تراجُع التجارة بين إيران والعراق وفُرَص المنافسة السعودية

https://rasanah-iiis.org/?p=28945

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

طالعتْنا المصادرُ الإيرانيةُ عن تراجُع حجم الصادرات الإيرانية إلى العراق خلال آخر خمسة أشهُر، محذِّرةً المسؤولين الإيرانيين من تداعيات الأمر السلبية على الهيمنة الإيرانية على السوق العراقية، وتراجُع تنافسية المنتجات الإيرانية لصالح دول أخرى بالمنطقة. نستكشف أسباب هذا التراجع وتحدّيات وفُرَص دخول الاستثمار الخارجي، والسعودي خاصة، إلى السوق العراقية لتقليل الهيمنة الإيرانية على البلد العربي الشقيق.

كشفت إحصاءات التجارة الخارجية الإيرانية تراجُع حجم التجارة بين إيران والعراق بنسبة 29% من حيث الوزن، وأكثر من 6% من حيث القيمة، خلال الأشهُر الخمسة الأخيرة من أبريل إلى أغسطس 2022م، مقارنة بنفس المدة من العام الماضي، مسجلةً 2.7 مليار دولار خلال الفترة، وتشكل قرابة 7% من إجمالي تجارة إيران غير النفطية، وهو تراجع كبير، خصوصًا من حيث الوزن.

على الرغم من كثافة الوجود الاقتصادي لإيران في العراق بالتجارة والاستثمارات السياحية والعقارية والمصرفية وغيرها، فإنّ الأمر لا يخلو من تحدّيات متنامية تحاول إيران مقاومتها، تحدّيات شعبية وفنية وتنافسية ولوجستية ومالية. من بين التحديات: تنامي رفض شريحة الشباب العراقي للتدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للعراق، ومنافسة منتجات الصين وتركيا للمنتجات الإيرانية، والاتجاه المتزايد لمنافسة منتجات لدول عربية وأوروبية، وزيادة أسعار المنتجات الإيرانية بعد إلغاء دعم الدولار، علاوة على تحديات من لسان أمين الغرفة التجارية المشتركة الإيرانية-العراقية، جهانبخش سنجابي، كالاعتماد على تجارة الحدود غير المنظمة، وغياب التزام المعايير العالمية للمنتجات، ومشكلات في النقل والتخزين واللوجيستيات، ونقل وتحويل الأموال، وتسعير المنتجات والجودة.

كل ما سبق من تحدّيات هو فُرَص ممكنة لدول الجوار العربي للعراق، وبخاصة السعودية، من أجل مساعدته على النمو والبناء من دون هيمنة إيرانية. وخلال العامين الماضيين أظهرت السعودية رغبة حقيقة في هذا التوجه بتبادل الزيارات الرسمية وتوقيع اتفاقيات ثنائية بمليارات الدولارات، وإعادة فتح معبرَين بريَّين بعد إغلاقهما لثلاثة عقود، وهما منفذ جميمة المقابل لمدينة رفحاء بالسعودية، وقبله منفذ عرعر. وقد جرى توقيع اتفاقية مهمة للربط الكهربائي بين البلدين لتخفيف معاناة الشعب العراقي من تكرار انقطاعها، ورفع الضغط الإيراني بهذه الورقة عن العراق.

في حين تصل قيمة الاستثمار السعودي المباشر في الخارج إلى أكثر من 580 مليار ريال (154 مليار دولار) بنهاية الربع الأول من عام 2022م، تصل قيمة الاستثمارات السعودية في العراق إلى حدود مليارَي ريال فقط (530 مليون دولار)، وسط دعوات عراقية للاستثمار السعودي في مجالات الطاقة وتحلية المياه والصناعات الغذائية وغيرها. وفي مصر مثلًا تصل استثمارات السعودية إلى أكثر من 30 مليار دولار. ومن المقارنة السطحية تبدو ضآلة حجم الاستثمارات السعودية في العراق. على الرغم من استمرار المحاولات السعودية لزيادة الاستثمار في العراق وامتلاكها الأدوات والخبرة والمنتجات، فإنّ التحديات كثيرة والمقاومة كبيرة من أطراف معلومة تعمل في غير صالح العراق من الداخل والخارج.

قبل بضع سنوات، كنتُ مشاركًا في مؤتمر في بغداد، وكان أحد المتحدثين وزير خارجية إيران الحالي أمير عبد اللهيان، بصفته المساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى والمدير العامّ للشؤون الدولية، وكان الحديث عن البُعد التجاري والاستثماري. قال عبد اللهيان: «يجب على الحكومات العراقية أن تُجبِر الشركات التي تريد الدخول إلى السوق المحلية على أن تفتح مصانعَ لها في العراق».

رفعتُ يدي وتداخلت بالقول: «إنّ توطين الصناعة جيِّد ولكنه مسار طويل لا يبدأ بهذه الطريقة، بل الأفضل حاليًّا فتح السوق العراقية لكل الشركات، وهذا يعود بالنفع على المواطن العراقي، إذ يحصل على أفضل جودة بسعر منافس، لا سيّما أنّ المواطن العراقي لديه قدرة شرائية جيّدة ويبحث عن الجودة».

أثارت المداخلة إعجاب الحضور العراقي، لكنها لم تُعجِب الجانب الإيراني الذي يريد من وراء تلك النصيحة مزيدًا من السيطرة على السوق العراقية، وتعزيز قوّته السياسية في الداخل العراقي من خلال أداة الاقتصاد.

الأمر ليس مجرَّد اتهام شفهيّ لإيران، بل مثبت على الأرض. نذكر حدثًا له دلالات مهمّة في 2020م، بعدما أبدت شركات سعودية رغبتها في الاستثمار الزراعي في العراق بإنشاء محطات لتربية الأبقار على مساحة كبيرة في محافظات المثنى والأنبار والنجف، إلا أن هذا لقي رفضًا كبيرًا من أطراف سياسية وجماعات مسلَّحة منضوية في هيئة الحشد الشعبي، واعتبرتها أطراف سياسية «محاولة سعودية للاستيلاء» على الاقتصاد العراقي، تزامنًا مع إصدار بيانَين صادرَين من ميليشيات «عصائب أهل الحق» وائتلاف «دولة القانون»، لرفض استثمارات السعودية، وكلاهما ميليشيات موالية لإيران.

وقتها تدخَّل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في مؤتمر صفحي ببغداد في 18 نوفمبر 2020م قائلًا: «هناك من يروِّج لكذبة (الاستعمار السعودي) في مجال الاستثمار»، واصفًا هذا الفعل بـ«المعيب»، وأن «الاستثمارات السعودية تؤمِّن مئات الآلاف من فُرَص العمل للعراقيين، ولديها استثمارات كبيرة في الأرجنتين وكندا، فلماذا لا يعتبرونها استعمارًا؟!»، هذا على لسانه. وقد حذَّر الكاظمي مَن يدافع عن حيتان الفساد ممن سرقوا مليارات العراق على حدِّ وصفه، وانتهت قصة الاستثمار السعودي بتأكيد وزارة الموارد المائية العراقية عدم قدرتها على توفير مياه مستدامة للشركات السعودية.

الأمر قد يصل إلى القتل أحيانًا، وسبق قتل مدير الشركة الكورية الجنوبية «دايو» للهندسة والكهرباء، التي كانت تطوّر ميناء الفاو، ومعلوم الوجود الإيراني في العراق في مجال الهندسة والبناء والمقاولات.

كيف تستطيع المملكة مساعدة العراق اقتصاديًّا؟ وما الاستثمارات التي يمكن أن يقدمها الجانب السعودي للعراق؟ بجانب الصناعات الكبيرة التي يحتاج إليها العراق وتمتلك فيها السعودية الخبرة والوفرة، كالغاز والكهرباء وصناعات الطاقة عامّةً، التي تتطلب الاستثمار من قِبل الدولة، هناك القطاع الخاص السعودي الذي يمتلك خبرة كافية بالداخل وكذلك بالخارج، وموجود بقوةٍ خارج المملكة في مجالات عدة، صناعية وزراعية وغيرهما، لكنه يحتاج إلى ضمانات وبيئة عمل مناسبة لمزاولة أعماله، ويعمل بالفعل في عديد من دول العالم في الشرق الأوسط وفي أوروبا وآسيا والأمريكيتين. فمصر على سبيل المثال مِن أكثر الدول العربية التي تضم استثمارات سعودية، ويعمل فيها وحدها أكثر من 6800 شركة سعودية عاملة في مجالات متنوعة للغاية، تفوق 30 مليار دولار، منها على سبيل المثال: صناعات العطور والألبان والدواجن والأعلاف والسكّر والبذور والمعادن والصناعات الهندسية والمكيفات والصناعات الغذائية، بجانب خدمات البنوك والتأمين والتمويل والتأجير والنقل والسياحة والاستثمار والفنادق والمنتجعات.

أيْ إنَّ الخبرات السعودية بقطاعَيها العامّ والخاصّ لديها بالفعل من التنوع والخبرة والمنتجات والتزام الجودة والمعايير الدولية ما يجعلها قادرة على مساعدة الاقتصاد العراقي، والحضور في السوق العراقية والعمل والمنافسة الحرة فيه، وتقديم الجودة لصالح المستهلك، لكن بشروط توافر البيئة الآمنة والمناسبة للاستثمار، والتوحد الوطني العراقي، والقضاء على البيروقراطية وشبكات الفساد التي لها أجندات خارجية، والتي أشار إليها رئيس الوزراء الكاظمي بنفسه كما سبق الحديث.

المصدر: عرب نيوز


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية