هل ستولِّي إيران الأدوات البراجماتية الأولوية تجاه الساحة العراقية؟

https://rasanah-iiis.org/?p=30947

على خلفية توقيع السعودية وإيران الاتفاق في بكين في العاشر من مارس 2023م، لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، تداولت الأوساط الإعلامية العالمية تقارير عن إصدار تصاريح رسمية لشركة تابعة لـ«الحشد الشعبي» المدعوم من إيران، في دلالة قد تشير إلى احتمالية أن تولِّي إيران الأدوات البراجماتية والسيطرة الأولوية في ساحات النفوذ عامةً، والساحة العراقية خاصةً، خلال المرحلة المقبلة، بطُرُق وأساليب تستفيد من تغيُّرات المرحل. لكن التساؤل المطروح: ما الدوافع الإيرانية المُحتمَلة؟ وهل يعني ذلك تراجُعًا إيرانيًا عن الأدوات الأيديولوجية في ساحات النفوذ؟ أم أنَّ إيران قطعت شوطًا طويلًا في الجانب الأيديولوجي والعسكري وتسعى لتعزيز الجانب البراجماتي؟ وإذا ما استمرَّت في التركيز على البراجماتية، فهل يعني ذلك تحوُّلًا إستراتيجيًا أم تكتيكيًا لاعتبارات التحدِّيات في الداخل والخارج؟

أولًا: احتمالية التحوُّل الإيراني نحو البراجماتية في الساحة العراقية

أثارت موافقة الحكومة العراقية على إنشاء شركة «المهندس»؛ الذراع الاقتصادي لـ«الحشد الشعبي»، تساؤلات كثيرة من المتابعين، حول إمكانية أن تُعطي إيران الأولوية للأدوات البراجماتية في العراق، بعدما أقرَّها رئيس مجلس الوزراء العراقي كشركة حكومية عامة مرتبطة بـ«الحشد»؛ ما يعطيها نفوذًا وشرعية في القيام بأدوار أكبر في الاقتصاد العراقي. علاوةً على إثارة مخاوف تتعلَّق باحتمالية تكرار تجربة شركات الحرس الثوري الإيراني؛ كشركة «خاتم الأنبياء» وتغوُّلها داخل الاقتصاد الإيراني، ومتورِّطة بملفات فساد، فضلًا عن إثارتها أيضًا مخاوف من إثارة مشكلات وعراقيل أمام الاستثمار الأجنبي في العراق، خاصةً الاستثمارات العربية والخليجية، أو حتى تهديد أمن دول الجوار عبر ممتلكات الشركة، والسيطرة والتحكُّم بالاقتصاد العراقي. وقد سُمِّيت تيمُّنًا بالقيادي السابق في «الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس، الذي قُتِل في الغارة الأمريكية، التي استهدفت زعيم «فيلق القدس» الإيراني قاسم سليماني في 03 يناير 2020م.

يحصل «الحشد الشعب» العراقي على مخصَّصات من ميزانية الدولة، قُدِّرت في ميزانية عام 2021م بقرابة 1.6 مليار دولار، ويمتلك شركات من أهمّها شركة «المهندس» المصنَّفة كشركة حكومية عامة خاضعة للرقابة والمحاسبة. ولذلك، من المتوقَّع أن يساهم نفوذ قيادات قوات الحشد في تخفيف الرقابة على الشركة؛ وبالتالي إتاحة مجال للشركة للقيام بأدوار اقتصادية متنامية في الاقتصاد العراقي، عبر شركات كبرى تعمل تحت غطاء الدولة العراقية، ومنافسة القطاع الخاص من جهة، وتوفير موارد مالية إضافية لقوات الحشد.   

ويمكن لشركة «المهندس» زيادة الموارد المالية لقوات الحشد الشعبي، عبر عدّة طُرُق، أبرزها التهريب الحدودي مع دول الجوار، وعلى رأسها إيران وسوريا، مستفيدةً من سيطرة «الحشد» على منافذ شرعية وغير شرعية، وفرض رسوم على التجارة المارة عبر الحدود، علمًا أنَّ العراق هو أكبر مستورد للبضائع الإيرانية في المنطقة، بما تجاوز 9.5 مليار دولار العام الماضي. هذا علاوةً على حصول الشركة على مناقصات في عقود المقاولات، ومشروعات إعادة الإعمار. وهناك اتّهامات لـ«الحشد» بفرض رسوم خاصة على الشركات، والأعمال، والاستثمارات المحلية والخارجية.

وتتشابه هذه الأدوار مع الأدوار الاقتصادية، التي قامت بها شركة «خاتم الأنبياء» بإيران في بدايتها في الثمانينات، ثمّ نمت بعد استحواذها على الشركات العامة المخصخصة في أواخر التسعينات ومطلع الألفية، إلى أن أصبحت حاليًا عملاقًا استثماريًا يعمل في مجالات البناء والتعدين والطاقة والصناعة، وغيرها من المجالات داخل وخارج إيران، وتتمتَّع بحماية الحرس الثوري، الذي يمكن أن يتدخَّل بالقوة للدفاع عنها، إذا ما تعرَّضت مصالحه الاقتصادية للخطر، مثلما فعل وعرقل افتتاح مطار الخميني عام 2005م، اعتراضًا على إزاحة الشركة من مناقصة تطوير المطار. وبالتالي؛ فسيناريو تكرار تجربة «خاتم الأنبياء» في العراق يظل احتمالًا ممكنًا، ناهيك عن ضياع موارد كبيرة على الدولة العراقية، التي تعاني من أوضاع اقتصادية ومالية متأزِّمة.

أمّا عن التأثيرات على دول الجوار، فعلاوةً على عرقلة الاستثمارات الأجنبية القادمة إلى العراق بوجود كيانات اقتصادية نافذة داخل الدولة، كشركة «المهندس»، فهناك قلق على أمن بعض الدول، بعدما تمّ منح الشركة مساحات أراضٍ كبيرة للغاية، وفي مواقع إستراتيجية بالقرب من الحدود السعودية-العراقية، والتي يمكن أن تستخدمها الميليشيات العراقية المقرَّبة من إيران في تهديد أمن دول الجوار.  

ثانيًا: الدوافع المُحتمَلة لإمكانية التحوُّل الإيراني تجاه البراجماتية

قد يقِف وراء إيلاء إيران الأولوية للأدوات البراجماتية في المرحلة المقبلة، عدّة دوافع رئيسية خلّفت أزمات معقَّدة، جعلت النظام الإيراني يعيد ترتيب أوراقه وحساباته، وليس بالضرورة أن يعني ذلك لجوء إيران إلى إيقاف تفعيل نشاط الأذرع العسكرية، وإنما ستظلّ تعمل، لكن بطريقة مغايرة أقلّ نشاطًا مع التلويح به عند الحاجة. وفيما يلي أبرز الدوافع المُحتمَلة، إذا ما استمرّت إيران في التوجُّه للأدوات البراجماتية في الساحة العراقية:

أ. إدراك ضرورة تحسين العلاقات مع الدول الخليجية: تدرك إيران أنَّ بوابة تحسين علاقاتها مع الدول الخليجية عامة والسعودية خاصة، للمساهمة في إنهاء حالة العزلة والحصار، تتمثَّل في الانتقال من التركيز على الأدوات الأيديولوجية والعسكرية -التي حصلت من خلالها على أوراق ضغط أمنية وعسكرية كبيرة على القرار الأمني العراقي- إلى التركيز على البراجماتية؛ حيث تستطيع إيران من خلال الأدوات النفعية، الانفتاح على القوى والنخب الوطنية الساعية إلى إرساء دولة بمفهومها السيادي والاستقلالي والعروبي، خاصةً في الساحة العراقية، وهذا ما يفسِّر دعوة إيران مؤخَّرًا لمصطفى الكاظمي لزيارة إيران، على الرغم من انتهاء فترة رئاسته للحكومة العراقية، باعتباره كان داعمًا بشدّة لإرساء مسار الدولة.

ب. الرغبة في التخفيف من وطأة الأزمات الاقتصادية: يأتي ذلكضمن إستراتيجية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي المتمثِّلة في الدبلوماسية الاقتصادية، وتعزيز العلاقات الاقتصادية لإفقاد ورقة العقوبات الاقتصادية جدواها، وتحييدها في التأثير على الداخل الإيراني، ومسألة تحسين العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار، لكن ذلك يصعُب في الوقت الراهن، في ظل إيلائها الأولوية للأبعاد العسكرية، التي تسبَّبت في احتدام علاقاتها الصراعية مع الدول الخليجية، خصوصًا السعودية ما فاقم من أزماتها الاقتصادية والمعيشية، ومن ثمَّ ارتأت ضرورة الأدوات البراجماتية في ساحات النفوذ؛ لجلب عوائد مالية تخِّفف من وطأة أزماتها، بما يحدّ من ديمومة انطلاق الاحتجاجات الشعبية من ناحية، ومواجهة الرغبة والمساعي السعودية لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بالعراق من ناحية ثانية.

ج. الانتقادات الدولية الواسعة للعسكرة الإيرانية الخارجية: تواجه إيران حملة انتقادات إقليمية ودولية واسعة على تأسيسها ورعايتها ودعمها لأذرع مسلحة موالية لها في ساحات النفوذ؛ بقصد تمرير سياساتها المذهبية والتوسُّعية في المنطقة العربية، لما يؤدِّيه ذلك من خلق صراعات مذهبية وسياسية واسعة أرهقت هذه الدول وقسَّمتها وجعلت بعضها ضمن عداد الدول الهشّة، وخلقت منها تربةً خصبة للجماعات الإرهابية، وأهدرت ثرواتها ومواردها على نحوٍ هدَّد حالة السِلْم والأمن في الشرق الأوسط، وأعاق في كثير من الأوقات حركة التجارة الدولية ومرور ناقلات النفط في ممرّات العبور الدولية؛ ما أسهم بدوره في الاستجابة للمساعي السعودية العالمية لتضييق الخناق على إيران، بما يؤدِّي إلى ثنيها عن العسكرة وتدمير الدول الوطنية المستقرة. لذلك؛ رُبما تكون السيطرة الاقتصادية وسيلةً بديلة للسيطرة العسكرية مرحليًا.

د. بناء هيكل اقتصادي مشابه: رُبما تسعى إيران لدعم هذا التوجُّه لـ«الحشد الشعبي»؛ بغرض خلق نظام اقتصادي وتجاري متشابه للنظام الإيراني يمكن التعامل معه بسهولة، بجانب ربط مصير الاستثمار في العراق بنظيره الإيراني؛ لسد الطريق على الاستثمارات الأجنبية، وبهدف إبقاء العراق تحت التأثير الإيراني.

وختامًا، تفيد المعطيات السابقة بأنَّ التحوُّلات الإيرانية، ترجِّح توجُّه إيران نحو التركيز على البُعد البراجماتي في سياستها الخارجية، خصوصًا في الساحة العراقية، لاعتبارات تتعلَّق بمسألة العُزلة والحصار وأوضاعها الاقتصادية والمعيشية الصعبة، والتبدُّل في السياسة الوطنية العراقية، وخطوات تقارُب العراق مع السعودية ودول الخليج، التي من المُحتمَل أن تُحدِث تحدِّيًا للدور الإيراني في العراق، لكن إذا ما نظرنا إلى مرتكزات وثوابت النظام الإيراني (مركزية الإيديولوجيا وفقًا للدستور الإيراني نفسه)، ندرك أنَّ أيّة تحوُّلات لصالح الأدوات البراجماتية المُتعارف عليها في العلاقات الدولية، قد تكون مرحلية لا تعكس تحوُّلات إستراتيجية كبرى يجريها النظام الإيراني في سياساته الخارجية؛ لأن الطبيعية الأيديولوجية تشكِّل مرتكزًا جوهريًا في بِنية وهيكل النظام في إيران، وكذلك لا بد من إدراك أنَّ الأبعاد البراجماتية، التي ستُقدِم عليها إيران لا تعني -في العقلية الإيرانية- إقامة علاقات ثنائية بمنفعة متبادلة، كما هو معهود في العلاقات الدولية، وإنما يُتوقَّع إمكانية أن تطوِّع إيران الأبعاد البراجماتية؛ لخدمة أغراضها المذهبية والتوسعية أيضًا، وينبغي التنبُّه لمثل هذه التحوُّلات.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير