من إيران-غيت إلى كيري-غيت

https://rasanah-iiis.org/?p=24515

 نشرت قناة إيران انترناشيونال الناطقة بالفارسية ومقرُّها لندن تسجيلًا لمقابلةٍ لم تُبثّ، أجراها الباحث الاقتصادي الإيراني المقرَّب من الحكومة الإيرانية سعيد ليلاز مع وزير الخارجية محمد جواد ظريف في أواخر مارس الماضي. واحتوى التسجيل الذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات على معلوماتٍ في غاية الأهمية تأتي أغلبها في إطار تأكيد المعلوم وبخاصةٍ أنَّ مصدرها مسؤولٌ حكوميٌّ إيراني يحمل حقيبة وزارة الخارجية والمسؤول الأول (نظريًّا) عن الدبلوماسية الإيرانية.   

 بغضِّ النظر عن من يقف وراء التسريب والأهداف المبتغاة من وراء ذلك سواء أكان تلميعًا لوجه ما يُسمَّى بالتيار المعتدل في إيران كونه يواجه ضغوطًا هائلة مما يُسمَّى بالتيار الثوري / الأصولي في البلاد، أو محاولةً من الحرس الثوري للإجهاض على ما تبقى من حكومة حسن روحاني لأسبابٍ داخليةٍ بحتة؛ فإنَّ الضرر قد حدث فعلًا، وامتد إلى أبعد مما تصوَّر الكثيرون.

 في هذا التسجيل المُسرَّب اعترف ظريف بعدة نقاطٍ مهمة كنا نحن في المنطقة ندركُ حقيقتها ونشيرُ إليها في كثيرٍ من المناسبات والمقالات، ويأتي على رأسها اعتراف ظريف صراحةً بأنَّ الأزمة اليمنية قد أشعلها الحرس الثوري الإيراني. ينقل ظريف فحوى نقاشٍ دار بينه وبين قائد فيلق القدس السابق الجنرال قاسم سليماني في عام 2013م، تمحور حول الإشكاليات التي تواجهها إيران في المنطقة. يقول ظريف: «قلت لقاسم سليماني: لدينا ثلاثة مجالاتٍ في المنطقة نختلف فيها مع السعودية، ويجب أن نحلّها على نحوٍ ما، وهي البحرين، والعراق، وسوريا ولبنان، وقال المرحوم سليماني إنَّ اليمن أيضًا من ضمن هذه المجالات. بالطبع لم تكن القضية اليمنية قد بدأت بعد».

 هذه المعلومة تؤكِّد بما لا يدع مجالًا للشكِّ أنَّ إيران كانت تخطِّط لإشعال الأزمة اليمنية بهدف الإضرار بالسعودية واستهداف مصالحها في المنطقة، وأنَّ ميليشيا الحوثي تنفِّذ الأجندة الإيرانية في اليمن وتهاجم السعودية بالأسلحة الإيرانية. ويؤكِّد ذلك أيضًا التصريحات الأخيرة للقيادي في الحرس الثوري والمُرشَّح حاليًّا للانتخابات الرئاسية الإيرانية القادمة رستم قاسمي، الذي اعترف في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ مع قناة «روسيا اليوم» بأنَّ الحرس الثوري قدَّم السلاح لجماعة «أنصار الله» الحوثية في بداية الحرب اليمنية، ودرَّب عناصر من قواتها على صناعة السلاح، مضيفًا أنَّه يوجد في الوقت الراهن عددٌ قليلٌ من المستشارين من الحرس الثوري  في اليمن. وقد أثار هذا التصريح سلسلةً من الجدل بين وزارة الخارجية الإيرانية وقاسمي.

النقطة الأخرى التي أكَّدها  التسريب الصوتي هي أنَّ الحرس الثوري هو من يوجِّه الدبلوماسية  الإيرانية، وأنَّ هذه المؤسسة العسكرية تستخدم الوجه الدبلوماسي «اللطيف» لخدمة مشروع طهران التوسعي الذي يديره ويشرف عليه «فيلق القدس». يقول ظريف صراحةً: «إنَّ الدبلوماسية الإيرانية أصبحت تعمل لخدمة ميدان المعركة، بدلًا من أن تكون المؤسسة العسكرية مساندةً للدبلوماسية» موضحًا ذلك بقوله: «في «الجمهورية الإسلامية» الميدان العسكري هو الذي يحكم (…)، لقد ضحيّتُ بالدبلوماسية لصالحِ ساحة المعركة أكثر مما ضحيّتُ بساحةِ المعركة لصالح الدبلوماسية»، كاشفًا عن أنَّ «هيكلية وزارة الخارجية هي ذات توجُّهٍ أمنيٍّ غالبًا».

 كل هذا يؤكِّد أنَّ التعامل مع جهاز الدبلوماسية الإيرانية إهدارٌ للوقت والجهد، والأصحَّ أنَّ أي تفاوضٍ أو حوارٍ مع إيران ينبغي أن يكون مع الجهاتِ المتحكِّمة في صنع القرار في البلاد وعلى رأسها المرشد علي خامنئي والمؤسسة الثورية. هذا لا يعني أنَّ الحكومة تعارض سياسة الحرس الثوري من حيث المبدأ، بل تختلف معها أحيانًا في الأسلوب والأدوات. على سبيل المثال، يشير ظريف في التسريب إلى اعتراضه على استخدام الطائرات المدنية التابعة للخطوط الجوية الإيرانية الرسمية في نقل السلاح والعتاد والمسلحين إلى سوريا ويقترح أن تُستخدم طائرات خطوط «ماهان» المدنية أيضًا (وإن كانت من مؤسسات الحرس الثوري الاقتصادية) عوضًا عن ذلك. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ ظريف لا يمانع من استغلال الطائرات المدنية لأغراضٍ عسكرية.

 أما الشعرة التي قصمت ظهر البعير ووصل صداها سريعًا إلى واشنطن فهي اعتراف ظريف بأنًّ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري كان يسرِّب إليه معلوماتٍ يُفترض أن تكون سريةً تكشف عن عددٍ من العمليات العسكرية التي نفَّذتها إسرائيل ضد المجموعات المسلحة الإيرانية في سوريا. في هذا الصدد يقول ظريف: «هذا يعني أنَّكم ليس بإمكانكم أن تقولوا كم عدد الذين قُتلوا في سوريا. لا يمكنكم أن تقولوا أنَّه كان يجب على جون كيري أن يخبرني أنَّ إسرائيل هاجمتنا 200 مرة في سوريا».

 وعلى إثر ذلك طالب عددٌ من الجمهوريين باستقالة كيري من منصبه الحالي في إدارة بايدن (المبعوث الأميركي الخاص لتغيُّر المناخ)، على الفور. ففي خطابٍ ألقاه يوم الاثنين السيناتور الجمهوري دان سوليفان قال: «إنَّ كيري بحاجةٍ إلى الرحيل». كما أكَّد السيناتور تيد كروز في بيانٍ أنَّ «كيري تم القبض عليه مرارًا وهو يجتمع مع ظريف أثناء إدارة دونالد ترامب على الرغم من قانون «لوغان» ولم يكشف علنًا عن ما ناقشوه». وأعرب السيناتور الجمهوري توم كوتن عضو لجنة المخابرات عن قلقه بقوله: «إنَّ هذه التقارير مقلقة، وأودُّ أن تُتاح لي الفرصة لسؤال الوزير كيري عن هذا في جلسة استماعٍ مغلقة».

 إنَّ موقف الجمهوريين مفهومٌ إلى حدٍّ ما، فليس من قبيل المصادفة، مطالبة وزير الخارجية السابق مايك بومبيو وقادة السياسة الخارجية الجمهوريين في الكونغرس أيضًا، بإجراء تحقيقٍ رسميٍّ مع جون كيري بعد الكشف عن إبلاغ القادة الإيرانيين بالعمليات العسكرية الإسرائيلية السريَّة. ومن الممكن بسهولة مشاهدة أثر ذلك في مقبل الأيام.  وبعد إثارة الموضوع على نطاقٍ واسعٍ، نفى جون كيري عبر تغريدةٍ على حسابه في موقع «تويتر» هذه المزاعم واصفًا إياها بالكاذبة بشكلٍ لا لبسَ فيه. بيد أنَّ هناك شبهاتٍ كثيرة كانت تحوم حول طبيعة العلاقة بين جون كيري ونظام الملالي في إيران منذ سنوات، وأنَّ كيري كان  يلتقي سرًّا بمسؤولين إيرانيين في باريس وغيرها ويقدِّم نصائح واستشارات لطهران خلال فترة رئاسة دونالد ترامب وينصحهم بالصبر حتى موسم الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية بنهاية عام 2020م.

 الخلاصة، أنَّ هذه المقابلة وبغضِّ النظر عن أسباب تسريبها ومن يقف وراء ذلك،  فقد كشفت الكثير من النقاط وبصورةٍ تفوق ما يبدو للعيان للوهلة الأولى بما يؤكِّد حقيقة النظام الحاكم في طهران وطبيعة إدارة البلاد. كما ينبِّه إلى أهداف النظام الإيراني الإقليمية، وما يلوح منها في الأفق، ورغم كل مساحيق التجميل التي يستخدمها لمخادعةِ العالم، قد يكون ما نراه منها ليس سوى رأس جبل الجليد.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية