السياسات المائية التركية والإيرانية ستزيد المنطقة اشتعالًا

https://rasanah-iiis.org/?p=26750

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

يكشف إعلان تركيا افتتاح سد إليسو على نهر دجلة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر 2021م ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول المائي المعروف باسم (GAP) عن النوايا التركية في توظيف المياه كورقة ضغط سياسية في إطار لعبة الصراع والقوة والمكانة في الشرق الأوسط، فالسد التركي الكبير يأتي ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول الذي يضمن بناء 22 سدًا، 14 منها على نهر الفرات، و8 على دجلة، مع بناء عشرات المحطات لتوليد الطاقة، ما يُلقي بظلاله السلبية على كميات المياه في العراق وسوريا.

تعكس السياسة التركية في بناء السدود، إدراكًا مبكرًا لطبيعة الصراعات القادمة وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وأنها ستكون حول المياه، وأن عناصر معادلة القوة التي تُتيح للدول القُدرة على المنافسة وتعظيم المكانة وممارسة دور إقليمي واسع، بل والحصول على موقع الريادة الإقليمية ستتبدل وستُصبح السيطرة على مصادر المياه، إحدى الأدوات التي تُتيح للدولة ممارسة دور إقليمي واسع، وفرض إرادتها الاقتصادية والسياسية على المنطقة برمَّتها، وستتراجع الصراعات الأيديولوجية لصالح الصراعات على المياه.

على الرغم من دور السد في دعم التنمية التركية، غير أن هذه السياسات التركية لاحتجاز المياه لم تراعِ مصالح دول الجوار حسب مبدأ الانتفاع المنصف والعادل للمياه المتعارف عليه في القانون الدولي للمياه، وستكون أحد أهم الصراعات القادمة في الشرق الأوسط لما لها من تبعات كارثية على دول المجرى المائي مثل سوريا والعراق لكونها تؤدي إلى انخفاض مناسيب المياه ومنع تدفقها وتقليل كميتها في نهري دجلة والفرات، اللذان يشكلان المصدر الرئيسي للمياه العراقية في المجالات المختلفة، وبخاصة مصدر الحياة الأهوار بالعراق وسكانه.

يتوقع خبراء المياه أن تتراجع حصة العراق من مياه النهر بنسبة 60-80% بسبب تشغيل المولدات الكهربائية على سد إليسو، نظرًا لسعتِه التخزينية التي تبلغ نحو 11 مليار متر مكعب، وبحيرته التي تمتد على مسافة تزيد عن 176 كيلو مترًا؛ وبالتالي ستغمر مياه السد أكثر من 300 موقع أثري وتاريخي على ضِفاف النهر ما يجعلُه يحتل المرتبة الثانية بعد سد أتاتورك من حيث الحجم، والرابع بعد سدود أتاتورك وقره قايا وكيبان من حيث إنتاج الطاقة، والأكبر لإنتاج الطاقة الهيدروليكية على نهر دجلة، ما يفاقم من حجم العجز المائي في العراق ومن حدَّة الآثار البيئية والاقتصادية، كعدم توافر المياه الصالحة للزراعة وإفقار المجتمعات الريفية والهجرة من الريف للمدن نتيجة ارتفاع درجات الملوحة والجفاف وارتفاع حالات التسمم للبشر ونفوق الثروة السمكية.

إيران تدخل على خط الأزمة المائية العراقية كالعادة، كونها تستخدم ورقة المياه كورقة ضغط على الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2003م، بمنعها تدفق المياه من أراضيها إلى العراق، وهي تشكِّل الثُلث تقريبًا من إجمالي الواردات المائية العراقية، وتقوم أحيانًا بتحويل مجراها إلى الداخل الإيراني، وذلك كورقة ضغط لتنفيذ أغراضها المذهبية ومخططاتها التوسعية لمركزية العراق في الإستراتيجية الإيرانية التوسعية.

لدولة العراق حقٌ أصيل في المياه القادمة من تركيا وإيران؛ لأن العراق دولة حوض مائي، تعبُر من خلاله مياه النهرين دجلة والفرات، وهو ما يُفقِد تركيا وإيران ذريعة ممارسة السيادة على الموارد المائية، ومن ثم للعراق حصصُه المائية من الدولتين وفقًا لمبدأ الانتفاع المنصف والعادل للمياه، لكن سياسيًا تخضع المسألة لتوازن القوى بين الأطراف.

من المفارقات العجيبة أن العراق سُمي باسم بلاد الرافدين لمرور رافدي دجلة والفرات عبر أراضيه، وتغذيته بالمياه، وها هو يعاني من حالة شُح وعوز مائي نتيجة السياسات التركية والإيرانية بذرائع ممارسة السيادة، وقد تصبح العراق بلا أنهار بحلول 2040م، حسب توقعات “مؤشر الإجهاد المائي”، ما يُفاقم من الأزمات العراقية.

السياسات التركية والإيرانية لاحتجاز المياه ومنع تدفقها للدول التي يمرُّ فيها النهران كالعراق، لإدراك أهمية التحكم في المياه كعنصر حيوي ضمن معادلة القوة والنفوذ والمكانة في الشرق الأوسط خلال السنوات القادمة، ستزيد المنطقة اشتعالًا وترفع من سقف التوترات في المنطقة المضطربة أصلًا بفعل مشاريعهما التوسعية وطموحاتهما التاريخية، وتدفع بدول للدخول في حرب ضد دول أخرى لأجل حياة شعوبها ومواطنيها، ما يُهدد السلم والأمن الإقليميين والدوليين، ويُعلي من تكلفة مواجهة مشاريع النظامين التركي والإيراني الطامحين في لعب دور الزعامة والقيادة الإقليمية ليس على أساس تنموي رشيد يخدم التنمية في المنطقة، بل على حساب حياة الشعوب في داخل الدولتين وخارجهما في المحيط الإقليمي، وبغضِّ النظر عن ما تُفرزُه مغامراتهما الإقليمية من تدمير الدول الوطنية ونشر الفوضى والإرهاب.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية