إيران وتخفيض الالتزامات النووية.. خطوة باتجاه المواجهة أم تحسين شروط التفاوض؟

https://rasanah-iiis.org/?p=17384

أثار شروع إيران في الإعلان عن تنفيذ المرحلة الثانية من خفض التزاماتها النووية في السابع من يوليو 2019، بوقف الالتزامات المتعلقة بمستوى تخصيب اليورانيوم، وكذلك إنتاج الماء الثقيل في مفاعل أراك بلا حدّ معيَّن، جدلًا حول مدى استفادة إيران من هذه الخطوة، إذ إنها قد تُسهِم في مضاعفة الضغوط الدولية على إيران، بما فيها احتمال خلق إجماع دولي يصبّ في صالح الاستراتيجية الأمريكية، وقد يعود بالملفّ برمته إلى مجلس الأمن الدولي، ويُعاد تفعيل العقوبات الدولية على إيران.
فما هدف إيران من هذه الخطوة؟ وهل هي تعني مضيّ النظام قدمًا باتجاه خيار المواجهة، أم هي استعدادات لتحسين شروط التفاوض الذي سيأتي حتمًا؟

أولًا: التقدير الإيراني لتخفيض التزاماتها النووية
عندما أعلنت إيران في الثامن من مايو 2019 عن خطة من ثلاث مراحل لتخفيض التزاماتها النووية، كان ذلك بمثابة تحوُّل جذري في سياسة الصبر الاستراتيجي التي تَبنَّاها النظام الإيراني منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وخطوة مباغتة وتحوُّل من موقع الدفاع إلى الهجوم، بعدما ظلّت إيران لعام كامل تراهن على بقاء الاتفاق النووي رغم عدم فاعليته عمليًّا بعد الانسحاب الأمريكي منه، وذلك من أجل الحفاظ على الفجوة في المواقف بين الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى، فضلًا عن تعزيز موقفها القانوني عبر التقارير المتواترة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكذلك موقفها الدبلوماسي والدعائي في مواجهة الانسحاب الأمريكي من الاتفاق.
كانت الخطوة بالأساس تمثّل ضغطًا على شركاء الاتفاق النووي لإظهار موقف متباين عن مواقف الإدارة الأمريكية، التي تتّخذ منحًى تصعيديّاً لا هوادة فيه منذ تولَّى دونالد ترامب مسؤولية القيادة في الولايات المتحدة في مطلع عام 2017، ومن جهة ثانية كانت استكشافًا لمدى قدرة الأطراف الأوروبية على تنفيذ وعودها بالحفاظ على الاتفاق النووي، عبر مدّ يد المساعدة للنظام الإيراني، وذلك من خلال تفعيل آلية التبادل المالي وتضمينها تغطية التعاملات المالية الخاصة بمبيعات النفط، مع فتح الآلية لتكون متاحة لجميع الدول الأوروبية وغير الأوروبية.
لكن في الحقيقة منذ وقت مبكّر كان النظام الإيراني لديه شكّ كبير بأن الأطراف الأوروبية ليس في جعبتها ما تقدّمه لطهران، وأن ارتباطاتها بالولايات المتحدة تَحُول دون قدرة الأوروبيين على اتخاذ مسار معاكس للمسار الأمريكي، سواء كان ذلك نتيجة للمصالح المشتركة بين الطرفين والتي لا تقارَن بالمصالح التي تتيحها إيران للدول الأوروبية، أو كان ذلك نابعًا من ضعف في الاستقلالية الذاتية خصوصًا بشأن قضية حيوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة على النحو الذي تمثّله المسألة الإيرانية، وهو الأمر الذي ظهر مع عجز الدول الأوروبية عن تفعيل آلية التبادل المالي أو تضمينها تعاملات خارج التعاملات المسموح بها من جانب الولايات المتحدة.
كذلك لم يختلف تقدير إيران لمواقف كل من الصين وروسيا عن المواقف الأوروبية في عدم القدرة على تحدِّي الإرادة الأمريكية بشأن المسألة الإيرانية، إذ عجزت كلتاهما عن الإسهام في التأثير على مسار الأزمة، سواء من جهة تحدي العقوبات الأمريكية، بل على العكس تعرضت الدولتان لعقوبات مماثلة من جانب إدارة ترامب، أو من جهة تبنِّي موقف صارم من الاتفاق النووي بوصفه اتفاقًا دوليًّا هما طرفان رئيسيان فيه، بل وأكدت فاعليته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في جميع تقاريرها الأربعة عشر منذ عام 2015، ومن ثم أولوية التزامهما واجباته، تحديدًا على المستوى الاقتصادي، وهذا مع الأخذ في الاعتبار الموقف الصيني مؤخرًا من عملية استيراد النفط من إيران، لكن هذا الموقف يرتكز بالأساس على حيوية أمن الطاقة بالنسبة للصين، والمنافسة مع الولايات المتحدة، أكثر منه رغبة في مساعدة إيران على تجاوز مأزقها الراهن، بل الاستفادة من الأسعار المنخفضة التي تحاول من خلالها طهران الحصول على مشترين لنفطها رغم العقوبات الأمريكية.
وبالتوازي مع تخفيض الالتزامات النووية دون أن تتحمل المسؤولية علنًا، شنّت إيران من خلال حلفائها هجمات في عدد من الساحات الإقليمية، وكانت أهم تلك التحركات تكثيف عمليات الطائرات المسيَّرة من جانب جماعة أنصار الله الحوثي باتجاه المملكة العربية السعودية، تحديدًا استهداف بعض المواقع النفطية والمطارات المدنية في المملكة العربية السعودية، واستهداف ناقلات النفط في بحر عمان لإثبات قدراتها على إلحاق الضرر عبر العمليات التخريبية، ومؤخَّرًا إسقاط طائرة مسيَّرة أمريكية فوق مياهها الإقليمية في الخليج العربي حسب زعم المسؤولين الإيرانيين.
تَحوُّل النظام الإيراني من استراتيجية الدفاع والصبر إلى الهجوم أظهر حقيقة عدم استعداد النظام لتقديم تفاوُض مجَّاني وفق الشروط الأمريكية، كما أرسلت مؤشرات مهمة على قدرة إيران على الإرباك وخلق إشكاليات وتوترات مؤثرة إقليميًّا ودوليًّا، وهذه السياسة الهجومية كانت غير متوقعة من جانب إدارة ترامب وعديد من الأطراف المرتبطة بالأزمة، ومنها الأطراف الأوروبية، إذ كان الظن أن إيران على وشك الرضوخ.
مع الوقت أثبتت سياسة العقوبات رغم تأثيرها على الأوضاع الاقتصادية لإيران ضَعْف فاعليتها لعدم اكتمال عناصرها، بل على عكس ما رمت إليه سياسة العقوبات من زعزعة استقرار النظام في الداخل، وُظّفَت في إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية، واستيعاب الحركة الاحتجاجية تحت شعارات الوحدة الوطنية والمقاومة، والمؤامرة الخارجية، بل استُثمرَت المواقف الإيرانية لتعزيز شرعية النظام بوصفه رمزًا لمواجهة الولايات المتحدة.
كذلك نجح النظام الإيراني في تحريك أدواته ونفوذه الإقليمي ليشكل ورقة ضغط كبيرة على الولايات المتحدة ودول المنطقة، وظهر ذلك مع مواقف دول الجوار الرئيسية لإيران التي ترفض التزام العقوبات، فضلًا عن توظيف الميليشيات وإمكانياتها لتحويل أي مبادرة عسكرية ضدّ إيران إلى مغامرة غير محسوبة وغير مضمونة العواقب، وربما لم يكُن بحسبان الولايات المتحدة الوصول إلى تلك المرحلة من المواجهة والاستعداد الإيراني لإغلاق نافذة التفاوض وفق الشروط الأمريكية.
لقد تَحوَّل الملف النووي من وسيلة للضغط على إيران ومساومتها من جانب الأطراف الأوروبية، إلى أداة ضغط في يد إيران، ومحرِّك أساسي لإعادة الأطراف كافة للتفكير بطريقة أخري تجاه الأزمة مع إيران، ومن هذا المنطلق سيطغى التصعيد الإيراني بشأن البرنامج النووي على غيره من ملفات الخلاف مع إيران، وهذا هدف إيراني مضمونه حصر التفاهم والحوار في البرنامج النووي، وعزله عن حزمة الشروط الأخرى التي أراد ترامب أن تكون جميعها ضمن اتفاق جديد.
وقد أسهمت النشاطات العسكرية، ومن ضمنها استهداف ناقلات النفط واستهداف المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية تحديدًا، في تحييد الخيار العسكري، من خلال تأكيد التكلفة الباهظة لأي خيارات أمريكية بديلة كخيار المواجهة العسكرية، وذلك من خلال رسائل غير مباشرة ردًّا على التحركات العسكرية في منطقة الخليج العربي، التي استهدفت بالأساس ممارسة أقصى درجات الضغط على إيران. واللافت في هذه التحركات أنها لم تكُن باتجاه إسرائيل التي تُعَدّ أكثر تأثيرًا على القرار الأمريكي، بل إنها استهدفت منطقة الخليج ودولها، والصادرات النفطية من المنطقة.
ويمكن القول إجمالا إن إيران على الرغم من تلك السياسة الهجومية، نجحت في عدم خروج التوترات مع الولايات المتحدة عن السيطرة، بل على العكس، بدأ التعاطي من الأطراف المعنية بالأزمة كافة في التغير، وربما هذا ما كانت تحتاج إليه إيران لتغيير موقفها وموقعها في الأزمة.

ثانيًا: تراجُع مؤشِّرات المواجهة على الجانبين الإيراني والأمريكي
يمكن قراءة الخطوات التصعيدية ذات الطابع الهجومي للوهلة الأولى على أن النظام الإيراني قد حسم موقفه باتجاه خيار المواجهة، لكن رغم القدرة الكبيرة على إحداث التوتر وإرباك المشهد، فلا شكّ في عدم قدرة النظام الإيراني على تحدي الولايات المتحدة الأمريكية على أي من المستويات، ومن ثم فإن مسألة المواجهة تبدو خيارًا عاليَ التكلفة لإيران، ويظلّ شعار المواجهة جزءًا من الحرب النفسية التي يشنّها النظام للتأثير على الرأي العامّ الدولي من مخاطر المواجهة والحرب وأثرها على الاستقرار الإقليمي، وعلى الاستقرار العالمي بالتبعية، وعلى مصالح الأطراف الدولية في المنطقة، وفي مقدمتها حرية الملاحة في الممرات الملاحية في المنطقة، فضلًا عن استمرار تدفُّقات النفط، والتأثير على سوق الطاقة العالمية، كما تظل المواجهة في الداخل آلية للتعبئة الجماهيرية والتخفيف من حدة الضغوط الشعبية.
في المقابل لا يبدو أن الولايات المتحدة لديها استعداد للدخول في مواجهة عسكرية في الشرق الأوسط في المرحلة الحالية، ربما لموقف ترامب نفسه من مسألة التدخلات العسكرية، أو لأن إيران ليست مصدر تهديد حقيقي للمصالح الأمريكية، بقدر ما هي قوة توازن في المنطقة تساعد على استمرار تدفق المصالح باتجاه الولايات المتحدة.
وقد تبادلت الدولتان رسائل ضمنية وفعلية كافية تؤكّد عدم الرغبة في اللجوء إلى هذا الخيار، فخامنئي أكّد أن إيران لن تتحاور مع الولايات المتحدة، لكنه قال في الوقت نفسه في رسالة أقلّ حدة إن إيران مستعدة للحوار مع أي طرف آخر، ومن ضمنهم الأوروبيين. ومن جانبه قال الرئيس حسن روحاني إن إيران ستقبل بالحوار إذا احترمت الولايات المتحدة الاتفاق النووي ورفعت العقوبات، وقبل عدة أسابيع قال وزير الخارجية محمد جواد ظريف إنه بالإمكان أن يكون حوار في حال تعامل الأمريكيين باحترام مع إيران.
أما ترامب فقد قال “إذا أرادوا الحوار فنحن أيضًا نريده، لا أحد يريد أن تحصل أمور فظيعة، بخاصة أنا، إن الإيرانيين أمة عظيمة، ومن الممكن أن تصبح دولة كبيرة تحت قيادتها الحالية”.
ولا شكّ لعبت المواقف الأمريكية خلال الأسابيع الأخيرة دورًا في تأكيد استبعاد خيارات بديلة عن الضغوط الاقتصادية، إذ ما لبثت الولايات المتحدة تهدّد باستخدام القوة العسكرية تجاه إيران حتى عادت المواقف لتخفف حدة التصعيد، وتواترت التصريحات حول الرغبة الأمريكية في التفاوض دون شروط كما صرح بومبيو، بل طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أثناء زيارته لليابان من رئيس الوزراء الياباني شينزوا آبي الوساطة بين طهران وواشنطن.
لا جدال في أن الموقف الأمريكي الذي بدا متراجعًا شجّع إيران على الاستمرار في تبنِّي خيار المواجهة عبر تعزيز حزمة سياسات ذات طابع هجومي ربما لن يكون آخرها الشروع في تنفيذ المرحلة الثانية من خفض التزاماتها النووية، فضلًا عن تكثيف رسائلها العدائية في المنطقة، لكن رغم كل هذا يظلّ التصعيد رهن عوامل عديدة ليست بعيدة عن الأزمة.
تزامنا مع هذا التراجع عادت الولايات المتحدة لتكثيف العقوبات من جديد بفرض عقوبات على صادرات البتروكيماويات، وعقوبات على خامنئي وبعض قيادات الحرس الثوري، والتهديد بفرض عقوبات على وزير الخارجية محمد جواد ظريف، والعودة للعقوبات على هذا النحو بالتزامن مع التراجع عن التصعيد العسكري، يعزز الانطباعات بأن الولايات المتحدة تلوح بالقوة من أجل الضغط على إيران لقبول التفاوض، لكنها ليست بصدد تطوير إستراتيجيتها نحو أي تدخل عسكري، وهذا بطبيعة الحال انعكس على تصرفات إيران التي لن تذهب لطاولة التفاوض ما دامت لديها القدرة على تحمل هذا النمط من التعامل، وما دامت قادرة على مواجهة العقوبات والتحايل عليها، ومن ثم فإن التفاوض كما هو التصعيد العسكري مسألتين مرجأتين حتى حين.

ثالثًا: أيّ صفقة ممكنة؟
مع عدم رغبة الطرفين الإيراني والأمريكي في المواجهة، يبدو التساؤل منطقيًّا حول أي صفقة ممكنة يمكن أن تُحدِث اختراقًا في الموقف المتجمد الراهن.
تتشكّل رؤية النظام الإيراني من مسألة التفاوض وفق عدد المعطيات:
1- أن استراتيجية الضغوط الأمريكية لم تنجح في إرغام إيران على الجلوس إلى طاولة التفاوض، بل أصبح النظام الإيراني على يقين بأن ترامب يرغب في صفقة مع إيران ولو كانت غير متضمنة الشروط الأمريكية الاثني عشر كافَّةً التي حدّدها بومبيو، وهذا ما ظهرت مؤشراته خلال الفترة الأخيرة.
2- أن الشروع في اتخاذ خطوات باتجاه تحويل البرنامج السلمي للطاقة النووية نحو برنامج عسكري خطّ أحمر غير مقبول دوليًّا بأي حال من الأحوال.
3- أن شروع النظام الإيراني نحو التحلُّل من الالتزامات النووية يهمّ الولايات المتحدة والأطراف الدولية كافة المعنية بالأزمة، فضلًا عن إسرائيل، بصورة تفوق بمراحل أيًّا من شروط مايك بومبيو الاثني عشر التي كان من بينها تغيير سلوك إيران الإقليمي.
4- أن حدود الولايات المتحدة في استخدام القوة العسكرية ضد إيران والتلويح بها، هو ضمن استراتيجية تهدف إلى الضغط على النظام الإيراني لقبول التفاوض.
5- أن الضغوط الأمريكية، لا سيما ما يتعلق بشقّها الاقتصادي، تمثل إشكالية حقيقية أمام النظام الإيراني الذي يعترف بأن هذه الضغوط غير مسبوقة ولم يسبق لها مثيل.
6- أن الأزمة الاقتصادية على مدى أطول في ظل العقوبات الأمريكية المتواصلة قد تُسهِم في غضب شعبي عارم قد لا يمكن حصر نطاقه أو استيعابه على غرار ما حدث في احتجاجات 2018/2017، وذلك على الرغم من أن موجة الاحتجاجات التي بدأت منذ نهاية 2017 واستمرت في صورها الفئوية لشهور قد هدأت، نتيجة عمل النظام على استيعاب الضغوط من خلال خطة اقتصادية تقشفية، فضلًا عن توظيف العداء الأمريكي لكبت هذه الاحتجاجات تحت شعارات الوحدة الوطنية وضرورات مواجهة المؤامرة الخارجية.
7- تبدو إيران مطمئنة لمواقف مجموعة 4+1 وتقارير وكالة الطاقة الذرية إذا ما حُرّك الملف في مجلس الأمن، أو على الأقلّ لموقفي الصين وروسيا، اللتين ستحولان دون استعادة الولايات المتحدة العقوبات الأممية تجاه إيران، فضلًا عن أن اللجوء إلى مجلس الأمن قد يحقّق هدف إيران بإعادة النقاش حول الاتفاق النووي وحسب، دون فتح ملفات أخرى كالتدخلات الإقليمية والبرنامج الصاروخي.
بناءً على هذه المعطيات يمكن القول إن تصعيد إيران بشأن برنامجها النووي وكذلك أنشطتها الإقليمية، لا يدلّ على أن خيار المواجهة هو استراتيجية النظام الإيراني، بل هو عملية إعداد وتمهيد للعملية التفاوض من جانب إيران، أو تحسين شروط التفاوض في المستقبل، لكن وفق صفقة جديدة سيكون للملف النووي دور في تحديد معالمها وشروطها الأساسية.
فإيران على ما يبدو تهدف إلى إعادة الصراع حول برنامجها النووي إلى الواجهة على غرار ما كان عليه الأمر قبل توقيع الاتفاق النووي، وبذلك يكون الاتفاق النووي القضية المركزية بينها وبين الولايات المتحدة ومجموعة 4+1، لهذا عندما شرعت في خطة تخفيض الالتزامات النووية، تركت معها مسألة التفاوض مفتوحة حول البرنامج النووي تحديدًا، وغير ممانعة لوجود مبادرة جديدة من أجل حلحلة الموقف المتأزم.
قد يكون لمسألة تخفيض الالتزامات النووية من جانب إيران دور مهم في الدفع باتجاه عملية التفاوض، إذ إن التعليق الجزئي لبعض الالتزامات النووية من جانب إيران (1) سيجعل البرنامج النووي محور النقاش الأساسي على الساحتين الإقليمية والدولية، (2) سيجعل عملية التفاوض ذات طابع جماعي ودولي بعكس تصوُّر ترامب ومساعديه الذين كانوا يرمون إلى اتفاق منفرد مع إيران، (3) سيفصل الملف النووي عن مجمل سلوك إيران. وهي عوامل قد تسهم في الوصول إلى نقطة وسط يتحدد خلالها الإطار التفاوضي وفق صياغة مقبولة من الطرفين.
يشكل عامل الوقت فاعلًا رئيسيًّا في الوصول إلى صفقة تفاوضية، إذ لا تزال عملية التفاوض في غير صالح إيران خلال المرحلة الراهنة، لهذا يُتوقع الانتظار إلى مرحلة قادمة يحاول كل طرف خلالها ممارسة ضغوط لحلحلة الموقف وتحسين موقفه التفاوضي، بدلًا من المواجهة المستبعدة من الجانبين على الأقل على المدى المنظور، ووفق المعطيات على الجانبين.
