمريكا» بدلًا من التدخل في الشؤون السعودية، حيث قال: «لا نمتلك الحقَّ في إلقاء محاضرةٍ عليك في أمريكا … ونفس الشيء ينطبق في الاتجاه الآخر». كما شدَّد على الاختلافات الصارخة بين الديمقراطية الأمريكية والنظام الملكي في المملكة العربية السعودية، والتي يجب أن تتطوَّر بمرور الوقت في رأيه. وقد أكَّد ولي العهد السعودي أيضًا على التقدُّم الملموس الذي أُحرز في إصلاحِ الاقتصاد والمجتمع السعودي في إطار خطة رؤية 2030.

 أحدثت هذه الخطة الإستراتيجية تحولًا جذريًا في المملكة العربية السعودية منذ إطلاقها في عام 2016م، من خلال فصل اقتصادها عن اعتماده المفرط على النفط وإعادة تشكيل مجتمعها وفقًا للقيم الحديثة للمساواة بين الجنسين والتسامح الديني والانفتاح العالمي. ويظهرُ ذلك جليًّا من خلال التقدُّم في العديد من المشاريع التنموية السعودية الفريدة التي تسعى إلى جعل المملكة مركزًا للسياحة والترفيه العالميين، وصناعة التكنولوجيا فائقة التطوُّر والحياة الحديثة. كما ينعكسُ في عمليةِ تمكين المرأة وفرض سيادة القانون والحدِّ من السلطات الدينية.

تشكِّلُ المملكة العربية السعودية جوهر العالم الإسلامي كونها تحتضنُ أقدس الأماكن الإسلامية. ومن هنا، تهمُّ الرواية السعودية حول القضايا الإسلامية المسلمين في جميع أنحاء العالم. كان لمحمد بن سلمان تأثيرًا هائلًا من خلال الترويج لعقيدةٍ إسلاميةٍ متجذِّرةٍ في القرآن الكريم وسنّة النبي محمد ﷺ. كما دعا إلى قصرِ استخدام الحديث في المسائل الفقهية على الحساباتِ التي يمكن التحقُّق منها فقط، والتي تتوافق مع النصِّ القرآني على وجه الخصوص، وهذا التعهُّد التاريخي يفضح السرديات المتطرِّفة التي تروِّج للإرهاب من خلال إساءةِ تفسير التعاليم الصحيحة للإسلام. يعمل محمد بن سلمان على تحديثِ المملكة بشكلٍ تدريجيٍّ (دون تقويض قِيمها الثقافية والدينية)، وتعزيز أجندةٍ تنمويةٍ صديقةٍ للبيئة في العالم العربي في الوقت نفسه.

 نادرًا ما شهدت المملكة العربية السعودية زعيمًا له مثل هذا الإحساس بالهدف منذ عهد الملك فيصل بن عبد العزيز قبل نصف قرنٍ تقريبًا. يُعدُّ محمد بن سلمان نموذجًا للشخصية العربية التي كان ينبغي لبايدن أن يتعاون معها في هذا المنعطف الحرج، ولكن على العكس من ذلك، قرَّر بايدن عدم التعاون مع الزعيم السعودي الشاب.

 أنا أعلم مدى اعتزاز السعوديين بعلاقتهم التاريخية مع الأمريكيين بصفتي مواطنًا سعوديًا له مسيرةٌ دبلوماسيةٌ طويلة. قام محمد بن سلمان من جانبه بتوسيع الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة ورحَّب بالشركات الأمريكية الكبرى للاستثمار في مشاريع بالمملكة. يسهمُ الآن آلاف الشباب السعوديين خريجي الجامعات الأمريكية في مشاريع رؤية 2030. كما تستفيد المملكة من وجود حوالي 40 ألف مواطنٍ أمريكي، وهم يشكّلون أكبر نسبةٍ من المغتربين الغربيين في المملكة العربية السعودية.

ومن هنا جاءت المشاكل الحالية في السعودية والولايات المتحدة. تُعدُّ العلاقات من صنع الرئيس بايدن فقط، والقيادة السعودية تريد تجاوز هذه القضايا. أكَّدَ ولي العهد في المقابلة نفسها أنَّ للمملكة «علاقةٌ تاريخيةٌ طويلةٌ» مع الولايات المتحدة وهو يهدفُ إلى تقويتها، لكنه يريد أيضًا علاقاتٍ سعوديةٍ أمريكية مستقبلية قائمة على أساس الاحترام المتبادل والمعاملة بالمثل.

  أدت سياسة بايدن إلى تعطيل عملية الإصلاح في المملكة العربية السعودية، وأجبرت المملكة على البحث عن شراكاتٍ بديلةٍ مع الصين وروسيا من خلال رفضه التعاون مع محمد بن سلمان، واسترضاء النظام الإيراني التوسعي. كانت السعودية تمارس تجارة النفط بالدولار فقط مقابل ضماناتٍ أمنيةٍ من واشنطن منذ عام 1974م. وقد أجبرت إدارة بايدن المملكة العربية السعودية على التفكير في خيار ربط مبيعاتها النفطية باليوان الصيني من خلال التنازل عن هذه الضمانات. وبالمثل، تعمَّقت علاقاتها التجارية والاستثمارية والأمنية مع روسيا، وهو أمرٌ يتضح من النهج المشترك بشأن سقف إنتاج (أوبك+). وقد انتهى الأمر بتوتر العلاقات مع السعوديين وحلفاء الولايات المتحدة الآخرين في الخليج بينما لم يحصل بايدن على شيءٍ في المقابل فيما يتعلق بـ«خطة العمل الشاملة المشتركة»، حيث توقفت محادثات فيينا في أعقاب حرب أوكرانيا. لماذا تكافئ القيادة الأمريكية نظامًا تضرب جذور عداوته لأمريكا في دستوره التوسعي وتاريخه الإرهابي؟

يظهر التمزُّق الحالي في علاقة السعودية مع الولايات المتحدة في هذه الخلفية. يمكننا القول إنَّ العلاقات وصلت إلى مستوىً خطيرٍ بحيث لا يمكن إصلاحها من خلال الرحلات الأخيرة للمسؤولين الأمريكيين مثل بريت ماكغورك أو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى المملكة. تعدُّ إعادة انتشار صواريخ باتريوت الأمريكية في المملكة العربية السعودية والعملية السعودية الأخيرة لإنقاذ امرأتين أمريكيتين من اليمن علاماتٍ إيجابيةٍ، لكنها ليست مهمة، لأنَّ العلاقة تحتاج إلى تحوّلٍ هيكلي. بايدن وحده من يستطيع إصلاح المشاكل الحالية من خلال الكشف عن الدور الأمني للمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في الخليج، ويمكنه القيام بذلك دون أي جهد.

 تُعدُّ «خطة العمل الشاملة المشتركة» ميّتةً الآن لحسن الحظ، وسيطمِئن بايدن الرياض وعواصم الخليج الأخرى بشأن اهتمام واشنطن المتجدِّد بالاستقرار الإقليمي من خلال الاعتراف بذلك. كما يمكنه أن يخطو خطوةً إضافيةً من خلال رسم مسارٍ جديدٍ في العلاقات الأمريكية مع المملكة العربية السعودية على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل، مع مساعدة قيادتها أيضًا على هزيمة القوات الإيرانية في الخليج. حتمًا، ستشجِّع هذه المبادرات على استجابةٍ إيجابيةٍ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مما يؤدي إلى تشجيع روسيا وأعضاء (أوبك+) الآخرين على زيادة الإنتاج الشهري من النفط الخام إلى ما بعد الحد المتفق عليه في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر.

 أنا متأكدٌّ من أنَّ الروابط السعودية الأمريكية مرنةً بما يكفي للتغلب على مشاكلها الحالية. تعودُ الشراكة التاريخية إلى عام 1945م، عندما التقى الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلين روزفلت على متن سفينةٍ حربيةٍ أمريكية قُبالة الساحل السعودي. لقد أرسيا أساسًا قويًا ساعد على امتصاصِ الصدمة من الحظر النفطي في السبعينيات. كما تهيأت العوامل النشطة اللاحقة من خلال المشاورات المتبادلة. يجب أن تسود البراغماتية مرةً أخرى من أجل استدامة عملية الإصلاح في المملكة العربية السعودية والتغلُّب على أزمة الطاقة الحالية في العالم، وقد حان الوقت لمداواةِ الجراح المؤسِفة للماضي القريب وإعادة بناء شراكةٍ إستراتيجيةٍ تستمرُّ في المستقبل.

المصدر: ناشونال انترست – الولايات المتحدة


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د. علي عسيري
د. علي عسيري
نائب رئيس مجلس أمناء معهد رصانة