التفاوض إذًا هو وسيلة لمعالجة الأزمة الراهنة بين الطرفين، وعملية ستنضج مع الوقت، لكن من الصعب تجاهل التفاعلات التي صاحبت السياسة الأمريكية الجديدة على إيران منذ وصول ترامب إلى السلطة، وبالتالي الحديث عن العودة إلى صفقة على غرار الصفقة النووية ذاتها، فالمعطيات الراهنة مختلفة، ويمثّل عدد من الملفات الرئيسية عقدة الصراع بين الطرفين الإيراني والأمريكي، وهي:
1- الملف النووي، تحديدًا «بند الغروب» الذي يُسقِط القيود التقنية المفروضة على الأنشطة النووية تدريجيًّا اعتبارًا من 2025، وبعدها قد تكون إيران قادرة على تصنيع أو السعي لتصنيع أسلحة نووية، وهو الملف الذي يشغل إدارة ترامب وإسرائيل بالأساس،
2- برنامج الصواريخ الباليستية، الذي يُعَدّ ضمن أولويات إسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي،
3- السلوك الإقليمي لإيران وتهديداتها لاستقرار المنطقة، وهو ضمن أولويات دول الخليج وإسرائيل.
ويمكن أن نشير إلى سيناريو متوقَّع يتحلحل معه الموقف الراهن بين الولايات المتحدة وإيران، عبر تفاهمات جزئية لكل ملف من ملفات الصراع حسب أولويته وأهميته، ووفق صيغة لتبادل المكاسب بما يسهم في إحداث اختراق في الموقف التفاوضي المتجمد، وهذه التفاهمات قد تتضمن:
أ- تفاهمات ضمنية في المشرق العربي تهدّئ مخاوف إسرائيل، وبدت بوادر تلك التفاهمات في اللقاء الأمني الثلاثي الأول من نوعه الذي جمع في 25 يونيو 2019 مستشاري الأمن القومي الأمريكي جون بولتون والروسي نيكولاى باتروشيف والإسرائيلي مائير بن شبات في تل أبيب، والذي كان موضوعه الأساسي الوجود الإيراني في سوريا.
ب- تفاهمات حول الملف النووي، ضمن إطار دولي بهدف إرضاء غرور ترامب وتعزيز موقفه قبل الانتخابات بنصف صفقة بدلًا من صفقة كاملة قد لا تتحقق، خصوصًا أن بند الغروب الذي يُعَدّ مصدر الانتقاد الرئيسي من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل للاتفاق، يمكن أن تعيد إيران التفاوض بشأنه دون أضرار تُذكَر.
ج- تفاهمات جزئية حول برنامج الصواريخ الباليستية بهدف إرضاء إسرائيل والأطراف الأوروبية، لكنها قد تكون بمعزل عن التفاهمات حول الاتفاق النووي.
لكن في مقابل تفاهمات من هذا النوع ستسعى إيران لبقاء نفوذها ودورها في المنطقة باعتبارها المكسب الممكن، والصفقة المحتمَل التعايش معها دوليًّا، وقد اتضح ذلك مع التهديدات المتواصلة لأمن الخليج ودوله وأمن الملاحة في المنطقة على مرأى ومسمع من العسكرية الأمريكية، واتضح من قبل مع الموقف الأمريكي من تمدد إيران في المنطقة، الذي لم تختلف سياسات مواجهته من جانب الولايات المتحدة، سواء من جانب إدارة ترامب أو إدارة أوباما من قبله.
وقد تكون هذه هي الصفقة الرئيسية التي تسعى إليها إيران عبر رفع سقف تهديداتها بشأن البرنامج النووي ليكون ثمرة الاتفاق الجديد الحفاظ على مكاسبها على مستوى الإقليم، بما قد لا يُخرِج جهد ترامب على مدى دورته الرئاسية الحالية عن ذات النتيجة التي وصل إليها أوباما مع استثناءات جزئية في ما يتعلق بإلغاء بند الغروب وضمان أمن أهم الحلفاء الإقليميين.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير